فيليب جيرالدي*
ترجمة خاصة:نشوان دماج / لا ميديا -
لم تكن المسيرة السلمية، التي خرجت الأسبوع الماضي في واشنطن تحت شعار الغضب ضد آلة الحرب، تفتقر إلى متحدثين يستنكرون سياسة النفاق الخارجية لإدارة بايدن، التي ترى في الأساس أن أي عمل عنيف من قبل الولايات المتحدة وأصدقائها يعتبر بحكم التعريف جيداً، في حين أن كل شيء يتم القيام به من قبل منافسين أو منافسين -عادة ما يشار إليهم باسم «الأعداء»- يعتبر «شراً».
في السياق الحالي للصراع بين أوكرانيا وروسيا، حيث تشن الولايات المتحدة حرباً بالوكالة، تمكن المتحدثون من الاستشهاد بالقائمة المثيرة للإعجاب للتدخلات المسلحة الأمريكية في جميع أنحاء العالم ومقارنتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فلا روسيا ولا أي دولة أخرى يمكن أن تضاهي الولايات المتحدة في شهوتها المسعورة للحرب، فالصراعات نادرا ما تعكس مصلحة قومية حيوية حقيقية أو تهديداً أجنبياً وشيكاً. فإذا أضيف إلى ذلك أكثر من 800 قاعدة عسكرية أمريكية حول العالم وميزانية دفاع متنامية أكبر من ميزانية الدول التسع مجتمعة، بما فيها الصين وروسيا، سيحصل القارئ على فكرة عن المشكلة الحقيقية: أن الولايات المتحدة أصبحت أمة يمكن وصفها في أحسن الأحوال بأنها دولة حرب. هناك مبلغ غير متناسب من أموال دافعي الضرائب يذهب إلى هناك، والفساد المصاحب يعني أن الطبقة السياسية المدللة والمحمية وذات الأجور الجيدة تستعد لخوض «حرب أخرى»، الأمر الذي بدوره يدعم المذبحة بأغلبية ساحقة.
*
العديد من المتحدثين أشاروا إلى المشكلة الحقيقية، وكذلك وسائل الإعلام، التي سعت ذات مرة إلى فضح أكاذيب الحكومة وخداعها ولكنها أصبحت الآن شريكاً مع البيت الأبيض في تزويق وترويج الروايات المفضلة. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن هذا المنفذ الإعلامي ديمقراطي بشكل ساحق من حيث الملكية والانتماءات، لدرجة أنهم تواطأوا في جهود تسمية دونالد ترامب ورفاقه بأنهم «عملاء روس».
*
أحياناً تكون أفضل طريقة للترويج لوجهة نظر معينة هي الصمت، أي بعدم مشاركة قصة أو متابعتها. لم يتم الالتفات إلى مسيرة السلام الأسبوع الماضي تقريباً، رغم أن من بين المتحدثين عدداً من الشخصيات العامة المعروفة، بمن فيهم ثلاثة أعضاء سابقين في الكونجرس. أيضاً، تم نشر تحقيق «سيمور هيرش» الذي بحث ووثق بعناية قيام الولايات المتحدة بتدمير أنابيب نورد ستريم، وهو ما يكمن وراء إنكارها المنطقي لعملية سرية نفذتها في سبتمبر الماضي، باستثناء إشارة مقتضبة إلى التقرير في صحيفة «واشنطن بوست»، لم يتم التطرق إليه عملياً من قبل وسائل الإعلام الرئيسية.
تجاهلت الكثير من الصحف في اليوم الأول، عند انفجار الأنابيب، الخط الاستقصائي الواضح الذي توعد به البيت الأبيض سابقاً من أنه «سيفعل شيئاً ما» لوقف «نورد ستريم»، وأن لديه الوسائل والدافع لتنفيذ تهديده. فبعد أن أصبح «تقرير هيرش» معروفا، وسعت روسيا إلى جلسة استماع مع البروفيسور جيفري ساكس وضابط وكالة المخابرات المركزية السابق راي ماكغفرن، وحظيت بهم كشهود أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لبدء تحقيق في الأمر، تجاهلت وسائل الإعلام الأمريكية التقرير في نشرة أخبارها المسائية، كما لم تتابعها في اليوم التالي أو بعده.
*
وهكذا اختفى تقرير مهم يتعلق بجرائم حرب ارتكبت ضد كل من روسيا الخصم وألمانيا حليفة الناتو، وهو التقرير الذي كان من شأنه أن يؤدي إلى نشوب صراع نووي، لكن الولايات المتحدة وآلة الدعاية الخاصة بها لم تنته بعد. البيت الأبيض نفى بشكل متوقع أي دور في تدمير خط الأنابيب، وحاولت نائب الرئيس كامالا هاريس قلب الحقائق بإعلانها في مؤتمر ميونيخ للأمن أن روسيا هي المذنبة بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية». وزعمت قائلة: «أولاً، منذ الأيام الأولى لهذه الحرب غير المبررة، شهدنا ارتكاب القوات المسلحة الروسية فظائع وجرائم حرب مروعة. لقد قاموا بهجوم واسع النطاق ومنهجي على السكان المدنيين؛ أعمال قتل وحشية وتعذيب واغتصاب وترحيل. مثل الإعدام والضرب والصعق بالصدمات الكهربائية. رحلت السلطات الروسية قسرا مئات الآلاف من الأشخاص من أوكرانيا إلى روسيا، بينهم أطفال. فصلوا الأطفال بقسوة عن عائلاتهم».
