آرام ميرزائي
ترجمة خاصة عن الألمانية نشوان دماج / لا ميديا -
الأسابيع القليلة الماضية في أفغانستان كانت بمثابة ما قد يسميه البعض، نظراً لعدم وجود كلمات أفضل، عاصفةً قذرة. 
إن ما يحدث أمام أعيننا هو في الحقيقة مأساة ذات أبعاد كبيرة، وفي اعتقادي هو نوع من مشهدية ذاهلة. فبعد 20 عاماً من الاحتلال، 
لم تنسحب واشنطن وكلابها الطيعة من أفغانستان فحسب، بل وفرّت مذعورة. وككل الأنظمة العميلة، كان النظام المدعوم من الولايات المتحدة، فاسداً وغير مستقر ولا يحظى بأي دعم شعبي على الإطلاق. ذاك هو سبب انهياره بعد أسابيع قليلة من بدء هجوم طالبان. 
لقد كان انهياراً لم يصدم الإمبرياليين الغربيين وأجهزتهم الدعائية فحسب، بل وفاجأ طالبان نفسها.
أما بالنسبة لكثير منا، نحن المراقبين، فلم يكن الأمر مفاجئاً على الإطلاق. ومن كانوا منا يتابعون مجريات الحرب في أفغانستان على مدى العقدين الماضيين يدركون جيداً الإشكاليات التي كانت تواجه ما تسمى القوات الأفغانية. فسادٌ مفرط، وعدم كفاءة في القضايا الجنائية، وتعاطٍ للمخدرات. تلك هي السمات التي لطالما طبعت ذلك الجيش، تماماً مثلما هو عليه الآن في شكله الحالي.
من المعروف أن نسبة كبيرة من أفراد القوات الأفغانية هم مدمنون، وغالباً ما كانوا أثناء خدمتهم يتعاطون الهروين أو الأفيون. علاوة على ذلك، كان هناك فساد غير مسبوق من أعلى الهرم إلى أسفله. كثير من ضباط الشرطة كانوا محض مغتصبين وممارسي جنس، يختطفون الأطفال ليغتصبوهم ويقتلوهم، بدلاً من أن يقوموا بمحاربة الجريمة. كما أن أعداد الخونة الذين يبيعون الأسلحة والإمدادات لطالبان، كانت عالية جداً، لدرجة أن معظم القواعد الأفغانية تُركت بدون أي معدات ثقيلة أو حتى وقود عندما تعرضت لهجوم طالبان.
وعلى أقل تقدير، كانت معنويات هؤلاء الجنود والضباط في الحضيض. فلماذا سيكون الأمر مفاجئاً إذن وكل المقاتلين الجيدين إما أنهم انضموا إلى طالبان وإما قُتلوا في السنوات الأخيرة؟! لم يتبق سوى مدمني المخدرات والانتهازيين.
سأقتبس هنا مقتطفات من كلام جندي أمريكي سابق في أفغانستان: “بشكل عام، يتم تجنيد الجيش الوطني الأفغاني من حثالات المجتمع. أما الجنود الطيبون فقد هربوا وانضموا إلى طالبان. أنا لا أستهين بذلك، فلقد قاتلتُ طالبان وخَبِرتُهم، وشاركت في عمليات مشتركة مع الجيش الأفغاني. إن طالبان جنود أقوياء وشجعان ومنضبطون. وإنني بصراحة أحترمهم. ولو كنت ولدت في أفغانستان، لا في أمريكا، ونشأت وفقاً للقيم الأفغانية، لربما انضممت إلى صفوفهم”.
مليارات الدولارات أنفقتها قوات الاحتلال التابعة للناتو لدعم المجرمين وأمراء الحرب في جميع أنحاء أفغانستان، ليس لخلق مجتمع مستقر وإنما لشراء ولائهم وصمتهم إلى حين. وتلك هي النتيجة بعد 20 عاماً. كان على طالبان أن تترقب -بصبر- انسحاب المحتلين يوماً ما، بل لقد حذرت أنظمة الناتو من ذلك الواقع المحتوم عندما قالت منذ سنوات طويلة: “لديكم الساعات، أما نحن فلدينا الوقت”.
