تأملات في تطور الفكر السياسي العام
- تم النشر بواسطة علي نعمان المقطري / لا ميديا
علي نعمان المقطـري / لا ميديا -
يقصد بالفكر السياسي العام ذلك الاهتمام الفكري الذي يستهدف قضايا الدولة والحكومة وإقامتها وإدارتها وإسقاطها وحفظها والفوز في الصراع من أجلها. ويتطور الفكر السياسي نتيجة تطور النشاط والممارسة السياسيين في البلاد وفي العالم، فهو يأتي ملحقاً بحركة المجتمع السياسية وانعكاساتها على الوعي السياسي والفكر السياسي بصفته المرآة التي تنعكس في حقلها جميع المتغيرات والنزاعات والحركات والمجريات التاريخية والفكرية السياسية التي تستهدف السلطة والفوز بها واستهدافها.
والفكر السياسي لا يمثل اتجاها واحدا بمفرده، بل هو يعكس كافة الألوان الفكرية المتصارعة والمتجاذبة (المتفاكرة والمتثاقفة) التي تتفاعل في الحقل السياسي الفكري للمجتمع. ويتطور الفكر السياسي من خلال ذلك التفاعل وتجاذب أطرافه. وقد يسمى هذا المجال بالحقل الأيديولوجي أيضاً، أي حقل الصراع الفكري للمجتمع، وفيه نجد كل التناقضات ونظرياتها وأفكارها ونزعاتها ونزاعاتها متجاورة، فلا تظهر إحداها إلا بظهور الأخرى، ولا تتنامى أيهما إلا من خلال نزاعاتها مع الأخرى وإظهار نواقصها وتناقضاتها وقصورها وعرض بدائلها ونتائجها. وقد أوضحنا أن الفكر السياسي العام يشمل جميع تناقضات مكوناته وألوانه المختلفة. هذا جانب. والجانب الآخر للموضوع هو أن كل طرف من أطراف النزاع الفكري يتحزب بدوره لصالح طرفه الذاتي الذي يمثله في الفكر السياسي، حيث يتبنى وجهة نظر واحدة مهما ادعى أنه موضوعي ومعتدل، فالفكر لا يعرف الوسطية والاعتدال حقيقة، وإنما يتبنى فكرة محددة لا تقبل الازدواجية والتثنية والشيء ونقيضه. وبقدر ما يبدو الفكر السياسي موضوعيا وعموميا إلا أنه في جوهره متحزب، فهو يمثل وجهة نظر جماعته الاجتماعية التي ينتسب إليها ممثلوه الفكريون، مهما حاول الظهور بمظهر الاعتدال والموضوعية. وهذا هو الفارق الأساسي بين الفكر السياسي وبين العلم السياسي أو الفكر والعلم.
فالعلم السياسي هو نظريات عامة وخلاصات تجريبية وعملية لقواعد الحكم وبحوث حول تاريخ الدولة وأساليب الحكم وإدارة الحكومة والسلطة والقواعد التي بها يمكن ضمان استقرار الحكم بشكل عام، بغض النظر عن نوعه وطبيعته وشكله والآليات والأشكال التقنية والعملياتية التي تتحقق عبرها الأهداف العامة للسياسة.
أما الفكر السياسي فيعني المذهب الفلسفي الاجتماعي للسياسة، ويعني أهدافها وغاياتها والقاعدة الاجتماعية التي يخدمها الفكر ويبرر مصالحها ودعواتها ويسوغها وينافح عنها في مواجهة أعدائها وخصومها. ومن الفكر السياسي العام، ومن تراكم الخبرات السياسية العملية، ومن القواعد التي اكتسبتها حركة الصراع السياسي واغتنت بها الممارسة الواقعية والنظرية، تتكون الطريقة التي يتم بها التعاطي مع التطورات والأحداث، وطريقة التحليل التي بها تقييم الأحداث، وتعطى قيمها وأهميتها واتجاهاتها ومآلاتها، وتترسخ الأساليب المميزة التي تؤطر الأحداث والمجريات العامة وتستوعب النتائج وتقترح المشروعات والبدائل والبرامج، وتحدد المهام والأولويات السياسية والتحالفات السياسية، وتحدد طبيعة المراحل التاريخية والصراعات الرئيسية والثانوية الأهم، فالمهم في كل مرحلة من المراحل.
العقلية السياسية وتكونها التاريخي
إن العقلية السياسية في أي بلد تتكون كنتاج وخلاصة لتطوراته وتاريخه البعيد والقريب، وللأساليب التي تراكمت في ثقافته وأثر الظروف التي أحاطت به والتحديات التي واجهته خلال مسيرته، وطريقته في التعاطي معها، والنتائج المحققة سلبا وإيجابا. ويقصد هنا نخبته العليا التي تحتكر الثقافة والمعارف وتعممها للعامة والمتلقين، وتنعكس في الفكر والأدب والفلسفة والحكمة الشعبية والأيدولوجيات والتشريعات.
والعقلية السياسية هي مجموع القواعد الفكرية التحليلية للمجال السياسي، والنظريات التي تفسره وتستوعبه وتعبر عنه وترسي القيم الفكرية السياسية التي تقف كمعيار عام تقاس به الظواهر والإسهامات والاتجاهات والمواقف والأفكار الجديدة التي تشاد عليها روح الدولة والحكم والعلاقات الاجتماعية البديلة المتخيلة والمنتظرة وآفاقها، كما تقام عليها حدود الفكرة السياسية السائدة وأهدافها المحددة ونطاقها التاريخي وغاياتها الكبرى.
والعقلية السياسية في النهاية هي نتاج الثقافة السياسية والفكر السياسي والفلسفة السياسية ومنطقها التحليلي العام الراسخ وخبراتها التطبيقية. وهذا ما تكشفه التجارب العالمية المعاصرة والمؤرخات القديمة على السواء. وهناك تلازم مستديم بين طرفي العملية المشتركة، فالتجربة السياسية تلازم الثقافة السياسية وتصاحبها وتنيرها بنتائجها وتثريها باستمرار، والفكر السياسي يستخلص من خبراتها النتائج العقلية والمنطقية والحتميات والقواعد الأساسية لبلورة مبادئ السياسة بكل جوانبها في نظريات ورؤى وتحليلات واستنباطات واستدلالات توجه منطق المعرفة والممارسة والنشاط السياسي وتنظيماته وأصوله وإقامة مشروعاته المستقبلية.
ويرتبط الفكر السياسي بالفلسفة السياسية التي توفر له النماذج والأطر والمفاهيم التي تمكنه من التفكير المفهومي المجرد بعيدا عن تفاصيل وتكرارات المشكلات السياسية الاجتماعية التي لا تنتهي ولا تكتمل ولا تسمح وحدها بالتفكير التأملي المعرفي المفهومي النموذجي والمنطقي والإيجابي الجلي الصافي الضروري لكل رؤية واضحة للمستقبل.
ويرتبط الفكر السياسي وفلسفته بالمشروع (الدولتي) المطلوب إقامته بناء على الفكرة النظرية المطروحة أمام المجتمع في لحظة معينة من التاريخ الوطني والقومي والإنساني. كما يرتبط ذلك بمفهوم الدولة المطلوبة النموذجية وبطريقه إدارتها ووسائلها وإقامتها في إطار أوسع يستوعب أشواق الجماعة الإنسانية والروح الخلاقة التي تحركها نزعة العدالة والواجب والسعادة والإيمان.
الصراع بين المشاعة والدولة
كان شكل التنظيم الاجتماعي القديم هو القبيلة المشاعية المشتركة القائمة على شراكة الدم والتاريخ والأرض ومصادر العيش والحياة. وقد استمر هذا التنظيم الاجتماعي المشترك رغم التطورات التي أصابت البشرية وحياتها وتنظيماتها، والتاريخ البشري هو تاريخ تحولات هذه المؤسسة الاجتماعية الأصلية، أي القبيلة القرابية القائمة على وحدة الدم والتاريخ والأرض، وأدت الرأسمالية الغربية المتوحشة وقبلها الإقطاعية والعبودية إلى قيام مجتمعات أوروبية غربية (غير متجانسة) منقسمة إلى ملاك أحرار وعبيد وأقنان، وهذا ما يميز تطور تاريخ الغرب منذ ثلاثة آلاف عام تقريبا، وقد استمر طابع العبودية والقنانة والسخرة واستعباد الفلاحين والحرفيين والعاملين حتى القرن الماضي.
وطوال القرون اختلطت الجماعات المستعبدة التي كونت أغلبية الشعب في كل البلاد الأوروبية، فقد اندثرت المجموعات النخبية للسادة النبلاء من بقايا العنصر القبلي القديم مع الثورات والانتفاضات الفلاحية والحرفية والبرجوازية المدنية التي أهم أهدافها كان إزالة نظام الإقطاع والاستعباد، والمساواة بين الطبقات في الحقوق والواجبات واعتبار الناس مواطنين أحراراً لا رعايا تابعين لغيرهم، وأعلنت الجمهورية كنظام للحكم في فرنسا أولاً، ثم في أغلب القارة الأوروبية، وانتشرت الفكرة الجديدة بسرعة مع انتشار المطابع وانتقالها إلى عوالم أخرى كانت جامدة، وخاصة مع الثورة الصناعية العلمية.