*
خلصت هاريس إلى أنه «يجب علينا» الاستمرار في «دعم أوكرانيا بقوة... طالما كان ذلك ضرورياً!» تجدر الإشارة إلى أن هاريس لم تكن قادرة على تأمين حدود الولايات المتحدة الفعلية لأكثر من عامين، لذا فإن «المدة التي تستغرقها» قد تمتد إلى خمسينيات القرن الماضي، في رأيها. كما أنها ليست معروفة تماماً بقدرتها على تمييز ما هو حقيقي وما هو غير ذلك. ربما أرادت تتبيل قصتها بالمزاح قائلة إن فلاديمير بوتين وحكومته لديهم ليالٍ متأخرة للتفكير في الفظائع الجديدة التي يمكن أن يرتكبوها.
ضاعف جو بايدن تعليقات هاريس بعد أيام قليلة في خطاب ألقاه في وارسو بعد عودته من التقاط الصور في كييف مع الرجل الذي يحبه، فلوديمير زيلينسكي، حيث أعطى الممثل الكوميدي الصغير نصف مليار دولار أخرى من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين وتعهد أن الولايات المتحدة لن تستسلم أبداً حتى هزيمة روسيا. وعلق لزيلينسكي بشكل مبالغ فيه إلى حد ما أنه بعد عام من القتال «ها هي أوكرانيا تقف. وتقف الديمقراطية. ها هم الأمريكيون يقفون إلى جانبك والعالم يقف إلى جانبك».
*
قبل الـ24 من فبراير بقليل، وهي الذكرى السنوية للصراع في أوكرانيا، أخبر بايدن البولنديين أنها حرب عادلة بين «الديمقراطية» و«الشمولية». لم يؤد «الجشع الجبان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين للأرض والسلطة» إلا إلى توحيد الديمقراطيات حول العالم. «لم تكن أوكرانيا وحدها التي تم اختبارها. بل واجه العالم كله اختباراً للخلود.. والأسئلة التي نواجهها بسيطة بقدر ما هي عميقة: هل ستكون لدينا ردة فعل؟ أم سننظر في الاتجاه الآخر؟ وها نحن بعد عام قد عرفنا الجواب. لقد قمنا بالرد. يجب أن نكون أقوياء، ويجب أن نتحد، ولا ينبغي للعالم أن ينظر في الاتجاه الآخر.
*
زيارة بايدن إلى كييف كررتها مجموعة من أعضاء الكونجرس الجمهوريين الذين سافروا إلى أوكرانيا في اليوم التالي للقاء زيلينسكي في قصره الرئاسي، مما يثبت أن الافتتان هو من كلا الحزبين. يتساءل المرء إذا كان هناك مايزال شخص ما «في وطننا» يحاول تخفيف بقعة السموم الهائلة التي تهدد بابتلاع أوهايو؟ وقد يتساءل: من أين تأتي الحكومة الفيدرالية الأمريكية بهؤلاء الحمقى؟ وهل الرقص على أنغام صراع كان من الممكن التفاوض عليه، وجعل العالم على شفا حرب نووية من شأنها أن تدمر الكوكب على الأرجح، هو «اختبار للخلود»؟ ومن يدفع ثمن هذه المغامرات غير المجدية من قبل الكونجرس؟ الشيء السيئ هو أن هذا ليس هو الحال في أوروبا الشرقية فقط. حيث تتعاون الولايات المتحدة حالياً مع فرنسا في ما يبدو أنه تدخل عسكري آخر في هاييتي التي لاتزال غير مستقرة، وبالطبع فإن الصين هي أيضا في مرمى النيران.
*
ثم هناك مايزال لدينا الشرق الأوسط، حيث تستفيد إسرائيل من الالتزامات «الحديدية» وخطاب «روابط واشنطن غير القابلة للكسر». فعندما تقول إسرائيل «اقفز!»، يسأل نظام بايدن فقط «إلى أي مدى؟». وبما أن وسائل الإعلام تتجنب أي تغطية استفزازية للدولة اليهودية، فكم من الأمريكيين يا ترى يعرفون أن سفير جو بايدن الصهيوني في إسرائيل، توم نيدز، قد أعطى للتو الضوء الأخضر لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لمهاجمة إيران، مع دعم الولايات المتحدة للعملية؟ قبيل انعقاد مؤتمر رؤساء المنظمات الأمريكية اليهودية الرئيسية في القدس الأحد الماضي، قال نيدز إن «إسرائيل تستطيع وينبغي عليها أن تفعل ما تريده (في ما يتعلق بإيران) ونحن نقف وراء ذلك».
