حلقات يومية يكتبها القاضي محمد الباشق / لا ميديا -
في الزوايا خبايا، وزوايتنا من منطلق الحديث عن الإحسان من عدة جوانب، ولذا نجد في «سورة البلد»، بعد الحديث عن الإنفاق في يوم المسغبة، ذكر الحق سبحانه وتعالى الحديث من هم الأولى بأن يكون الإنفاق إليهم. ذكر الله سبحانه وتعالى أن يكون المنفق مؤمنا، وبنص واضح، أن يكون الهدف والمقصد هو الله، لله ينفق، لا بدوافع إنسانية كما يزعم البعض، فلا إنسانية بلا إيمان، وما قيمة الإنسان إلا بالبذل والعطاء مع حاجة إليه ضرورية؟! وصف الحق حالهم بقوله: «على حبه». مع ذلك لأن الإيمان راسخ كان العطاء هو الموقف المتجذر، وليس حسب الظروف، بل تخضع الظروف للإيمان، الذي يحتم -بلا تردد وبلا هوى- لله، ويا له من شرط ما أعظمه! ويا لها من عظمة تتجلى في أحلك الظروف! وبعظمة هذا الشرط كان الوصول إلى البقاء خالدين في دار القرار؛ لأن لديهم يقينا تاما، مهما طال المدى في الدنيا، أن يستمروا على هذا النهج، لله يعطون، وطلبا لرضاه ينفقون، وأن الثبات على هذا المنهاج ظواهره شاهدة، فمن أين أتينا؟ وإلى أين نذهب؟ ولماذا خُلقنا؟ وكيف نتصرف بما أعطانا الله؟ كل هذه الأسئلة التي حيّرت الفلاسفة وظهرت بشأنها النظريات والمدارس الفلسفية والفكرية والمذاهب والمشارب الكلامية فإن منهج القرآن ألا تكون للإنسان أي حيرة في معرفة من أين؟ وإلى أين؟ وما بينهما من الأسئلة التي أشرنا إلى بعضها، فنجد الحق ذكر قصة الخلق في «سورة البقرة»، وذكر الله قصة الاستخلاف وحاله لفرد كالأب الأول، وحاله عندما يكون لأمة، وعندما يكون لأسرة، وذكر الله قصة الخلق وربط الإنسان من منطلق مفتتح «سورة النساء» بالكون كله، فخالق الذرة والمجرة وخالق الكون أوجد الإنسان من عدم، وجعل له مصيرا إلى الله، متى ما أراد أن يخلق خلق، ومتى ما يريد أن يحيي أحيا، ومتى ما يريد أن يميت أمات، والإنسان لا يملك إلا أن ينقاد لله، فمن لم ينقد طوعا كان انقياده كرها، «وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون». يا لها من آية! ينبغي لكل تال لكتاب الله أن يقف عندها بعمق تفكير وطول تدبر، فليس لمخلوق أن يخلق نفسه أو يختار زمانه أو يعيِّن من يكون والداه أو يعيِّن بلده أو نوعه أو جيناته، فالكل أسلم لله ابتداء وانتهاء، في كل لمحة ونفس، وليس للإنسان سلطان على نبض قلبه ولا على رحلة أكله ولا على تحرك شرايينه وحجم وعدد كريات الدم البيضاء والحمراء في دمه، وليس له أن يعيِّن حركة يومه وفق ما يخطط له، فلا يملك حركة الزمن ولا يمتلك حتى جوارحه، فالله يملك السمع والأبصار ويملك كل شيء، ولا يتحكم الإنسان في تحديد لحظة الخروج من الدنيا، إنما هو رهين بعمله، إن أطاع فليحمد الله، وإن عصى فليعد إلى مولاه، إن أطعنا فلله الحمد والمنة، الذي كلما رأيت وده زدت منه قربا، لأنه إن أغدق عليك الرضا ومنحك القبول وفقك للتلذذ بطاعته والتنعم بذكره والحب له، «والذين آمنوا أشد حبا لله»، حبا يجعله ينتج النفع، ينفع الخلق، لا يضر ولا يفكر في مضرة أحد، وجهاده لله رضا لا انتقاما ولا لهدف بشري، بل لله يعطي، ولله يجاهد، ولله ينطلق ويخرج مستشعرا عظمة قول الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه وآله: «كما أخرجك ربك من بيتك بالحق»، فيخرج عن كل ظروف واقعه لله.
وهنا أذكر تحرك الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)، الذي خرج لله في زمن كان فيه الخروج البشري تعلوه المصالح الذاتية والمطالب الدنيوية، والبعض بل الكثير من البشر للمطالب الدونية. ولأنه لله خرج، أخرج الله مكنون الإخلاص الذي في حنايا نفسه وداخل مشاعره، ليكون حُجة على كل قاعد وعلى كل باحث عن الأعذار ومتلحف بالتبريرات وكل متحدث بفهم قاصر وباحث عن شبهات من الثقافات المغلوطة. أما من امتلأ إيمانا بالله وثقة في وعده وخوفا من وعيده، كحاله رضوان الله عليه والأخيار المستشهدين بين يديه، فقد اختاروا لأنفسهم القرب من الله، فلا مبالاة بغضب من يغضب من البشر، فغضب البشر وإن تعاظم فهو إيصال للبعد إلى الخلود، لأن البشر إن غضب واستخدم البطش وقتل المخلص الناصح كحال من قال في «سورة ياسين»: «يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين»، قتلوه ليسكتوه وليستمروا على باطلهم. وهو استشهد فصار حياً، فتمنى أن يعرفوا أن ما أرادوه له من موت صار عليهم الموت وعليهم السكوت وله الحياة والنطق، وأي منطق ونطق؟! إنه المنطق الحسن، فقد أحسن الله له رزقا، ومن الرزق جمال المنطق: «يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين».