استطلاع: بشرى الغيلي / لا ميديا -
لرائحةِ الكتب عبق فريد لا يستنشق عبير رائحتها إلا من تشبّعت أرواحهم بالغوصِ في عوالمِ الفكر والثقافة، وقيل عن رائحةِ الكتب الورقية: «للورقِ رائحة الخبز الطازج»، بل إن أحد الكتّاب والصحفيين الإيطاليين، جيامبييرو موغيني ألف كتابا بعنوان «رائحة الكتب»، وهذا يؤكد قدسية الكتب الورقية وحميميتها في كل زمانٍ ومكان.. فإذا ما افتقد عشاق القراءة هذه الرائحة وتم استبدالها «بضغطة زر إلكترونية» حرموا أنفسهم من ألذ وجبةٍ يطعمون بها خيالاتهم وأفكارهم.. في هذا التحقيق الذي قامت به «لا» وطرحت من خلاله تساؤلا: هل الكتاب الإلكتروني يهدد بانقراض الكتاب الورقي؟ وكانت الأماكن المستهدفة للبحث عن الإجابة بعض المكتبات العامة، ثم مناقشة النتائج مع أكاديميين ومثقفين وضعوا النقاط على الحروف.. فإلى السياق.

«لا» بالقربِ منهم
طرحت «لا» تساؤلاً: هل الكتاب الإلكتروني يهدد بانقراضِ الكتاب الورقي؟ وكان الرد من خلال النزول الميداني للمكتبات العامة للوصول إلى نتيجةِ مقارنة واقعية ليتسنى مناقشتها مع المختصين.. بداية استطلعنا آراء رواد المكتبة المركزية من طلبة جامعة صنعاء وأخذنا نماذج من آرائهم بطرح السؤال، فكانت الإجابات شبه متفقة بأن العلاقة بالكتاب الورقي للبحث عن المعلومة، أو كتابة التكاليف الجامعية التي يطلبها الأكاديميون من الدارسين.
سارة (كلية التجارة ـ تخصص محاسبة) تقول: «المكتبة المركزية مقتصرة على الطلاب الذين معهم بطائق مكتبية خاصة، بينما إذا لم تسمح للطالب ظروفه المادية باقتنائها فإنه لا يستطيع ولوج بوابة المكتبة، لذلك الكتاب الإلكتروني منافس قوي ومختصر للوقت». بينما زميلتها هبة تعطي سببا آخر بأن عدم القراءة من الكتاب الورقي في موضوعات متعددة يعود إلى أن الطالب الجامعي، يكون محصورا داخل المنهج الخاص بالدكتور فقط، ويمنع إضافة أي معلومة من خارج المقرر.

الورقي يظل المصدر الأول للقراءة
كان على المقعد المقابل للطالبتين سارة وهبة، طالبة الدراسات العليا ماجستير جغرافيا، أسمهان علي، التي قالت إنها تتواجد في المكتبة من أجل البحث الخاص بالرسالة، وتستدرك: «ومع ذلك يظل الكتاب الورقي المصدر الأول للقراءة، لأن الإلكتروني مرتبط بتوفر أشياء كثيرة من ضمنها الكهرباء، كذلك ما يجعل البعض يحجم عن القراءة في المكتبة لأن العناوين قديمة، وعدم التجديد فيها لمواكبةِ العصر يجعلها مكررة ومملة».

التقصير من الطالب
يوسف الهجري (تمهيدي ماجستير ـ إدارة أعمال ـ كلية التجارة والاقتصاد) لا تختلف وجهة نظره عمن سبق بأن تواجده في المكتبة من أجل البحث الذي تم تحديده من قبل الدكتور، وهي التزامات من الواجب تنفيذها، ويعود على الطالب القصور في عدم الاطلاع من الكتب الورقية المتنوعة.
ويقارن الهجري السنوات السابقة بالوقت الحالي بأن هناك تراجعاً كبيراً في القراءة حيث كانت تمتلئ المكتبات بروادها، لكن الآن بالكاد تجد طلاباً يعدون على الأصابع، جميعهم يأتون من أجل إكمال بحوثهم الخاصة، ويذكر أسباباً أخرى كبعد المسافة لبعض المناطق عن أماكن المكتبات، وعدم قربهم منهم، وفي حال يأتون بأوقاتٍ تناسبهم يجدون المكتبة أغلقت أبوابها، لأنها تكون ساعات دوامها محددة.
ويختم حديثه بالقول: «إن التعليم أونلاين بخاصة أيام جائحة كورونا، عمّق سهولة التعامل مع التعليم الإلكتروني والكتاب الإلكتروني، مما سبب انحسارا للكتابِ الورقي، ومع ذلك يظل هو المرجع الأول والأساس».