وهناك خطوات سابقة في هذا الشأن، حيث هاجمت إسرائيل سوريا مراراً وتكراراً دون تعليق من واشنطن، حيث تتمركز القوات في ذلك البلد لسرقة النفط السوري. كما لم تعترض واشنطن عندما أغار الجيش الإسرائيلي على مخيمين فلسطينيين الشهر الماضي، مما أسفر عن مقتل 10 و11 مدنيا على التوالي وإصابة أكثر من 100 آخرين. وبعد أن هاجمت إسرائيل منشأة دفاعية في إيران في 29 يناير، ألمحت إدارة بايدن للصحفيين بأن الهجوم الإسرائيلي كان جزءاً من «جهد مشترك» جديد من جانب واشنطن وتل أبيب لكبح طموحات طهران النووية والعسكرية، وخلق الأساس لما سيكون هو التالي. هذا التحول أوضحه وزير الخارجية توني بلينكن في اليوم التالي، لكنه لم يبد أي انتقاد أو قلق بشأن إمكانية زعزعة الاستقرار للعمليات الهجومية، ناهيك عن إدانتها. وبدلاً من ذلك، دافع عن الهجوم الإسرائيلي، قائلاً: «من المهم للغاية أن نواصل التصدي واتخاذ الإجراءات عند الضرورة لأعمال إيران المختلفة في جميع أنحاء المنطقة وخارجها والتي تهدد السلام والأمن».
*
يُظهر تعليق نيدز أنه لا يعرف من الذي يثير المشاكل في الشرق الأوسط. كما يؤكد أن البيت الأبيض سوف يدعم الإسرائيليين حتى لو كان هناك عمل عسكري إسرائيلي يضر بشدة بالمصالح الأمريكية. لا ينبغي أن يكون هذا مفاجئاً لأي شخص، حيث إن كبار المسؤولين الثلاثة في وزارة الخارجية هم من اليهود، وكذلك كبار المسؤولين في جهاز الأمن القومي، ورئيس الأمن الداخلي، ومدير المخابرات الوطنية، ونائب مدير وكالة المخابرات المركزية، ورئيس أركان الرئيس. كما أن التحول في السياسة، والذي هو قيد المناقشة، يمنح إسرائيل الضوء الأخضر لمهاجمة الأهداف الإيرانية مع الإفلات من العقاب. صرح نيدز كذلك بأن الولايات المتحدة ملتزمة بحرمان إيران من امتلاك أسلحة نووية، وهذا يعني أنها إذا اعتقدت أن مثل هذا التطور وشيك فمن شأنها أن تقوم بتدمير المنشآت المستخدمة لتصنيع أو تخزين الأسلحة. كما ذكر أن الولايات المتحدة لن تدخل في مفاوضات محتملة مع إيران، طالما أنها تبيع الأسلحة لروسيا. على الرغم من أن نيدز ليس لديه مشكلة في قتل الأطفال الفلسطينيين بحرية، إلا أنه يكون أكثر صلابة بعض الشيء عندما يتورط الفرس بطريقة ما: «الإيرانيون يزودون روسيا بطائرات بدون طيار وتقتل هذه الطائرات الأوكرانيين الأبرياء. اليوم ليس لدينا فرصة للعودة إلى طاولة المفاوضات».
*
ماذا لدينا إذن؟ هل يتذكر أحد الاقتباس الشهير المنسوب إلى رجل الدولة البريطاني اللورد بالمرستون: «الأمم ليس لها أصدقاء أو حلفاء دائمون. لديهم فقط مصالح دائمة». لا يبدو أن للولايات المتحدة حتى أي مصالح تتجاوز الاستسلام لمختلف الناخبين والجماعات التي اشترت أو سيطرت خلسة على النظام السياسي ووسائل الإعلام. لذا فإن الجمهور الأمريكي، الأقل أماناً والأقل ازدهاراً اليوم مما كان عليه في أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية، يُترك في الظلام بشأن ما يهمه ويُكذَب عليه بشأن كل شيء تقريباً. هذا هو السبب في أننا في أوكرانيا نقف على شفا الدمار، فنحن عبيد لأصحاب النفوذ الذين يكرهون روسيا ويفضلون إسرائيل على جميع الدول الأخرى. لن يكون للدوران ضد آلة الحرب فائدة تذكر ما لم نتمكن أولاً من معرفة من يخدعنا، ثم نبني على ذلك الشجاعة لوضع حد لها. قد تكون نقطة البداية الجيدة هي قطع العلاقات الحالية مع كل من أوكرانيا وإسرائيل، ثم إعادة قواتنا إلى الوطن من أي مكان تقريباً. والأفضل من ذلك، تقديم مسؤولي إدارة بايدن، الذين بدأوا حرباً غير قانونية بتدمير «نورد ستريم»، إلى العدالة وسجنهم جميعاً. نعم، ليذهب كل واحد منهم إلى السجن دون إطلاق سراح مشروط، بدءاً من المغمغم بايدن نفسه.

 فيليب إم جيرالدي، دكتوراه، 
ضابط استخبارات أمريكي متقاعد، المدير التنفيذي لمجلس المصلحة القومية، وهي مؤسسة تعليمية معفية من الضرائب.