تسفي برئيل
ترجمة خاصة:زينب صلاح الدين / لا ميديا -
صحيفة «هآرتس» العبرية

في إسرائيل -على عكس مصر- مسألة ولاء الجيش للدولة غير مشكوك فيها؛ لكن في الوقت الحالي بعد أن انضم جنود الاحتياط الإسرائيليون 
إلى الاحتجاجات الرافضة للإصلاح القضائي حان الوقت لإعادة اختبار علاقة الجيش مع الحكومة.
في آب/ أغسطس 2008 قبل ثلاث سنوات من اندلاع ثورة الربيع العربي في مصر، احتشد مئات الناس في شارع قصر العيني في قلب القاهرة خارج البرلمان المصري. وهناك شوهد دخان كثيف يتصاعد من البناية القديمة، وكانت النيران قد وصلت بالفعل إلى النوافذ، وشقت سيارة إطفاء وحيدة طريقها ببطء إلى المبنى المشتعل، وتبعتها أخرى ثم أخرى.
أخرج الناس الذين احتشدوا عند التقاطع هواتفهم الخليوية، وبدؤوا يوثقون الحدث، فصرخ أحدهم: «اتركوا المبنى يحترق!»، وآخر نادى رجال الإطفاء: «قودوا على مهلكم!»، وصرخ ثالث: «يللا، كل أدلة فسادهم تحترق». سألت رجلاً شاباً يقف ويلتقط الصور: «في النهاية هو مقر ممثلي الشعب، ممثليكم، لماذا لا تذهبون للمساعدة؟». أجابني: «هو ليس منزلنا. البرلمان ملك للحكومة، وهم من افتعلوا الحريق كي يتلفوا كل أدلة الفساد».
قبل أسبوع من ذلك الحدث كتب مجدي الجلاد، رئيس تحرير صحيفة «المصري اليوم» المستقلة، مقالاً يقول فيه إنه التقى ثلاثة شبان متعلمين وطرح عليهم سؤالاً: «ماذا سيحدث إذا احتلت إسرائيل سيناء مرة أخرى؟ هل ستحاربون من أجل الوطن؟». أجاب أحدهم على الفور: «نعم»، وآخر بالسرعة نفسها: «لا»، وقال ثالثهم إنه يجب عليه التفكير بشأن ذلك. وكتب جلاد: «وطلبت من الشخص الذي أجابني بـ لا أن يوضح سبب رفضه؛ فقال إن المواطن يذهب للحرب من أجل الدفاع عن وطن يشعر بأنه وطنه وأرض يشعر بأنها ملكه وبلد يقدم له الدفء والأمان وحكومة تحقق العدالة والمساواة».
ليس من الصعب ملاحظة التشابه بين هذه الإجابات وبين ما تسمعه أو تراه مكتوباً من قبل ضباط وجنود يريدون مواجهة الانقلاب القضائي الذي يجري داخل الكنيست.
قبل أربعة أشهر من احتراق البرلمان المصري في 6 نيسان/ أبريل 2008، اندلع أحد أكبر الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في عهد الرئيس حسني مبارك، حيث بدأ آلاف العمال بمدينة المحلة الصناعية الكبرى في دلتا النيل إضراباً شاملاً احتجاجاً على تدهور الأوضاع المعيشية للعمال في المصانع الحكومية. واشتبكت الشرطة مع المضربين وضربتهم، وبحسب شهود عيان أنها أطلقت عليهم الرصاص المطاطي.
لم يكن هذا هو أول إضراب في المنطقة الصناعية الرمادية، التي غالباً ما تغطى بسحب الدخان المنبعثة من المصانع العملاقة. لكن في هذه المرة انضمت إلى الاحتجاجات النقابات وأحزاب المعارضة ونشطاء حقوق الإنسان والشباب.
قام مجموعة من الناشطين الذين انضموا إلى الاحتجاجات بإنشاء مجموعة أساسية منظمة غير حزبية تسمى «حركة 6 أبريل». وبعد ثلاث سنوات أصبحت إحدى أهم الجماعات المساندة لثورة الربيع العربي.
في العام نفسه دشن الناشطون نوعاً جديداً ومبتكراً من الاحتجاج؛ نوعا ما كان ليكون موجوداً لولا الإنترنت، ودعوا إلى إضراب عام؛ لكن دون النزول إلى الشوارع. ونشروا: «ارتدوا ملابس سوداء وابقوا في المنازل، لا تذهبوا إلى العمل». أوضح المنظمون أن ما من مبرر لمواجهة الجيش والشرطة، الذين كانوا أقوى منهم. لم يكن الإضراب بذلك النجاح الكبير؛ إلا أنه قدم أداة جديدة للمتظاهرين، وشجع على التضامن الاجتماعي، الذي ازدهر فيه الفضاء الثوري وتطورت منه قيم الثورة.
لقد كان الوعي العام الجديد الذي ظهر غير مألوف بالنسبة للحكومة. كان النظام مقتنعاً بفكرة أن العامة لا يملكون الشجاعة ولا القوة لتحديه. وبالتالي تعامل مع كل المتظاهرين وتظاهراتهم بشكل روتيني، باعتبار أن ذلك مجرد «غضب من مجموعة فوضويين» و«مثيري شغب تمولهم هيئات أجنبية من مصلحتها زعزعة الاستقرار في البلد». لكن هذا الوعي الشعبي ازداد وتعمق وأدى في النهاية إلى الحدث الأكثر زخماً في ميدان التحرير، في 25 كانون الثاني/ يناير 2011، وتظاهرات مليونية في القاهرة ومدن مصر الكبرى.

اختبار الولاء
خلال الأيام الأولى للثورة، التي بدأت بعد 10 أيام من المظاهرات في تونس التي أجبرت الرئيس زين العابدين بن علي وزوجته الجشعة ليلى طرابلسي على ترك البلاد، كان لايزال الرأي السائد: «مصر ليست تونس. ما حدث هناك لن يحدث هنا».
هذا الرأي كان مبنياً على «الحقيقة المطلقة» التي بموجبها كان الجيش المصري وفياً للرئيس ولن يسمح بأن ينهار النظام. ثم انهار هذان الأساسان. فأصبح الجيش حامياً للمتظاهرين من هجمات بلاطجة وشرطة مبارك، الذين تم إرسالهم إلى ميدان التحرير، وأعلن المجلس العسكري المؤقت، الذي تأسس بعد سقوط مبارك في 12 شباط/ فبراير، أن «الجيش والشعب كيان واحد».
لا يمكن مقارنة وضع الجيش خلال الثورة في مصر بالتصدعات التي ظهرت في العلاقات بين جيش إسرائيل وحكومتها. في مصر يمثل الجيش سلطة عليا فوق القانون إلى حدٍّ كبير، ومُحصَّن من الانتقاد والرقابة العامة. ويُعدّ الجيش سياسته الخاصة، ويوجد نظامٌ للولاء المتبادل والشكوك البنيوية بين الحاكم والعسكر. لكن -كما في إسرائيل- الجيش في مصر هو «جيش الشعب»، والخدمة إجبارية، ورفضها يؤدي إلى العقاب والنبذ. في عام 2011 اتضح أنه في الاختيار بين الولاء للرئيس أو الولاء للشعب اختار الجيش الشعب.
لا يوجد لإسرائيل تجربة سابقة في الانقلابات العسكرية مثل مصر وتركيا، والتسلسل الهرمي ما بين الجيش والحكومة غير مرن وغير قابل للتفاوض. لكن هذا الترتيب المتين بالتحديد هو الذي يمنع تسييس الجيش الذي يخلق كل تصدع وكل احتجاج أو تمرد، مثلما أن مشاركة المحافظين في التظاهرات يمكن أن يشهد بداية شقاق.
في كل مرة كانت تبدأ فيها التظاهرات في البلدان العربية كان يطرأ السؤال الجوهري والوجيه: «هل الجيش موالٍ للنظام؟». في إسرائيل ليس فقط أن هذا السؤال لا يطرح، بل إنه لا يمكن تخيله حتى، على الأقل في الوقت الحالي؛ لأنه كما هو الحال في مصر حيث تم تحطيم عدد من النماذج التي أوجدت «بيئة آمنة» حافظت على التوازن المحلي للقوى، تواجه إسرائيل أيضاً إعادة فحص أسسها، بما فيها الفصل العميق الجذور بين فروع الحكومة وديمقراطيتها الفريدة وعلاقاتها بين الجيش والحكومة.

مشكلة الإعلام
الثورة في مصر وفرت للمجال العام فترة قصيرة من حرية التعبير تلاشت حتى قبل صعود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، وتبددت تماماً منذ أن تم انتخابه رئيساً. ولكن خلال هذه الفترة القصيرة من الحرية النسبية كان من الممكن تحديد مشكلة الإعلام بوضوح. بالنسبة لليوم الذي سبق سقوط مبارك كانت وسائل إعلام الدولة تقف بشكل كامل وبعزم إلى جانب الرئيس والنظام، حيث نددت مقالات «النار والكبريت»* (كتبها كبار المعلقين) بالمتظاهرين وقللت من حجم المشاركة الشعبية في المظاهرات، واصفة إياهم بالمجرمين والفوضويين.
في 26 كانون الثاني/ يناير، بعد يومين من اندلاع المظاهرات الكبرى، كتبت صحيفة «الجمهورية» أن «المتظاهرين أغلقوا الطرق وأثاروا الشغب في ميدان التحرير». قال رئيس التحرير إن أفرادا من الـ»محظورين» (أي الإخوان المسلمين) كانوا من بين 10 آلاف متظاهر، ورشقوهم بالحجارة ودمروا المنشآت. وفي 12 شباط/ فبراير، يوم استقالة مبارك من منصبه، بقيت الصحيفة تنشر رسماً كاريكاتورياً يصور المتظاهرين بأعناق طويلة ويبحثون عن كاميرات التلفزيون.
ولكن بعد يوم واحد فقط من الإطاحة بمبارك تغيرت النبرة كلياً. فكان العنوان الرئيسي في الصحيفة نفسها: «شمس الحرية تشرق والمليونيرات يسقطون». ومنذ هذا اليوم انهالت الصحيفة بالانتقادات على النظام القديم، ووصفت الثورة بأنها «ثورة الوفاء الحقيقية». وقال رئيس تحرير صحيفة «الأهرام»، الناطقة بلسان النظام، في مقابلة بعد شهرين، إن «الصحيفة منذ البداية دعمت مطالب الثورة وطالبت باستقالة مبارك حتى قبل إعلان استقالته بفترة». بالطبع كانت هذه كذبة. وبشكل ينكر الواقع الحقيقي للصحيفة فترة حكم النظام السابق قال: «لقد اختطف النظام «الأهرام» لغاياته الخاصة، كما كانت مصر كلها قبل الثورة. لدينا صحافيون ممتازون، البعض منهم أفسدت الأنظمة السابقة حياتهم المهنية وحولتهم إلى ممثلين للحكومة».
إن أي مقارنة بين صحافيي الحكومة في مصر والناطقين باسم الدعاية الإسرائيلية ستكون خاطئة؛ من حيث الملكية وحرية التعبير أو مجال النقاش الذي يعملون فيه. لكل هذه الأسباب لا يمكن مقارنة جو الإعلام الإسرائيلي بالتركي أو المصري أبداً؛ فلم يسبق أن تم إغلاق وسائل إعلام إسرائيلية في يوم من الأيام لكونها انتقدت الحكومة، والصحافيون لا يُسجنون بسبب آرائهم.