صحيا الورقي أفضل
الطالب ياسر ردمان (تمهيدي ماجستير إدارة أعمال ـ جامعة صنعاء) يقول: قد يكون هناك فئة من الباحثين والمهتمين والقراء يطلعون على ما يريدونه ويبحثون عنه عبر الكتاب الإلكتروني، ولكن إذا توفر الكتاب الورقي بكل الإمكانيات المتاحة فإنه الأفضل من نواحٍ كثيرة، كالناحية الصحية للحفاظ على سلامة العيون أثناء القراءة، ومن ناحية أخرى كانقطاع الكهرباء، أو قد يكون الجوال متصلا بالنت أثناء القراءة فيقطعه الاتصال على سبيل المثال، لذلك فالورقي يظل هو الأقرب حتى من ناحيةِ التوثيق للمصادر التي بإمكانك العودة إليها بأي وقت، فمهما تقدمت الحياة المعاصرة بكل تطوراتها يظل الكتاب الورقي الأقرب حتى لجوارح الإنسان.
ويتمنى ردمان في ختام مداخلته أن تتوفر مكتبة صغيرة في كل مديرية من مديريات العاصمة، كونها مترامية الأطراف فيصبح من الصعوبةِ بمكان الذهاب إلى المكتبة المركزية للقراءة، وأن يتم الحفاظ على الهدوء في المكتبات المتوفرة والنظافة وتهيئة البيئة المناسبة لرواد المكتبات، والفهرسة الإلكترونية لتسهيل الوصول للكتاب الورقي، وأن تكون ساعات الدوام متاحة في الفترةِ المسائية.

محصورون في التكاليف
بعد أن تجولنا في أقسام المكتبة المركزية التقينا بعض المختصين في أقسامها، وهنا تحدثت حليمة الشيخ (مختصة في شعبة المعارف وعلم النفس والفلسفة بالمكتبة المركزيةـ جامعة صنعاء) التي أكدت أن أكثر من يأتي هم طلاب البكالوريوس والدراسات العليا للبحث في أرفف المكتبة والاطلاع، نتيجة دفعهم من قِبل الدكاترة بسبب التكاليف التي يفرضونها.
وتضيف الشيخ: «أما الطلاب الذين لديهم شغف بالقراءة وحب الاطلاع فهم قلة قليلة»، مؤكدة أن هناك «تراجعا من ناحيةِ الإقبال على القراءة الحرة، ربما يعود السبب إلى عدم التجديد في عناوين المكتبة التي كانت تواكب الجديد قبل الحرب والحصار، وعدم تمكن المختصين من السفر للمشاركةِ في المعارض الدولية ليتم التجديد للعناوين والاستفادة منها وجذب الطلاب للقراءة».

الصالة الصامتة
الملاحظات التي طرحها بعض الطلاب من مرتادي المكتبة كعدم التجديد في العناوين، أو فتح المكتبة لساعات محددة وأسباب أخرى أوضحها مدير المكتبة المركزية، منير العولقي، بأنهم يحاولون تطبيق اللائحة الموجودة بمرونة شديدة، حسب قوله، وأن الاستفادة من خدمات المكتبة يلزمها بطاقة مكتبية إلكترونية، مدتها أربعة أعوام، وثمنها لا يتجاوز 2500 ريال.
أما من ناحيةِ شكاوى الطلاب وتحديد وقت محدد لدوام المكتبة حتى الواحدة ظهرا وتغلق أبوابها، أوضح العولقي: «نحن في إطار ترتيبات لإضافة فترة مسائية للطلاب حتى الخامسة أو السادسة مساء». أما من ناحيةِ التشويش أو الجو العام للمكتبة بحيث لا يستطيع الباحث أو القارئ التركيز على القراءة، فيقول بأنه توجد «الصالة الصامتة» التي توفر الهدوء التام للقراءة، أما سؤالنا الأهم فقد أوضح أن الإقبال على المكتبة من ناحيةِ القراءة من الكتب الورقية كبير جداً، بخاصة في الأعوام الأخيرة.
ولمعرفة مدى الإقبال على المكتبة، التقينا نائبة إدارة التزويد بالمكتبةِ المركزية، بشرى الجرموزي التي أعطت نسبة 90% معتمدة على السجلات التي تم رصدها خلال السنوات الأخيرة، وبأن الإقبال عليها كان كبيراً جداً مقارنة بأعوامٍ مضت.