كانت حركة النهضة وعصرها نهاية لعصر السيطرة الإقطاعية والدينية الزائفة، ونمواً لمطالب التفكير الحر والاستقلال عن القوى الاستبدادية المتعددة في الاقتصاد وفي العقيدة، وخرجت إلى الوجود فكرة إصلاح الدين وتجريده من التدخل في الشؤون العامة، ومنح الإنسان الحق في اختيار عقائده الدينية والفكرية والدنيوية ووضع القوانين والدساتير وشرائع الحقوق وجعلها قابلة للتبديل والتعديل والتغيير والتطوير، أي نفي القداسة القديمة عنها.
هكذا ظهرت البروتستانتية في مواجهة المذهب الكنسي الكاثوليكي المركزي السلطوي الإقطاعي الغربي القديم الذي كان مذهب الإمبراطورية الرومانية الغربية، والذي كان مسيطراً على وعي الإنسان في جميع المجالات، يراقبه طوال الوقت ويختبر ويفتش عن عقائده وانحرافاته ويتجسس عليه وعلى إيمانه ويحاكمه ويحرقه إذا وقع في أية أفكار "شيطانية" كما يفهمها الكاهن الكاثوليكي الرسمي الذي كان يتحسس من كل عبارة تشير إلى عدم عدالة النظام الطبقي القائم أو تشكك في حكمته أو تدعي رواية سردية جديدة عن الكون والطبيعة وقوانينها، مختلفة عما أفتى القساوسة والكهنة الملوكيون في مؤتمراتهم ومجامعهم المقدسة، فهي "هرطقة نجسة" يعاقب صاحبها؛ يحرق أو يسجن ويحرم ويعذب، وتلك هي الظروف التاريخية التي واجهت الإنسان الأوروبي الشعبي في ظل الاستبداد الإقطاعي والعبودية الطبقية.
الاستبداد الديني والحكومي معاً
الحكم بأيدي أمراء، وملوك الكنيسة الكاثوليكية المركزية هم المفتون، والفقهاء وهم الأمراء النبلاء والقادة والملوك، وهم المثقفون الرسميون للدولة والبوليس والمفتشون والقضاة ومدراء المحارق والمقاصل والمشانق... ونتيجة لتلك السياسات الاستبدادية الدينية الزائفة التي ابتليت بها أوروبا طوال ألف عام، بحث الناس عن عقيدة بديلة تتناسب مع تطور الشعوب ووعيها ومطالبها وتطلعاتها، فاتخذت البروتستانتية وأشباهها عقائد بديلة اعتمدتها في إطار المسيحية الأوروبية كما وصلت إليهم عبر بولس الرسول في القرن الرابع الميلادي.
وفي هذه الأجواء البغيضة القاسية شك الإنسان بكل العقائد الدينية المختلطة، وابتدع لنفسه فكرة جديدة أبرزها كان الإلحاد ونكران النبوات السماوية أو الإيمان الرباني بدون واسطة إنسان آخر، كل هذا الشقاء كان نتيجة للاستبداد باسم الدين وباسم الله، ونتيجة لذلك خرجوا إلى العلمانية وعدم تدخل الدين بالمجتمع والدولة وعزل الدين عن التربية والثقافة والتعليم والتربية، وجعله مجرد أمر شخصي، وتلقفت العقائد المعادية للأديان ومؤسساتها الفكرة ورمت بثقلها كله إلى جانبها لتجعل النزاع ضد الدين أبديا ودائما وليس مجرد مراحل مرتبطة بدين مزور وانحرافات، بل هي الحالة الخالدة الثابتة الطبيعية. وهناك في الغرب كان المعادل الموضوعي لذلك هو إحلال دين المال والرأسمال والمنفعة المادية الصرفة محل جميع الأديان والعقائد السماوية التي حوربت إلى أقصى حد.
أي نوع من الدول تريد؟
هذا واحد من أهم من الأسئلة التي على الفكر السياسي أن يجيب عليها سلفا قبل أي تحرك عملي للتطبيق، فالبناء على الأرض يسبقه بناء واضح في مستوى العقل والفكر السياسي والتأمل النقدي المبني على تحليل التجارب والخبرات السابقة ودروسها السلبية والإيجابية وتحديد نقاط الضعف المطلوب تجنبها ونقاط القوة المطلوب البناء عليها والمحافظة على ميراثها.
وترتبط الثقافة بالعقيدة الدينية السليمة كمخزن ممتد واسع للفكر الإنساني ونوازعه وجمالياته وصبواته ونفراته ومستقبحاته ومعاييره تجاه الأشياء والتصرفات والسلوكيات والأخلاقيات والإحساسات والمباحات والمحرمات، وتقيم التجارب بناء عليها وتقاس بها وتوزن، باعتبارها (أي العقيدة) هي القوة الحاكمة للعقل والفكر، التي تمده بروح لا يجدها في جمود الحياة، وهي مصدر عظيم للإلهام والإبداع والخلق والمبادرة والنهضة والقيم الأخلاقية الإيمانية التي تعطي المشروع الإنساني روحه وقيمته الخلقية ومعناه وغاياته النبيلة، وبدون هذه القيم لا يعود للمشروع الإنساني قيمته ولا لمشروع الدولة القادمة معناه.
بالطبع يمكن لدول أن تقوم بدون هذا المعنى الأخلاقي السامي النبيل الذي نطرحه، ولكنها لا استمرارية لها ولا حظ طويل في البقاء والاستمرار، ولا تحقيق غايات الإنسانية المكافحة الأغلبية، بل تصبح استبداديات شمولية مالية للأقليات الضيقة تخدم غاياتها الاجتماعية وتتصادم مع غايات الأغلبية العظيمة من الأمة، ولا بد أن تقود إلى الصراعات المحتمة العنيفة كالحرب الأهلية أو الاحتلالات الأجنبية أو التدمير الذاتي الذي يمسحها من خارطة الوجود الإنساني الحقيقي لحقبة قد تطول من العذاب والخراب.
ولما كان الإنسان مجبولاً على البحث عن السعادة العامة والسعي لتحقيقها وتنظيمها في إطار مشتركات دولتية تحقق السعادة البشرية العامة، فإنه مضطر إلى السير تدريجيا من الأشكال البسيطة للتنظيم إلى الأشكال المعقدة والمركبة للتنظيم الاجتماعي الكثروي الذي يتطابق مع حقوق ورغبات الإنسانية الكاثرة.
كانت الدول القديمة قد عرفت شكلين من الدول: أولهما: اليونانية الغربية العبودية الإقطاعية الرأسمالية الإمبريالية الشيطانية الشريرة الجوهر، وتدخل في إطارها جميع التنظيمات الدولتية الأقلوية الارستقراطية الاستبدادية الفاسدة، وفيها تندمج جميع النماذج التي سُمّيت إسلامية ومسيحية، وهي بعيدة كل البعد من حيث جوهرها عن الحقيقة. وثانيهما: الدولة التعاونية القبلية التشاركية الديمقراطية البسيطة الرضائية الإنسانية الاجتماعية التكافلية، وهو المثال اليمني العربي الإسلامي (المحمدي العلوي) المديني التشاركي الديمقراطي الشعبي المباشر البعيد عن تحكم أهل الثروة والقوة ومحتكريها والجبابرة المتغلبين القاهرين، وتدخل في إطاره جميع الدول التي عرفت بقسط من العدالة الاجتماعية والمساواة والشعبية والتشاركية في التاريخ.
البحث عن السعادة السياسية
منذ نما الوعي الإنساني السياسي عبر التاريخ الطويل الممتد وهو يبحث عن النموذج الإيجابي الذي يحقق آماله وغاياته وصون حريته وسعادته وسلامه وحقوقه وأمنه وازدهاره، عبر الأشكال التي اختبرها في التاريخ، وعبر الإبداع الذي ألهمته عقائده ودياناته السماوية الحقة الأصيلة. وكما قلنا فإن الإنسانية قد قدمت هذين الشكلين الكبيرين للدول حيث تذوب في باطنهما جميع الأشكال الجزئية التفصيلية الأخرى.
استنتاجات هامة
يوصلنا هذا البحث إلى عدة نتائج هامة، هي: أن تجربة الغرب بكل تنوعاته وأشكال تطوره التاريخي القديم والحديث والجديد لا تقدم لنا الأشكال الإنسانية العادلة المطابقة لمصالح الغالبية الشعبية الإنسانية في أي من أشكالها وتنوعاتها، فكلها تؤول إلى معنى مشترك واحد، هو خدمة الأقلية المالية المحظوظة المحتكرة الباطشة القاهرة لأغلبية الناس، حتى أكثرها ليبرالية سياسية انتخابية صورية وأكثرها حريات فكرية وكلامية وتعدديات فلسفية وتعبيريات مختلفة، وكلها لا تعني سوى مصالح الأقلية الثرية التي لا تشكل إلا نسبة ضئيلة لا تتجاوز الواحد في المائة من السكان فقط، وأمريكا وأوروبا مثالان صارخان على تلك الحقيقة.