لكن حين يأتي هذا اليوم فإن الاختلاف الجوهري -في الواقع- هو ما سيحرم الأبواق الإسرائيلية من الدفاع ذاته الذي خدم إعلام الدولة المصرية. لم يتم اختطاف الإسرائيليين من قبل الحكومة، ولم يتم تهديدهم بالسجن أو الإسكات، هم تطوعوا للقيام بذلك بشكل حماسي وبتفانٍ وبدون ضغوطات من الحكومة.

إجراء همجي
مرت الثورة في مصر بعملية عميقة وطويلة تضمنت صياغة دستور. وعلى عكس الإجراء التخريبي الذي يستخدمه النظام في إسرائيل لإدخال التغييرات الدستورية من أجل سحق الديمقراطية، تم إنشاء مجلس خاص في مصر في 2012 يضم عدداً كبيراً من المشاركين من معظم الفئات الاجتماعية، وكلف بكتابة الدستور الجديد. وكانت الخلافات حول تكوين المجلس وعلاقة الإسلام بالدولة عميقة وقاسية.
كان السؤال المركزي يدور حول ما إذا كانت الشريعة هي المصدر الوحيد للدستور. بعد إجراء تصويت على أقسام الدستور تم تقديمه كاستفتاء عام شارك فيه حوالى 33٪ من الناخبين المؤهلين، ووافق عليه 68٪ منهم. بعد انتخاب السيسي رئيساً قرر المصريون كتابة دستور جديد، لتصحيح أخطاء الدستور السابق التي تم الاتفاق عليها أثناء حكم جماعة الإخوان المسلمين. وفي هذه المرة أيضاً تم تكليف لجنة خاصة بصياغة الدستور الجديد. وبعد أن أكملت اللجنة عملها، وبعد الكثير من الاختلافات، تم أخيراً عرض الدستور في استفتاء، وتمت الموافقة عليه من قبل 98٪ من الناخبين، بمشاركة 39٪ من الناخبين المسجلين.
كان معدل المشاركة هذا بحد ذاته يمثل مستوى مرتفعا جديدا للاستفتاءات والانتخابات المصرية. خلال العقود الثلاثة التي سبقت الثورة كان الإقبال ضعيفا، ما بين 12٪ و20٪ من الناخبين المسجلين؛ دليلاً على انعدام الثقة الشعبية كلياً في هذه الاستفتاءات، التي كان الهدف منها في الغالب تقديم شرعية شعبية للنظام.
على غرار إسرائيل، وعدت الحكومة المصرية (الإخوان المسلمين ثم السيسي) بأن الدستور الجديد سيحمي حقوق الأقليات وحرية التعبير والديمقراطية المبنية على المساواة. لكن ذلك لم يحدث.
لكن حتى النظام المصري غير الديمقراطي لم يجرؤ على القول بأن فوزه بغالبية الأصوات في الانتخابات سمح له بإنشاء دستور جديد دون عرضه على العامة في استفتاء. هكذا تصرف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في المرتين اللتين قام فيهما بتعديل الدستور؛ واحدة في العام 2010 والثانية في العام 2017، وفاز بغالبية الأصوات بنسبة 58٪  مقابل 51٪ من الأصوات على التوالي.
ليس لإسرائيل تقليد «الاستفتاء»، وسيكون من الأفضل عدم الاحتذاء بنموذج الإنجازات الدستورية لمصر أو تركيا، حيث تكون المحاكم العليا والدستورية خاضعة للرئيس - ولو بشكل غير مباشر. لكن هذا بالضبط هو المكان الذي يكمن فيه التحذير الوامض الخط الذي يقود من ثورة الربيع العربي إلى الربيع الإسرائيلي. إن الإجراء العدائي الذي تتم من خلاله الموافقة على تغييرات النظام القانوني في إسرائيل يمهد الطريق لنتائج مشابهة لتلك المشهودة في البلدان الأخرى من الإقليم.

«النار والكبريت» 
تعبير اصطلاحي في الكتاب العبري يشير إلى غضب الله.