المركزية نهضت كثيرا 
إلى ما سبق، أضاف أحمد الجبرتي، نائب مدير المكتبة المركزية بجامعة صنعاء، أنه من خلال ملاحظته الشخصية أن أغلب القادمين إلى المكتبة من الباحثين والطلاب يأتون للبحث من الكتاب الورقي، وأنه هو المسيطر والأساس، لأن الكتاب الرقمي ليس مستكملا حتى مشروعه كونه مرتبطاً بإشكاليات الكهرباء وعوامل أخرى تحول دون منافسته للورقي.
أما بخصوص كيفية استعادة الشغف بالقراءة وجذب مرتادي المكتبة إلى ذلك، يضيف الجبرتي: «نحن نقدم خدماتنا بما هو متاح لدينا، لأننا من بعد 2012 لم تتح لنا الفرصة لإدخال عناوين جديدة بسبب الحصار المفروض علينا والأوضاع التي تمر بها بلادنا، لأن عملية اقتناء العناوين الجديدة كانت تتم عبر المعارض الدولية، ورغم ذلك إلا أن المكتبة المركزية نهضت بشكل كبير وغير متوقع بالمتاح والموجود مقارنة بالسنواتِ الماضية من خلال نشاطها اليومي».

بعد العدوان تدنت نسبة الإقبال على المكتبة
نموذج آخر من المكتبات التي شملها سؤالنا المطروح كمكتبةِ الهيئة العامة للكتاب، ورد عليه زيد صالح الفقيه، وكيل الهيئة العامة للكتاب لقطاع النشر والتوزيع، والقائم بأعمال مدير دار الكتب، قائلاً: «لا شك أن الكتاب الإلكتروني أصبح في متناول الجميع، لكن ثمة خصوصية إمتاعية وفعلية للكتاب الورقي، بخاصة لدى محبي القراءة لمتعتها المعرفية، إضافة إلى أن هناك من الناس من لا يحب القراءة إلا بكتاب أو مجلة ورقية، وأنا أحدهم».
يضيف الفقيه: «الكتاب الإلكتروني مفيد للبحث العلمي إن لم تتوفر المعلومة ورقيا». غير أنه ينفي أن الكتاب الإلكتروني يهدد الكتاب الورقي، لأن المكتبات العالمية ماتزال قائمة على الكتاب الورقي، وخصوصاً المخطوط منه. 
وعن مدى الإقبال على مكتبة الهيئة العامة للكتاب يقول الفقيه: «بالنسبة للإقبال على مكتبة دار الكتب، كان عالياً قبل الحرب إلى درجة أننا كنا نضطر -أحيانا- أن نفرغ مقاعد المكتبة للفتيات ونأخذ الفتية إلى الصالة الخارجية، لأنها كانت مفروشة بالموكيت، أما بعد الحرب فقد تدنت نسبة الإقبال لعوامل كثيرة، منها: انقطاع مرتبات الناس، وهذا أدى إلى عدم استطاعة المهتمين والقراء المجيء إلى المكتبة، عزوف كثير من طلاب الدراسات العليا عن مواصلتها لشحة الإمكانات المادية لديهم، وتقديم سبل الحصول على لقمة العيش على غيرها من وسائل الحياة الأخرى».