استنتاجــات هـامــــة
يوصلنا هذا البحث إلى عدة نتائج هامة هي:
1 - أن تجربة الغرب بكل تنوعاته وأشكال تطوره التاريخي القديم والحديث والجديد لا تقدم لنا الأشكال الإنسانية العادلة المطابقة لمصالح الغالبية الشعبية الإنسانية في أي من أشكالها وتنوعاتها، فالولايات المتحدة والغرب منذ قرنين أو ثلاثة ما انفك يكرر فلسفته الكلامية عن العدالة والحرية والحقوق الإنسانية وعن التقدم العام والرفاه العام، وكلها طنطنة كلام لا نتيجة حقيقية لها سوى الفراغ والوهم والمسرحة التي لا تتوقف ليل نهار عن الحرية والعدالة والقانون، وكلها أوهام في أوهام، فالنتيجة الحقيقية هي ما تعكسه بيانات وأرقام الاقتصاد والمجتمع ومكوناته وتناقضاته وإشكالياته التي لا تجد لها حلولا من خلال الحملات الانتخابية المتواصلة، فكل حزب يكرر ما فعله من قبله ولا يستطيع إنجاز أي قدر من الشعارات المرفوعة، يذهب حزب ويأتي الحزب الآخر دون تغيير حقيقي في الواقع، وإنما المزيد من الدعايات والإعلام والصحف والمؤسسات الإعلامية الجديدة ويتكرر الكلام القديم نفسه والضلال القديم نفسه. وتسألني: كيف لا يحصل أي تقدم حقيقي وهم يعيشون ويستمرون ولو بالحدود الدنيا، ويواصلون السيطرة على العالم وعلى شعوبهم وأممهم؟!
نعم يفعلون ذلك، ولكن كيف؟!
إنهم ينهبون العالم كله بأساليب معقدة جداً، أهمها البنوك والربا والإقراض والاقتراض والاستعمار والاحتلال للدول والشعوب الأخرى الضعيفة واستغلالها وخداعها ونهبها، أي أنها تعيش على ممارسات الحرام في الحرام، وكان الاستعمار وما زال، الجديد والقديم منه، أهم الأشكال للسيطرة الغربية على العالم وعلى نظامه الاقتصادي والسياسي. إن اللوحة الاجتماعية الاقتصادية للحالة الأمريكية الراهنة تظهر مدى انهيار الوضع الاقتصادي الاجتماعي الثقافي الأمريكي.
النهب هو دين أمريكا والغرب
إن أمريكا الدولة تستدين من الدول الخارجية الغنية ومن المصادر الداخلية للمجتمع مبالغ مهولة لا يمكنها إعادتها إلى أصحابها، فهي أقرب للنهب منها إلى الدين الحقيقي، نهب مغلف باسم الديون المستحيلة، نهب تريليونات الدولارات، حيث يبلغ الدين العام للدولة الأمريكية أكثر من 70 تريليون دولار، ويبلغ العجز السنوي للحكومة وموازنتها أكثر من 1.5 تريليون دولار سنويا، أي أنها تنفق على إدارتها أكثر مما تكسبه بمبلغ 1.5 تريليونا سنويا، والعجز المالي يرتفع سنويا بالزيادة دون توقف منذ سبعينيات القرن الماضي تقريبا، وقد باعت ذهبها خلال حرب فيتنام لشراء الطائرات والأسلحة والغواصات والأساطيل، ولم يعد لها ما يغطي عملتها الورقية النقدية الدولار.
إنها تنهار اقتصاديا بشكل مهول وفاجع. أما مجتمعها فهو شبكة من المصائب والفجائع، وهناك لديها المخدرات والسرقة والمافيات والجرائم والقتل والاقتحام والاغتصاب والعنصرية بأعداد يومية هائلة وبملايين الحالات، وهناك حسب الأرقام الموثقة من قبل إدارتها الرسمية أن العاطلين وصلوا العام الماضي إلى 70 مليون عاطل عن العمل، والمدمنين على المخدرات قد تجاوزوا الـ100 مليون مدمن أمريكي، وهم في ازدياد وارتفاع، أما الدعارة والرذيلة والشذوذ والمثلية والانحراف والتحلل الأخلاقي فهو طاغٍ وفظيع، وتشجع عليه الدولة نفسها وتدعو إليه، والرئيس الأمريكي نفسه يظهر كمدافع كبير عن تلك الانحرافات الشيطانية التي تنهش في جسد المجتمع الأمريكي والغربي عامة، الذي تواصل الماكينة الإمبريالية تدمير هويته الأخلاقية والقيمية والدينية والإنسانية ووعيه ويقظته، فهي تخشى صحوته ويقظته، هي تخشى انتباهه إلى حقيقة حياته وأوضاعه، ولذلك من خططها أنها تشجع على الرذيلة والمخدرات والتحلل والفجور والغرائزية المجنونة ومعاداة الدين والخلق والأسرة والأخوة الإنسانية.
2 - إن الشكل الأموي العباسي العثماني الملوكي للدولة هو امتداد للشكل الروماني الكسروي الإقطاعي العبودي الاستبدادي للدولة الملكية الدكتاتورية القائمة على القوة والغلبة وحدها والطبقية المالية المناقضة للإنسانية وللروح الإسلامية والمسيحية الحقة على السواء، ولذلك فإن إشكالية تحرر المسلمين والعرب مازالت مرتبطة بقضية تحريرهم من الأشكال الاستبدادية الاستعبادية الملونة بالدين، وهو براء منها، وهي امتداد للتجربة الغربية التغريبية الاستبدادية المالية اللاإنسانية، ورفض الغرب الاستبدادي يعني رفض كل محتويات الاستبداد الرأسمالي الاستعبادي تحت أي اسم كان، ويجب العودة إلى الأصول الحقة التي نجدها في تاريخ الإسلام الحنفي النقي الذي شيدته إبداعات عظماء رجاله ومؤسسيه الأساسيين الأوائل، وأهمهم النبي الكريم ووليه ووصيه وخليفته من بعده، وجميع تلاميذهما وأتباعهما بإخلاص، كما كان ينبغي أن يكون، لا كما حدث في الواقع الأليم المنحرف الذي حاربهما حرباً شعواء من قبل عصبية المال القرشي الاستعبادية الفاسدة التي أرادت تحريف كل مآثرهما وتزويرها واجتثاثها من الوجود بشتى الحيل والأساليب والأكاذيب والإغراءات والإفساد والعنف والحروب الناعمة والقاسية التي مازالت مستمرة بعد ألف وخمسمائة عام.
3 - لا يمكن تحقيق النموذج الإنساني للدولة والحكم إلا عبر النموذج الأقدم والأكثر أصالة الذي صمد أمام انتقاد الزمن والتاريخ والعصور، وهذا النموذج هو النموذج المحمدي الإسلامي العلوي الحق، الذي يقدم المعالجات الفعلية لمشكلات البشرية الإنسانية بشكل واضح وصارم، وهذا النموذج له خصوصياته التي استقاها من تاريخه وطبيعته وأصوله، وأبرزها أنه ثوري ديمقراطي شعبي وإنساني، فهو قد نشأ نتاج كفاح طويل ضد أضداده وخصومه والأطراف الرجعية من المسلمين الطلقاء والمضطرين والمجبرين على الدخول في الإسلام تحت حد السيف، وليس لهم في قلوبهم أية عاطفة أو حب حقيقي أو انتماء للإسلام، والذين كثروا وغلبوا عدديا ونوعيا ونفوذا على الجماعة المسلمة الأصلية بعد الفتوح الكبرى للمسلمين وموت الرسول الكريم وإبعاد الولي الوصي عن حقه بعصبية المال والقبيلة الظاهرة وبعد أن كشف التاريخ وأحداثه الواقعية عن حقائق مذهلة ظلت مخفية عن المسلمين وعما حدث وما استجد وما شجر من نزاعات وانقلابات سياسية واجتماعية في قلب المؤسسة المسلمة وما لحق من ظلم بالمسلمين الأصيلين البسطاء والضعفاء المخلصين وبآل البيت النبوي وبالإمام وآل بيته وأتباعه وتلاميذه الخلص من المهاجرين والأنصار في ظل حكم خلفاء الغلبة والقوة والبطش والخداع وأمراء الجور والمال والضلال وتزوير النصوص، الذين خطفوا الخلافة الراشدة وصيروها إلى قبائلهم وأسرهم وبيوتهم المالية وعصبياتهم الجاهلية.