وللأسف، فإن الغرب المتعجرف والمتصالح مع نفسه، المخمور بفكرته الخاصة عن التفوق على أساس عدد السفن الحربية الأمريكية الضخمة والمعدات الضخمة لقوات البحرية، لم يستطع ولا يستطيع أن يفهم سبب خسارته في أفغانستان.
إن الغطرسة المطلقة وعدم كفاءة المسؤولين في واشنطن أمرٌ ملحوظٌ بشكل يثير الدهشة. كانت المخابرات الأمريكية قد ظنت بادئ الأمر أن النظام في كابول سيصمد شهوراً أو حتى سنوات. لاحقاً تم تصحيح ذلك من 30 إلى 90 يوماً، وها هو ذا يتداعى في أقل من أسبوعين من بدء طالبان الهجوم على عواصم المقاطعات في جميع أنحاء البلاد. كابول نفسها سقطت في أقل من يوم! وها هو “رجل” واشنطن في كابول يفر من البلاد. وبحسب ما ورد، قام بنقل ملايين أو مليارات الدولارات نقداً إلى الإمارات أثناء اقتحام طالبان للقصر الرئاسي؛ وهو القصر نفسه الذي ألقى فيه أشرف غني خطاباً قبل 48 ساعة فقط وعد فيه بـ”مقاومة وصد هجوم طالبان”.
وبذلك نكون قد وصلنا إلى الواقع الراهن. خلال الأسبوعين الماضيين، قامت دول الناتو وأصدقاؤها بإجلاء قواتهم ومواطنيهم والمتعاونين معهم من الأفغان بطريقة فوضوية ومخزية تذكرنا بسقوط سايغون عام 1975. مع أن أحمق البيت الأبيض، جو بايدن، ومهرجه، وزير الخارجية أنطوني بلينكن، زعما أن الأمر لن يكون “لحظة سايغون” أخرى. منذها حدثت مشاهد مأساوية في مطار كابول، حيث راح الناس يتزاحمون عليه أملاً في ركوب طائرة للفرار من البلاد. رجال يتشبثون بجوانب الطائرات أو أماكن هبوطها ليتساقطوا بعد الإقلاع من السماء، وأعمال شغب، وأناس يلقون بأطفالهم من فوق الأسوار التي يقف خلفها الجنود الأمريكيون للحراسة على الجانب الآخر. آلاف، إن لم يكن عشرات الآلاف، تم تركهم، حيث أعطت قوات الناتو الأولوية لإجلاء كلابها وقططها وبراميلها.
لا يسع المرء هنا إلا أن يتساءل كيف لتلك البلدان “الراسخة في التطور”، والتي لديها أفضل قوات مسلحة في المجرة، أن تغدو خلال عمليات الإجلاء بذلك الشكل المثير للشفقة من عدم الانتظام، خاصة وأنها كانت تعرف منذ أشهر أنها سوف تغادر؟!
وكما لو أن بؤس الشعب الأفغاني لم يكن كافياً، فها هي ذي داعش تدخل المشهد، لتنفذ -فيما زُعم- هجوماً إرهابياً مريعاً خارج المطار أسفر عنه مقتل أكثر من 200 شخص، بينهم 13 جندياً أمريكياً. إن المشاهد التي حدثت ذلك اليوم في مطار كابول هي ذروة البؤس والموت اللذين جلبهما الإمبرياليون الغربيون للأفغان. أقول هذا لأن الولايات المتحدة هي التي جلبت داعش إلى أفغانستان. وأعتقد أن هناك عدداً من الأمور المحيرة ذات الصلة بالتفجير الإرهابي الذي حدث الأسبوع الماضي لا بد من طرحها.