الوضع الاقتصادي من أهم الأسباب
مكتبة أخرى شهيرة تفترش من رصيف جامعة صنعاء مقرا لها ويأتي إليها الكثير من الطلاب والطالبات والقراء، والمهتمين بالقراءة، نظرا لأنها توفر أغلب العناوين بأسعارٍ زهيدة وطبعات محلية لتكون في متناول الجميع، توقفت «لا» لدى هذا الرصيف الشهير وتساءلت مع يونس الصلوي (صاحب بسطة الكتب) الذي أشار إلى أنه في الآونةِ الأخيرة يأتي إليه الكثيرون من أجل شراء الكتب المتعلقة بالمناهج فقط، بعكس السنوات الماضية التي كان الإقبال فيها أكثر، سواء للشراء أو لاستعارة الكتب الثقافية والأدبية.
وختم الصلوي بالقول: «إن الحالة المادية أحد الأسباب لعدم اقتناء الكتاب الورقي، والوضع الاقتصادي الذي ألقى بظلاله على البلد، مما سهل الوصول للكتاب الإلكتروني، وصار منافسا قويا». 

الكتاب الإلكتروني ليس محل ثقة
بعد النزول الميداني لبعض المكتبات العامة واللقاء بمرتاديها والمختصين فيها والخروج بنتائج أوضحت لـ»لا» أن هناك فجوة كبيرة، كما تباينت الآراء، فكان تساؤلنا لبعض المثقفين والأكاديميين عن ماهيةِ الحلول التي بإمكانها أن تعيد مجد القراءة والاطلاع من الكتاب الورقي، فكانت إجاباتهم كفيلة بوضع النقاط على الحروف، وكانت البداية مع الدكتور إبراهيم طلحة (أديب وأكاديمي وأستاذ اللغويات المساعد والمحاضر في جامعتَي صنعاء وتعز) الذي قال: «من تجاربنا الشخصية، نلاحظ أن التفاعل مع الكتاب الورقي أكبر من الإلكتروني، ولكن مع ذلك، بدأنا في الآونة الأخيرة -ربما مع الأُلفة مع الإنترنت- نقرأ الكتب الإلكترونية، ومن هنا لا نجد غضاضة في أن يكون البديل الإلكتروني محط اهتمامنا، بشرط عدم التنكر للكتاب الورقي، وعدم الاكتفاء بالإلكتروني، ولاسيما أن الكتاب الإلكتروني ليس محل الثقة على الدوام، ومن الجميل الجمع بين الحُسنيين، القراءة من الورق والقراءة من النت، ولن أتشدد في مسألة الحديث عن إعادة مجد القراءة هنا؛ فهي مسألة نسبية طبعا، وقد يكون القارئ للكتاب الإلكتروني جادّاً، وهذا هو المطلوب، وليس شكل الكتاب أو نوعه، فكل ما في الأمر أنها أدوات خاصة وتكنولوجيات لكل زمان ومكان».

لا توجد حلول آنية
أما الشاعر منصر السلامي فيضيف خلاصة تحقيقنا عن تراجع القراءة من الكتاب الورقي «بالنظر العميق إلى التطور المتسارع في عالم التكنولوجيا والتقدم الكبير الذي أحدثته في العالم، والذي أصبح العالم فيه يخشى من إحلال الآلة مكان الإنسان في الكثير من الأعمال وتحويل المجتمعات إلى أجسام صامتة لا عمل لها سوى الاطلاع والمشاهدة فقط».
وعن إمكانية الحلول، يضيف السلامي: «لا توجد حلول آنية بديلة لدى الناس بخاصة في ما نشهده في مجال التطور المعرفي واستخدام الكتاب الإلكتروني بدلا من الورقي في المعرفة والاطلاع».
ويستدرك: «ولكن هناك حلولاً ترسمها سياسات الدولة والجامعات وسياسة التعليم، والتي أرى أن يتم فرض استخدام الكتب الورقية في كل الأماكن، وتشجيع استخدام الكتاب الورقي، وعمل مسابقات ومنتديات ثقافية تشجع على استخدام الكتاب الورقي فسياسة الدولة في هذا الجانب هي التي تستطيع العودة بالمجتمع إلى الكتاب الورقي، والتحذير من استخدام الكتاب الإلكتروني الذي ينذر بنشوء جيل سطحي جدا لا علاقة له بالعمق المعرفي».