4 - إن النموذج الإسلامي الإنساني كامن في الإبداع المحمدي العلوي الفاطمي الحسيني الحسني، وفي مساهماتهم العملية والفكرية وحكمتهم وتوجيهاتهم وإنتاجهم الفكري والفلسفي والحكمي والعرفاني والتاريخي، وفي تفسيراتهم وتأويلاتهم القرآنية واستنباطاتهم التشريعية والسياسية والاجتماعية والإنسانية وتجربتهم الثورية في مواجهة الانحرافات "المتأسلمة" وتصحيحها العملي والفكري. ولدينا الواقع التاريخي يكشف عن مسيرة الطليعة العظيمة التي اختطت دروباً شاقة وتحملت تضحيات هائلة فوق طاقة البشر للحفاظ على القرآن والإسلام وأصالته ومكافحة أهل التزوير والطغيان وقد آل إليهم الملك والإمرة والسلطة والخلافة الجائرة والكسروية والطغيان.
أزمة العقل السياسي اليمني وتعثراته التاريخية
لا شك أن أقدم الدول الحضارية قد ازدهرت في اليمن القديم أو "السامية العرباء". ولا شك أن الفكر السياسي قد ازدهر طويلا هناك. وتأخذ البعض الدهشة من هذا القول، ولكنه قول منطقي وحقيقي وتؤكده الشواهد التاريخية الواقعية، فالدولة اليمانية القديمة الأولى قامت في اليمن القديم من خلال الدول العادية والقحطانية والسبئية المعينية والحميرية والقتبانية والأوسانية وغيرها، وهذا موضوع يعود إلى آلاف طويلة من الأعوام الموغلة في القدم، والتي تتجاوز أغلب التقديرات الحالية، ونستطيع متابعة منابعها الفكرية بالعودة لآثارها ومنطوقاتها الفكرية والنصوصية التي انطوت عليها أحجارها وثقافتها الباقية ونقوشها ومظاهرها.
ومعنى هذا أن فكرا سياسيا وفلسفيا واجتماعيا عاما قد وجد سابقا وصاحب الدولة الأولى وبناءها وفكرة نشوئها وقيامها وقواعد استمرارها. وقد سبق هذا الفكر ولو بصورته البسيطة وجود الدولة نفسها، وشكل نور هدايتها وحركتها واتجاهاتها، فالدولة تنظيم اجتماعي معقد لا يمكن قيامها إلا بمقدمات تخطيطية فكرية مسبقة بالضرورة، وإلا ظلت مجرد محاولات ساذجة تفتقر إلى العرفان والاستقرار. ولذلك نلاحظ أن الدولة القديمة عندما قامت اعتمدت على رجال الفكر الديني (رجال الدين) والعقائديين والكهنة قبل أن يكونوا ملوكا وأمراء ورؤساء وروادا لشعوبهم وأممهم وقبائلهم وموجهين لهم وحكماءهم وأصحاب المعارف الباطنة والظاهرة فيهم ومحتكري الحكمة وأسرارها.
فالفكر السياسي كان مقدما على قيام الدولة ومصاحبا لها دوما. وكان رجال الفكر الديني هم الذين أقاموها، وقبل أن يكون الملك ملكا كان كاهنا أولاً، وكاهنا وملكا في وقت واحد ثانياً، ثم ملكا منفصلا عن الكهانة بعد ذلك، وفي وقت متأخر نسبيا انفصلت وظيفة الكهانة عن وظيفة الملك واستقلت الثانية عن الأولى التي مهدت لها وأوجدتها.
وقد لعبت الارستقراطية القبلية الغنية الدور الحاسم في نشوئها باعتبارها صاحبة المصلحة الكبرى في وجودها. وكان شيوخ وزعماء القبائل قضاة وكهنة ومشرعين ومنظمين اجتماعيين ومصلحين على المستوى المحلي والإقليمي، وقد نما الملك فيها تدريجيا وقطع مراحل من التطور والتغيير، وكانت الإمارة قد ظهرت داخل القبائل الثرية في فترة من الفترات اللاحقة نسبيا، وعندما تنضج قوة القبيلة الكبيرة المسيطرة على الثروة والنفوذ تفرض هيمنتها السياسية وتدمج العشائر الصغيرة داخلها، وجميع الدول القديمة في اليمن خاصة قد ظهرت إلى الوجود كصيرورة لتطور القبيلة الذهبية المتميزة القوية.
تاريخ أوروبا يقول إن القبيلة تحولت إلى دولة عندما انقسمت بين الفقراء والأغنياء، وتحول الفقراء إلى عبيد تحت هيمنة الأغنياء في اليونان القديمة، وأن الأغنياء ملاك العبيد أقاموا تنظيم الدولة العنيف القمعي للحفاظ على خضوع العبيد لصالح مالكيهم الأغنياء، فهي نشأت عندهم كتعبير عن انقسام المجتمع القبلي وتحوله إلى مجتمع طبقي في نصف الألف الأول قبل الميلاد، وكان ذلك هو أول أشكال الدول في أوروبا عامة، وقبلها كانت أوروبا مازالت تعيش طور المجتمع القبلي البدائي ما قبل الدولة وتخضع لحكم وقيادة كبار زعماء القبائل والعشائر، وقد سميت الدولة الغربية بالدولة العبودية، وكانت روما القديمة استمرارا لدولة ملاك العبيد، وكانت المهمة الرئيسية للدولة الغربية هي قمع الفقراء والعبيد وإجبارهم على الخضوع والعمل وخدمة السادة الملاك أو الشيوخ، ومن هنا جاء اسم مجلس الشيوخ الذي يشير إلى النخبة الارستقراطية الحاكمة والمسيطرة والمتحدرة من نبلاء القبائل وأشرافها وسادتها الأثرياء، ومن هنا ظهرت كلمة "نبلاء" و"سادة" للتفرقة والتمييز بين عناصر مختلفة من الطبقات المتمايزة في حقوقها ومواقعها في سلم المجتمع حسب ثرواتها وأرومتها وأصولها.
أما في اليمن القديم وبلاد العرب السامية فإن الدولة نشأت ونمت من جذور أخرى مختلفة عن الجذور الغربية الأوروبية العبودية الطابع، وهي تعود إلى آلاف بعيدة في القدم، ربما تجاوزت العشرة آلاف عام، وهو ما ينطبق على الدول المتفرعة عن الدولة اليمنية الأقدم، كالدولة الآشورية والبابلية والنيلية والقبطية، وكلها كانت جزءاً من الحضارات اليمنية العربية السامية القديمة هاجرت إلى خارجها نتيجة تغيرات مناخية حادة في "اليمن والعرباء" خلال الألف السادس قبل الميلاد وما بعده، وهذا ما تؤكده الشواهد والنقوش والآثار والعلاقات اللغوية والثقافية والعادات والتقاليد.
وتشير المؤرخات والنقوش اليمنية العربية الجنوبية إلى أن الدوافع الرئيسية التي دفعت القبائل والشعوب السامية إلى قيام الدولة في شكلها الأحدث نسبيا، وهي المعروفة بالدولة السامية والعادية والقحطانية والسبئية، هي الحاجة إلى إيجاد تنظيم اجتماعي سياسي بالتراضي بين المكونات الأساسية الكبرى للسكان يقوم بتنظيم الري وتوزيع المياه والحفاظ على وسائل المياه والمنشآت الضخمة لجمع المياه كالسدود والخزانات واستصلاح الأراضي وإعادة توزيع المياه مقابل الضريبة وتجنيد الجند لضمان الأمن.
ولم تعرف اليمن العبودية والسخرة الإقطاعية العامة كشكل سائد للعمل والاستغلال البشري، وإن وجدت العبودية البيتية الخدمية المحدودة من غير العناصر الأصلية من السكان، ولكنها لم تكن المصدر الرئيسي للثروة كما في الغرب. إن مصدر العيش في الشرق العربي كان يقوم على تربية الماشية والرعي والحرف اليدوية والزراعة، ويقوم بها القبائل الأحرار أنفسهم أو يؤجرون العاملين المستأجرين لمساعدتهم، خاصة في الزراعة والأرض والحرف الصناعية المدينية والتجارية، هذا فارق هام وحاسم بين تاريخ الغرب الأوروبي والشرق العربي والشرق عامة.
تاريخ من الأزمات
لقد مر اليمن بالعديد من الأزمات السياسية طوال الثلاثة آلاف عام الأخيرة، وهي الحقبة التي توصف بأنها حقبة تراجعات حضارية كبيرة، حيث كانت الحضارة اليمنية الأقدم في التاريخ قد وصلت إلى مرتقى عالٍ، ثم بدأت تتراجع أسوة ببقية الظواهر التاريخية الأخرى التي يحكمها منطق ثابت جوهره التطور والتراجع، فكل تطور يتبعه تراجع، والتراجع يتبعه حقبة من التطور والتقدم ولو نسبيا. ويمكن القول بأن تاريخ اليمن السياسي الحديث، أي منذ عانت البلاد حالة التراجع الحضاري، فهو مجموعة من الأزمات السياسية الاجتماعية المتلاحقة دون انقطاع، استمرت ومازالت لآلاف الأعوام، مع لحظات من التقدم النسبي تستمر فترة معينة قصيرة ثم تختفي وتعود حالة التراجع من جديد وهكذا، ومنها الأزمات الحديثة والأزمات القديمة. وسوف نركز في الحلقات القادمة على الأزمات الحديثة التي مازالت آثارها وعلائقها قائمة في واقعنا الراهن والحالي ويهمنا معرفتها وبذورها.