أولاً: لماذا في كل مرة تنسحب فيها الولايات المتحدة أو تريد الخروج من منطقة نزاع، يحدث فجأة هجوم إرهابي على قواتها من قبل داعش؟! هكذا حدث في سورية عام 2019، عندما فجر إرهابي من داعش نفسه في مدينة منبج وقتل جنوداً أمريكيين، وبالضبط حين أعلن الرئيس الأسبق دونالد ترامب نيته سحب القوات الأمريكية من سورية. لماذا يقوم داعش، “العدو” المزعوم للولايات المتحدة، بكل شيء ليضمن لها الاستمرار في احتلالها لتلك البلدان؟!
ثانياً: أليس من المثير للاهتمام أن المخابرات البريطانية والفرنسية على حد سواء كانت على علم بهجوم إرهابي وشيك قبل ساعات من وقوعه ولم تفعل شيئاً لمنعه؟! أليس من المثير للاهتمام كذلك أن الولايات المتحدة، التي لم تشن بالمناسبة أي ضربة ضد داعش في أفغانستان، قد عرفت فجأة من يقف وراء التفجيرات و”قضت” عليهم بعد يوم واحد فقط من الهجمات؟!
ثالثاً: أليس من المثير للاهتمام كيف أن البنتاغون رفض الكشف عن أسماء وهويات “المخططين والمُسهلين” المزعومين الذين قُتلوا، خصوصاً وقد عقد المتحدث جون كيربي مؤتمراً صحفياً وهمياً رفض فيه الرد على أي من الأسئلة الكثيرة للصحفيين الحاضرين؟!
لن أخمن أكثر من ذلك. لكنني أعتقد أن واشنطن نفسها خططت بطريقة أو بأخرى لذلك الهجوم الإرهابي، حفظاً لماء وجهها بأية طريقة. ربما كانت تأمل ألا يكون التركيز منصباً على كارثة الإخلاء وإنما على “القوة” التي أظهرتها في “محاربة الإرهاب”، لاسيما الآن وهي تغادر.
في مكان آخر، يبدو أن الولايات المتحدة تبدأ حرباً أهلية أخرى في أفغانستان، حيث يقوم كل من نائب الرئيس السابق، أمر الله صالح، وأحمد مسعود، نجل أحمد شاه مسعود، أشهر “المجاهدين” إبان الحرب السوفييتية الأفغانية، بتجميع قواتهما في الإقليم الذي لم يتم السيطرة عليه بعد، بنجشير، إلى الشرق من كابول. من المثير للقلق أنهما على ما يبدو غبيان بما يكفي للاعتقاد بأن لديهما فرصة ضد طالبان ويرجوان ويأملان الحصول على الدعم الغربي. من الواضح أنهما لم يتعلما شيئاً من أخطاء أشرف غني، أو غيره من الدمى الذين راهنوا على “حسن نية” الغرب. لكن بغض النظر عما تخطط له واشنطن، لا يمكنها الهرب من حقيقة أن تلك الهزيمة كانت إهانة لها، وأن المزيد من الإذلال سيتبعها. وأيامها في العراق وسورية معدودة على كل حال. أما المشاهد في مطار كابول فلن تمّحي بهكذا سهولة، ذلك لأنها تحكي قصة فشل وقصة كارثة سيكون لها عواقبها لسنوات كثيرة قادمة.

ذات يوم، وفي نشوة غرور منه، صرح الجنرال ألين، من قوات الاحتلال الأمريكية، معتقداً أنهم قد نجحوا في أفغانستان، قائلاً:
“This is victory, this is what winning looks like”.
(إنه انتصار، هذا ما يبدو عليه الفوز).
وأود إعادة صياغة تلك الجملة على النحو التالي: هذا ما تبدو عليه إمبراطورية تحتضر.