الأزمات السياسية الحديثة
هي أزمات تتسم بأنها مركزية، أي أنها تتركز حول النخب الوطنية العليا اليمنية منذ الاستقلال الباكر عن الاحتلال العثماني الأول في مطلع القرن السابع عشر، وتواصلت بعد ذلك لتشمل الحكومة الوطنية والمعارضة السياسية التقليدية. ولا شك أن عوارض الأزمة تتركز في مجموعة من المظاهر الأساسية التي صاحبت تطور الحركة الاستتقلالية لليمن، وأبرزها انقسام الحركة الوطنية التقليدية منذ النشأة.
وقد نشأ هذا الانقسام من واقع انقسام الطبقة الإقطاعية السائدة وفئاتها العقارية الارستقراطية القبلية اليمنية التي تعرضت لانقسامات قبلية وفئوية وعقيدية ومذهبية متأثرة بالتطورات المحيطة بالبلاد، وخاصة في الفترة الإسلامية التي اشتدت وطأتها على المسلمين واليمنيين والعرب نتيجة الانحرافات التي صاحبت ما بعد وفاة النبي الكريم، والصراعات التي تفجرت بين الجماعات المختلفة في الأسرة الإسلامية العربية وصعود العوامل المادية العصبية والقبلية التجارية وتغلبها مرحليا على العوامل الروحية الأخلاقية الفكرية العقيدية والدينية وما صاحبها من صراعات بين الأطراف المتنافسة.
استقطبت الجماعات اليمنية في أتونها، لأنها كانت أكبر وأهم القوى في الميادين السياسية والعسكرية. وكانت كل قوة تحاول أن تستقطبها أو تحاربها وتفتتها إذا لم تستطع استقطابها إلى صفوفها. وفي تلك الفترة كان قد انتفض في أعماق العقليات القبيلية العربية النزوع إلى البحث عن السيادة والإمرة والسيطرة على الحكم وتطويعه ليخدم مآربها وأهدافها السياسية، ولذلك تحولت اليمن والجماعات اليمنية إلى ميادين للمنافسات السياسية الجارية، وخاصة خلال العهدين الأموي والعباسي اللذين انتهيا إلى هيمنة العناصر القومية غير العربية على الخلافة والملك، وتحول العرب إلى مجرد ملحق بالملكية العجمية والملوكية والعثمانية والتركية، مهمشين لا دور لهم ولا قيمة، مقصيين عن المشاركة في الحكم والدفاع عن الإسلام بشتى الوسائل.
وكان ذلك الانحدار قد بدأ بعد وفاة النبي الكريم، بدفع الإمام علي بن أبي طالب عن حقه ودوره، والتمرد على الوصايا النبوية التي شرعت بها ارستقراطية قريش ومتظاهرة بالقوة والعصبية والمال على آل البيت النبوي الذين كلفهم الله بدور حماية الدين والذب عن عقيدته وتطبيق قرآنه وتفسيره ورعاية العدالة بين خلقه ونشر عقيدته. وقد أجبروا على الملاينة أمام عصبية قريش وادعائها أنها تنتمي إلى الإسلام، ولكنها أسلمت الإسلام والمسلمين إلى كارثة عمياء يهرم فيها الصغير قبل الكبير كما عبر الإمام علي في بعض خطبه، ويتحكم فيها الجبابرة ويسود فيها الظلمة وأهل الفساد ويبعد فيها أهل الصلاح والحكمة ويقدم فيها أهل الجور ويضيع فيها الإنصاف والحقوق وتشتد فيها على المستضعفين والعامة الضائقة والقهر وتؤكل فيها الأموال العامة وتحتجز بين القرابات من الأثرياء ويحرم منها الفقراء والمحتاجون وتعطل الحدود وتبطل الشهود، ويعود الأمر والخلافة ملكاً عضوضا وإمرة قاسية تؤخذ بالسيوف والغلبة والقوة العارية الغاشمة وتوهب لمن لا دين له ولا سابقة ولا عهد ولا أشراط ولا كفاءات ولا طاقات.
وفي مواجهة هذا الانحدار الشامل الذي أصاب الأمة العربية والإسلامية كانت العودة إلى أصول الدين الإسلامي والولاية النبوية وآل البيت النبوي هي الملجأ الوحيد الباقي أمام العرب والمسلمين والبشرية. وقد صارت بلادنا نتيجة ذلك الاضطهاد والمصائب التي حلت بالمسلمين والعرب هي مركز تجمع كل المعارضين للاستبداد والانحراف والمتعاطفين مع آل البيت الذين أصابهم ونالهم الكثير من الظلم والقهر من الملوك الأمويين والعباسيين والأتراك وغيرهم الذين تملكوا الخلافة غصبا وغلبة، وهم لا حق لهم فيها ولا أصل سوى البغي والقوة والجبروت.
وقد لعب الاحتلال العثماني والأجنبي بشكل عام على أوتار هذه الانقسامات كثيرا في أوساط الشعب وقبائله، مثلما لعب الاحتلال الأيوبي السابق على أوتارها من قبل بهدف تقسيم الشعب اليمني ومنعه من الاتحاد والوقوف موحدا في وجه التدخلات الأجنبية في البلاد. وقد استغل العثمانيون الشريحة البيروقراطية من الإقطاع اليمني الذي ارتبط مصالحيا بالوجود العثملني الأجنبي للأسف ووظفوه في إدارة الاحتلال وتسهيل وجوده وتقاسم العوائد بينهما، حيث تمكنت من تحييد قسم كبير من الشعب اليمني عن المشاركة في مواجهة العثمانيين والتخلي عن استعادة الدولة اليمنية المستقلة التي كانت قائمة عشية الاحتلال العثماني الأول، وكانت عاصمتها عدن لحج. وتمكن الاحتلال بعد اجتياح البلاد والقضاء على قيادتها غدرا من تكريس حضوره بقوة والسيطرة على كامل الإقليم، لكن المقاومة استمرت، ضعيفة في البداية، حتى انتفضت الأقاليم الشمالية الجبلية القبلية بشكل عنيف بقيادة الأئمة الزيدين من أتباع آل البيت النبوي من الحسينيين بزعامة الفقهاء وشيوخ القبائل من حاشد وبكيل وحمير ومذحج وهمدان في المناطق الشمالية من اليمن التي كانت بعيدة نسبيا عن هيمنة الجنود العثمانيين المطلقة، والتفاف القبائل والشعب كله حول المقاومة ضد العثمانيين، حيث انتقلت المعارك الكبرى مع العثمانيين طوال قرن كامل من الزمن (1535 - 1632)، وانتهت بهزيمة كبرى للعثمانيين في مناطق صنعاء وضواحيها، وتحررت البلاد وأقيمت الدولة اليمنية المستقلة التي عمت إقليم اليمن كاملا من الشمال الأقصى إلى الجنوب والشرق الأقصى في الخليج العربي.
الحرب الأهلية بين المركز والأطراف القبلية الجنوبية
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر تعرضت البلاد لانقسامات وصراعات أهلية عديدة مريرة أدت إلى تدخلات أجنبية وبريطانية قادت إلى خروج مناطق يمنية عن السيطرة المركزية، كان أولها عُمان، ثم انفجرت حرب أهلية بين المركز والقبائل الحميرية اليافعية الجنوبية شملت الأقاليم الجنوبية الشرقية من لحج إلى المهرة وحضرموت، وظهرت ما عُرفت بالمناطق التسع التي أعلنت تمردها على المركز في صنعاء وأعلنت أنها تبع سلاطينها المحليين، وقد اضطر المركز إلى التخلي عنها لسلاطينها المحليين واقعيا بدون توقيع اتفاقيات أو التزامات قانونية محددة. وقد استغل البريطانيون والعثمانيون النزاعات الداخلية لصالحهم، واجتمعت الكتلتان الأجنبيتان المتنازعتان في السابق على اقتسام اليمن بينهما، على أن يكون الجنوب من نصيب البريطانيين، والشمال من نصيب العثمانيين، وترسخ هذا في اتفاقيات لندن عامي 1839 و1840، وهذا مهد للغزو العثماني الثاني لليمن العام 1840، الذي تركز على مناطق تهامة والسواحل الشمالية أولاً، قبل أن ينتقل إلى الجبال بعد ثلاثة عقود، حيث ظلت المناطق الشمالية الجبلية متحررة لفترة من الزمن حتى وصل إليها الأتراك مرة أخرى بعد أن رسخوا وجودهم في السواحل والسهول. وقد ظلت الإمامة الزيدية تتزعم حركة الكفاح الاستقلالي التحرري شمالا استنادا إلى حركة القبائل اليمنية.
استغل العثمانيون الصراع الناشب بين عدة أئمة في المناطق الزيدية الثائرة، فانضم أحدهم -وهو أمام صنعاء- إلى الأتراك عندما ثار عليه الناس والقبائل، واستقوى بهم على بقية المناطق الخارجة على سيطرته، فوجد الأتراك فرصتهم سانحة وتقدموا إلى صنعاء بدعوة منه باسم نصرته واستعادة الشرعية له واحتلوا صنعاء بدون مقاومة، وهذا قاد إلى ثورة شعبية قبلية ضده أدت إلى مقتله وتنصيب إمام جديد ثائر أعلن عنه في مناطق عمران وصعدة وصنعاء وذمار وحجة، ولقي ترحاباً عاماً بين القبائل واستعداداً للقتال لتحرير البلاد من الاحتلال التركي الثاني، بقيادة الإمام المنصور حميد الدين، والد الإمام يحيى حميد الدين، وتواصلت المعارك التحررية طوال 78 عاما، خلال الفترة الممتدة 1840 - 1918، حتى تحقق الاستقلال الثاني في دولة غير مكتملة الجغرافيا، بينما بقي القسم المحتل من بريطانيا في الجنوب تحت السيطرة البريطانية حتى منتصف القرن العشرين بعد ثورتي أيلول/ سبتمبر 1962 وتشرين الأول/ أكتوبر 1963.
لقد بذلت الجماهير الشعبية القبلية كل ما عندها من طاقات كفاحية ذاتية وأموال وقدرات. وكانت الطبقة الزراعية التجارية الوطنية التقليدية الغنية بين القبائل والعلماء والرؤساء والشيوخ والفقهاء والمزارعين والحرفيين هي التي تزعمت الثورة والنهضة الوطنية وقادتها، وعلى رأسها آل البيت النبوي اليمانيون، ولهذا استحقوا التقدير والحماية والاحترام، فقد كانوا هم القوة التي عملت على تلاحم الأمة وقبائلها وفئاتها المتعددة المتنوعة المختلفة المتنافسة وعامل وحدتها وتماسكها ومنحها هويتها الموحدة وتنظيمها السياسي والفكري الموحد الذي استطاع أن ينظم قطاعات واسعة من الأمة في جبهات النضال الوطني الشعبي، وأن يضمن الانتصارات والظفر، ورغم ذلك فإن قسماً آخر من تلك الطبقة الواسعة اليمنية قد وجد نفسه في موضع الحياد والملاينة للاحتلال الأجنبي، ومعه جمد قسم كبير من الشعب اليمني المتواجد تحت هيمنة الاحتلال ومراكزه الساحلية.
إن النخبة الوطنية الإقطاعية القبلية والتجارية كانت مفككة منقسمة من البداية على أساس مذهبي واجتماعي وقبلي وجغرافي، وهذا الانقسام قد جدَّ بسبب التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي اليمني من قبل الدول الإقليمية المجاورة والمركزية، مثل الدولة الأيوبية والعباسية في القاهرة وبغداد، ومحاولة إلحاق اليمن كقطر بتبعية المركز القائم حسب تغير توازنات القوى المحلية والإقليمية في مختلف الدول المؤثرة على الإقليم والبلاد، وكان العصر هو عصر التنازع السياسي الإقليمي والسيطرة العثمانية على بلاد المسلمين والعرب وهزيمتها الأولى في اليمن واعترافها بقيادة الدولة المستقلة مجسدة بالإمامة الزيدية، التي قادت معارك الاستقلال الوطني بعد مائة عام من الاحتلال والكفاح الوطني بقيادة الأئمة ونهضتهم بأكلاف الحرب التحررية الأولى والكبرى اعتمادا على الذات الوطنية اليمنية وحدها دون القبول بأي مساعدة خارجية إطلاقا، وهي حقيقة ثابتة لا لبس فيها. وهذا هو الفرق بين الاستقلال الصعب والاستقلال السهل الذي تحققه النخب والدول، فالاستقلال القائم على الاعتماد الذاتي هو استقلال حقيقي شاق وله أكلافه وقيمته، ويمكن أن يبنى عليه مستقبلا، وأن تشيد على أساسه دولة وطنية مستقلة حقيقية، لا كلمة لأجنبي عليها إطلاقا، وهذا ما نحتاجه دوما لمواصلة نهوضنا الجاد وأخذ مكاننا تحت الشمس كما نستحق وكما نستطيع ونقتدر ونريد.
فلا يمكن تحقيق استقلال حقيقي وناهض إذا اعتمد على الغير ولو جزئيا أو عرضيا، وهذا ما فهمه القادة الأئمة الوطنيون، ولذلك كانوا يعانون من الفقر والإملاق والتقشف وقلة الموارد المالية نتيجة الحرب وتدميرها للبنية التحتية الزراعية للبلاد من قبل العثمانيين على سبيل الانتقام والتركيع، ولذلك كانت خياراتهم السياسية محدودة بعد الاستقلال الأول، وأن ذلك من ضعفهم الإداري والعسكري وعدم استطاعتهم إحكام القبضة على الأقاليم البعيدة عن المركز وإبقاءها في الإطار التوحيدي اليمني الوطني، وهو ما شجع النزعات الانفصالية والانعزالية المدعومة خارجيا وأجنبيا.
ولا شك أن التدخل الأيوبي في اليمن وسياسة "فرق تسد" قد غير الخريطة الوطنية العقيدية الموحدة والمتجانسة سابقاً، وقرّب مذاهب وأبعد مذاهب وقرّب فئات وأبعد فئات أخرى... وهكذا، وفرض مذهبه المنقول معه من مصر (كمذهب رسمي عباسي) على اليمن بديلا عن المذهب القائم فيها وبدون رضا أهلها ولا اختيارهم والموالين في الأساس لآل البيت النبوي بفروعه المتعددة المتقاربة من الإسماعيلي الحسيني إلى الزيدي الحسني. وقد كرس بنو رسول الخط المذكور رغم محاولة منحه رداء محليا، ولم يكونوا إلا عمالا للأيوبيين على اليمن جاؤوا مع السيطرة الأيوبية على اليمن، وهو ما عُرف بالفترة المملوكية نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي وجنوده المماليك.
أزمة الهيمنة والسيطرة على الدولة المستقلة.. من يحرر؟ من يحكم؟ وكيف؟
بعد التحرير الأول في القرن السابع عشر الميلادي فار العديد من المشكلات المؤجلة التي أحاطت بالقوى السياسية المسيطرة والحاكمة، وقادت إلى الاحتكام إلى الحرب الأهلية التي أدت إلى تكريس الانقسام ضد المركز، وعدم استطاعة المركز فرض إرادته على الأطراف القبلية المسلحة وإعادة دمجها في النسيج الوطني بشتى الأساليب والخيارات الضامة وخسارته الحرب وتكبده هزائم ميدانية مريرة تركت آثارا متخلفة من المواقف والحزازات خلقت مشاعر انعزالية سلبية لدى الجانبين وسعها الاستعمار والأغراب وبنوا عليها أحلامهم وأهدافهم، فقد خسر الجانبان الكثير من الأبناء والضحايا، وتركت ندوبا في النفوس أسست لما بعدها من تطورات وتدهورات.
كان البريطانيون والعثمانيون حاضرين يراقبون ويتدخلون وفقا لخططهم، وكانت قبائل يافع الحميرية السلاطينية هي القوة التي قادت الأحداث في الجنوب كله، فقد كانت تسيطر على النفوذ الاجتماعي للجنوب، وكانت هي القوة الذهبية الحاكمة خلال الحكم العامري والدولة العامرية التي كانت قائمة عشية الاحتلال التركي لليمن، ولا شك أن زعماءها كانوا ينزعون إلى المشاركة في الحكم الجديد المستقل بعد التحرير؛ ولكن الحكم الجديد كان مركزيا ولم يجد صيغة مناسبة للمشاركة آنذاك في إطار الحكم المحلي الوطني، فلم تكن قد تطورت الأفكار السياسية الحديثة حول المشاركة واللامركزية في الحكم وحق أبناء الأقاليم في إدارة شؤونهم الذاتية والمحلية والحكم الذاتي للأقاليم والمقاطعات التي تقسم لها الدولة الحديثة، ولا تبقى لدى العاصمة المركزية سوى القضايا الوطنية الكبرى كالدفاع والخارجية والجنسية والتشريع العام والاقتصاد والعقيدة والأمن الوطني والقومي والخارجي والحرب والسلام.
كانت السلطنات التسع أو النواحي التسع في الجنوب هي مقدمة لمؤامرة الانفصال السياسي ودخول الاستعمار البريطاني واحتلال عدن والجنوب من مدخل حماية السلطنات والإمارات المهددة من المركز الحاكم في صنعاء، وهذا كان المدخل الأساسي للاستقواء بالخارج على المركز الداخلي وعلى الداخل، وهو ما فتح الأبواب فيما بعد أمام سياسة التبعية للخارج، فالتبعية للخارج تعكس شعورا بالعجز عن الهيمنة السياسية اعتمادا على ذاتيتها الداخلية الوطنية المحلية وإدراكها أنها لا شك خاسرة للصراع الجاري مع القوى المحلية المنافسة المسيطرة، والمعارضة والاستقواء بالخارج قد فتح الباب دوما للاحتلال الأجنبي المباشر أو بالوكالة، وهو الوضع الذي عانته بلادنا ومازالت تعيشه وتعانيه إلى الآن.
الصراع حول السلطة والاستقواء بالأجنبي باب خراب الدول والأمم
حين تتفاهم وتتعاون وتتحالف قوة داخلية مع طرف خارجي لنصرتها بحق أو بباطل فإن باب خراب الدولة والأمة ينفتح واسعاً أمام الأجنبي الطامع، فقد انتهت كل عملية كتلك في التاريخ باحتلال البلاد حتماً، وهذه تجارب وخبرات عدد من الأمم والشعوب التي وقعت بهذا المأزق فلم تخرج منه إلا بعد حروب طويلة وصراعات ونكسات امتدت قروناً وعقوداً. فاليمن مثلا عندما استقوت بالخارج الفارسي ضد الخارج الروماني الحبشي ماذا كانت النتائج؟!
كانت النتيجة هي هيمنة النفوذ الفارسي الكامل على الدولة في صنعاء وتمزق اليمن كاملا لمدة عشرين عاما، ولولا الإسلام الذي لحقنا بفضله لبقيت اليمن ترزح تحت نير الجور الأجنبي لقرون. وهذه مصر وحاكمها في القرن قبل الماضي استعانت بالخارج البريطاني العثماني ضد القوى الشعبية الوطنية الثائرة بقيادة الضابط المصري العربي أحمد عرابي ضد الهيمنة والتحكم التركي المملوكي الشركسي للضباط الأجانب والمطالبة بخلع الخديوي، فانتهت إلى دخول البريطانيين والأتراك لاحتلال مصر لمدة سبعين عاما من الذل باسم إعادة الحاكم الشرعي إلى حكمه بعد ثورة الشعب عليه، واستمر الهوان لمدة سبعين عاما ومازالت آثاره إلى الآن.
وهذه تركيا العثمانية عندما استعانت بالبريطاني والغربي ضد عصيان محمد علي باشا حاكم مصر الذي هزمها في الميادين العسكرية، واقترب من السيطرة على الأستانة العاصمة، استعانت بالأجانب من النصارى والكفار، وقدمت لهم التنازلات كلما طلبوا بعد ذلك، حتى أفنيت من الوجود كإمبراطورية وفتحت أبوابها أمام الأفكار العلمانية والإلحادية والتحللية الإباحية والفساد الغربي والتحلل الأخلاقي الغربي وإزالة الخلافة الإسلامية الأخيرة الكبرى التي كانت تحمي كرامة المسلمين وحقوقهم العامة في وجه أطماع الأجانب، رغم استبداديتها الإدارية وتخلفها السياسي، لكنها كانت تسد الحاجة العامة عند الضرورة والطلب، فأين هي اليوم؟!
إنها مازالت تتنازعها قوى الاستعمار والصهيونية الماسونية والغربية وتسيطر عليها المنظمات السياسية الخارجية والفكر السياسي الخارجي؛ ولكن الوطنيين القوميين المتأثرين بالبروبجاندا القومية المركزية في الخمسينيات لم يفهموا الدرس جيدا وقرروا الحصول على استقلال سهل بالمشاركة مع الغير والخارج والغريب، سواء أكانت السعودية أو بريطانيا الاستعمارية أو الجمهورية القومية الناصرية والبعثية، فقد كان الجانبان يستقطبان ويخططان لمتغيرات وانقلابات داخلية وفقا لمطامعهما كدول إقليمية كبرى لها مطامح وصراعات وأهداف خاصة بها قبل نزعة المساعدة الإنسانية العاطفية للشعب اليمني المظلوم من حكامه التقليديين المتخلفين.
ومهما حاول البعض إخفاء تلك الحقائق وتبريرها فإنه لا بد أن يصطدم بها في أي وقت. وقد كان، وهي المشكلة المعضلة التي مازلنا نكابد نتائجها ووقائعها وآثارها حتى الآن وسوف تستمر آثارها لوقت طويل.
آثار خطيرة
وكان من آثارها المباشرة أن جميع الحركات السياسية المعارضة والإصلاحية كلها نمت استنادا إلى الخارج، من اليسار إلى اليمين إلى الوسط، ومن القوميين إلى اللبراليين إلى التقليديين إلى العلمانيين إلى الدينيين. كل الحركات صار لها أساس خارجي ممول أو موجه ومفلسف أو مساعد أو شقيق أو حليف أو امتداد، أي أن المركز القيادي كان مازال قائماً في الخارج، وأما الفرع ففي الداخل، والفرع مجرد تبع للمركز وامتداد للأصل الافتراضي. وكانت العادات اليومية وأنماط العيش السياسي تنقل من الخارج من المركز وعاصمته وثقافتها، وتشمل الملابس والمظهر والطريقة الكلامية والتعبيرات اللغوية واللهجات والإشارات والإيماءات وطريقة الحلاقة والأناقة ونظام الطعام والطهو والسكن والذهاب للسينما والجلوس على المقاهي والأندية الرياضية وانتقاد كل المظاهر الثقافية المحلية الوطنية والنظر إليها باستعلاء وتكبر واحتقار أحيانا والإحالة دوما إلى بلد المركز والمرجعية.
وقد كان هذا ناتجاً عن التخلف الثقافي الوطني وعدم مسايرة روح العصر ومتطلباته التربوية والتعليمية والهجرة بحثا عن حلول للمشكلات المحلية لدى الخارج والغير، وهي امتداد لضعف البنية الاجتماعية الاقتصادية التي دفعت إلى الهجرة والبحث عن تعويض وفرص للعيش والنجاح حين يعز أسبابها في الداخل، فالهجرة قد بدأت اقتصادية ثم تطورت إلى هجرة ثقافية وسياسية واجتماعية وفكرية وأيديولوجية، وجاءت المصائب تتوالى على المراكز وعلى الفروع، وخاصة خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. ولكن لماذا هذا الاعوجاج والانحراف عن المنطق السليم، والذي لم تعرفه البلاد الأخرى بالصورة التي نواجهها بكل قسوتها وجمودها، الانتماء إلى ما قبل الدولة الوطنية الجامعة وغياب الحاكم الوطني الطموح؟!
فالنهضة الروسية ارتبطت بالحاكم الطموح الإسكندر بطرس الأكبر، والإمبراطورة كاترينا الثانية، والنهوض الفرنسي الكبير ارتبط بالملك لويس الرابع عشر، كما ارتبط النهوض البريطاني الكبير بالحاكم القوي كرومويل الجمهوري قائد الثورة البريطانية، وارتبط النهوض الألماني بالإمبراطور فيلهيلم الرابع والأمير الكبير المستشار بسمارك الحديدي... وهكذا في الشرق فقد ارتبط النهوض الياباني بالميجي إمبراطور اليابان المتنور الشاب والمتعلم، وارتبط نهوض الصين بماو تسي تونغ وتنغ سياو بينغ وسن يات سن وبي شين بينج، وارتبط نهوض فيتنام بالعم هو شي منه والجنرال نغوين جياب ولي ذوان، وارتبط نهوض كوبا المعاصرة بكاسترو، ونهوض فنزيلا بشافيز ومادورو، ونهوض تشيلي بسلفادور اللندي، وروسيا الراهنة ببوتين، ونهوض كوريا بالزعيم كيم إيل سونغ وأولاده، ونهوض مصر ارتبط بمحمد علي باشا وعبد الناصر...
وهكذا ارتبط النهوض في العالم كله بالحاكم القوي الطموح الموحد الحكيم الواثق من ذاته ومن قدراته واستعداداته وقدراته على توحيد شعبه حوله وحول إصلاحاته وثورته وزعامته. ومهما تكن الملاحظات حولهم فإن ما أنجزوه تاريخيا يبرر لهم ما ارتكبوه من هفوات وشدة وقسوة وبيروقراطية ومركزية وغياب ديمقراطية.
ففي تاريخ الأمم والشعوب مراحل شاقة لا يمكن قطعها إلا بالطريقة غير المعتادة الاستثنائية كضرورات تاريخية لا مفر منها إلا ما ندر. كما أن النهوض لا يمكن أن يفوز ويحقق أهدافه إلا إذا تسلح القائد الطموح بوعي استثنائي وبرؤية عامة وخطة واضحة عما يريد تحقيقه، وما يطمح للوصول إليه، وهي رؤية مبنية على رؤية نقدية لتجارب الأمم الأخرى، والأجيال السابقة التي فازت أو فشلت ولماذا، والقدرة على استنباط الخطط الملائمة للظروف التاريخية التي تمر بها البلاد والعالم، وتأثيراتها، والرغبة والتواضع في التعلم من الآخرين دون حرج أو استعلاء، فالذي لا يتعلم كل يوم من الآخرين ومن تجاربه الفاشلة وإخفاقاته ونجاحاته وأخطائه لا يمكنه أن يحقق النجاحات المنشودة، وأن يطلع ويتابع خبرات البشرية وإنجازاتها والاستفادة منها.
من هو المستبد العادل؟ وهل هو حقيقة أم أسطورة؟
كانت هذه العبارة قد وردت في النقاش الذي جرى في مصر المحروسة إبان الاحتلال البريطاني وربما قبله في القرن التاسع عشر أو الثامن عشر، وقد عادت لتظهر في الصحافة المصرية خلال الأربعينيات في كتابات عباس العقاد وطه حسين وغيرهما من كبار المثقفين العرب الذين أرادوا تناول مستقبل الحياة العربية والإصلاحات السياسية والاجتماعية المطلوبة وقيادتها، وكان الحديث يصل إلى السؤال عن من الذي يحققها، وكيف ذلك، وما هي الصيغة الممكنة!
والحقيقة هنا أن الكُتاب يتناولون الموضوع بصورة غامضة لا تمس مباشرة الوضع السياسي القائم، وهو مزيج الاحتلال والإقطاعية الأجنبية المتمصرة المشتركة، ولم يكن يذكر البعد العربي كثيرا آنذاك كهوية لمصر منذ فجر التاريخ السامي العربي.
إن الحديث عن المستبد العادل الذي يحتاج إليه الناس لتحقيق النهضة هو حديث عن وضع قائم لإيراد الشجار معه والقبول بنمط متطور محسن من أشباهه وأشكاله إذا حقق المهمة النهضوية المطلوبة بغض النظر عن استبداديته أو مركزيته.
ومن الناحية الواقعية التاريخية فإن أولوية الأمم تختلف من عصر إلى آخر حسب أهمية وضرورة الحاجة الوطنية والقومية الأولى. هل التحرر الوطني أولاً أم الديمقراطية والمشاركة في الحكم؟
لا شك أن بلادا ترزح تحت الهيمنة الأجنبية لا تحتاج الديمقراطية، فلا معنى لها بدون الحرية، وإنما هي تحتاج إلى التحرير الوطني وإطلاق حريتها وإرادتها قبل أي شيء آخر، وقد شهدنا في ظل الاحتلال البريطاني للجنوب اليمني ومصر وغيرها أقام المحتل أنظمة صورية ليبرالية وحرية للكلام والصحافة والفكر وبعض أحزاب خلقها لتتطاحن بينها البين وضد بعضها البعض لكي لا تبقى للبلاد وحدة وطنية أو طاقة للتآلف والتوحد إزاء التحديات الكبيرة التي تواجهها، ولكي تصبغ الاحتلال البشع بصورة مزينة مزوقة من الممارسات المتحضرة فينقسم المجتمع حولها وتتلاشى قواه، ويجد المستعمر له موطئ قدم في البلاد تضفي على حضوره القبيح مظهرا مقبولا في نظر البعض المضلل المسترزق المتربح من وجود الأجنبي ومن المصالح التي يخلقها حضوره وحداثته وتجارته الواسعة.
إن مفهوم المستبد العادل مفهوم متناقض، ولكنه تاريخي في حقيقته، فهو قد كان له وجود واقعي في تاريخ القيادات والإدارة التي أنجزت مهام النهوض الوطني في عصور سابقة في أوروبا وآسيا، ومازال في علم الاجتماع الإداري يعتبره أحد أنماط الإدارة والقيادة التاريخية، فعلم الإدارة الغربي القائم الآن مازال يعتبر أنماط الإدارة والقيادة التي تضم النمط الاستبدادي أو المركزي كواحد من عدة أنماط تتحقق عبرها نهضة الأمم والشعوب، والنمط المركزي إلى جانب النمط الديمقراطي والتشاركي حسب ظروف كل أمة وشعب وعصر وتقاليد وثقافة كل بلد وأمة، ولا يمكن فرض نمط معين من الخارج وبالقوة على أمة معينة مهما كان، ولكن الأمة وظروفها وثقافتها هي التي تفرض نمطا معيناً للإدارة والقيادة.
ولو راجعنا أشكال القيادة والإدارة لدى شعوب كثيرة وفي عصور مختلفة سنجد أنها لا تخرج عن هذين النمطين الكبيرين، وقد غلب النمط الاستبدادي لزمن معين وكان عاما في عصر من العصور، ومثال ذلك هو نمط القيادة الألمانية والفرنسية والروسية واليابانية والمصرية والعثمانية والبريطانية والنابليونية والصينية والكورية والكوبية والفيتنامية، والقيادة الهندية التحررية، ولكنها كانت مختلفة نسبيا، حيث تميزت بأنها اتبعت أساليب تشاركية خلال مراحل التحرر الوطني إلى حد بعيد؛ ولكن ذلك كان استثناء ومرتبط بوجود شخصية غاندي أو الشمس المنورة ومكانته الروحية المقدسة في وعي الشعب الهندي. كما أن التحرر الوطني أخذ طابعا سلميا تحمل خلاله الشعب الكثير من القسوة والعنف والمظالم الأجنبية، ولم يرد عليها بنفس السلاح، فقد آثر السلم والتسامح واللاعنف، وهذه حالة خاصة ميزت الهند وحدها، ولكن بقية الشعوب لا ترى ذلك سبيلا لها للتحرر، وهذا موضوع آخر.
المركزية حاجة تاريخية وضرورة مرحلية
الشعوب في لحظة التحرر الوطني والنهوض تحتاج أولا إلى قيادة قوية مركزية ذات نفوذ وسلطات واسعة بين الجماهير ترسم للناس المطالب والأهداف وتوحدها للسير خلفها لإنجازها. كما أن النهضة النبوية التي تأتي في سياق حركة الرسل والأنبياء إلى شعوبهم لإنقاذهم وتحريرهم وتخليصهم من المظالم الواقعة عليهم من أمم أخرى أو طغاة آخرين أو دول جائرة فيما مضى. إن أسلوب النبي كان يتلخص في إيصال رسالة السماء إليهم ودعوتهم لإطاعة وتنفيذ أوامر الله وتعاليمه وتوجيهاته وكتبه وحكمته، وهي أساليب مركزية في جوهرها وإن أخذت أشكالا تشاركية معينة.
إن قيمة الأساليب تحدد حسب قدرة الشعوب على إنجازها وضمن الأهداف القومية للأمة للنهوض، وخاصة في أزمنة وعهود الحروب والأزمات والجوائح العامة.
اليمن في تاريخ الإدارة والقيادة هي الرائدة
كانت أهم اللحظات الفارقة في تاريخ الشعب اليمني الحديث والقديم هي لحظات بناء الدول والحضارات والمنشآت العملاقة والتحرر الوطني وخوض حروب الاستقلال الطويلة في العصر الحديث. وكانت أنماط القيادة في تلك المراحل كلها أنماطاً مركزية واستبدادية أيضا في كثير من مظاهرها رغم وجود تشاركية عامة في مستوى معين من الظروف، ولكن الغالب هو النمط المركزي البيروقراطي ولم يفرض عليها أحد هذا النمط وغيره، وإنما هي حصيلة الثقافة التاريخية الوطنية، وتجاربها هي التي أوحت بتلك الأنماط دون غيرها.
فالشعوب تختار ما يناسب ثقافتها وفهمها وتجاربها هي، ولا يمكن فرض أنظمة معينة بالقوة مهما تكن عادلة، وتحقق مصالح الشعوب في تصور النخب إذا لم تكن الشعوب نفسها قد اختبرتها وعرفتها وجربتها في حياتها اليومية وتاريخها واقتنعت أنها تحتاجها بعد فشل الأنماط الأخرى المجربة من قبلها، لذلك تعرف الشعوب مراحل انتقالية في تاريخها وثوراتها ونهضاتها قبل أن تنتقل إلى أنظمة جديدة، كما تطبق أساليب الاستفتاء الشعبية العامة عندما يكون هناك ضرورة لإحداث تغيير في الدستور أو النظام أو طريقة الحكم والإدارة حتى يؤخذ موقف الشعب وتجربته وخبرته وإرادته بالحسبان والرعاية والاحترام، لكي يتم تجنب النزاع الأهلي والشعبي مع الحكومة والقيادة والمرجعيات العامة في البلاد والمجتمع وللحفاظ على الوحدة، والهدف هو المحافظة على ذلك التناغم السياسي بين القاعدة الشعبية والنظام القائد وعدم مفاجأة الشعب بأنظمة أو أحداث أو تغيرات لم تستعد لها ولم تفهمها بعد ولو كانت إيجابية جدا في منظور القيادات والنخب، لأن هناك مسافات فاصلة بين مستوى وعي النخب ووعي العامة الشعبية التي يجب مراعاتها والارتفاع بها تدريجيا إلى مستوى أعلى من وضعها السابق لكي تتفهم محتوى التغيرات الجديدة وإلا فإنها سترفضها ولن تتفاعل معها ولن تقبلها وستفشل حتما.
فخلال المرحلة الانتقالية يجري التحضير المكثف في مستوى الوعي الشعبي والصحافة والكتابة والخطابة والبيان لنشر التغييرات المطلوبة والضرورية وجعلها مفهومة للناس العاديين وقريبة منهم ومرتبطة بحياتهم وبمصالحهم العامة وبثقافتهم وعقائدهم وهويتهم.
المصدر علي نعمان المقطري / لا ميديا