توني ووكر
مجلة “ذا كونفرزيشن” الأمريكية
ترجمة خاصة لـ "لا": زينب صلاح الدين / لا ميديا -
في القرن التاسع عشر كانت تستخدم جملة "اللعبة الكبيرة" لوصف التنافس على السلطة والنفوذ في أفغانستان وفي المناطق وسط وجنوب آسيا المجاورة بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية.
حينها لم ينتصر أي طرف من الطرفين فيما بات يعرف بـ"مقبرة الإمبراطوريات".
وبعد قرنين لاحقين، تم تذكير قوة عظمى كأمريكا بواقع مشابه.
إن كارثة سقوط أفغانستان -التي انهار إثرها الجيش الأفغاني الذي قوامه 300 ألف والمدرب والمجهز بشكل جيد جداً من قبل الولايات المتحدة في غضون ساعات- تعد بمثابة تذكير بحدود القوة الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير.
قد يعاني الرئيس الأمريكي جو بايدن من أعنف الانتقادات للانسحاب الأمريكي الكارثي الذي تم. غير أنه سيكون هناك لوم كبير إذا فكر بالتراجع عنه وبالعودة إلى تاريخ القرار المشؤوم الأصلي بـ"بناء الأمة"، أي بناء دولة قاومت التدخل الخارجي لآلاف السنين.
بعد سقوط كابل وانسحاب أمريكا المتسرع من بلد بددت فيه تريليون دولار أمريكي يبقى السؤال: ما التالي بالنسبة للشرق الأوسط؟
هذا سؤال يمتد قوسه من المغرب في الغرب إلى باكستان في الشرق، ومن تركيا في أقصى الشمال نزولاً إلى الخليج وعبوراً إلى القرن الأفريقي.
حيث إن كل زاوية من زوايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سوف تتأثر بطريقة ما بفشل القوة الأمريكية في أفغانستان، وهي أطول حرب في تاريخها.
يقاسم حساب أمريكا هذا أيضاً حلفاؤها، الناتو ودول مثل أستراليا. وللعلم فإن المشاركة الخطيرة لأستراليا في التزام مفتوح في أفغانستان ينبغي أن يستدعي لوماً كبيراً.

سايغون جديدة
لا شك أن الآن يتم عمل مقارنات بين انسحاب أمريكا المذعور من كابل وبين مشاهد مماثلة في سايغون منذ 46 عاماً.
بيد أن الوضع في أفغانستان يعد أكثر إقلاقاً في بعض الاعتبارات، لأن أجزاء كبيرة من الشرق الأوسط معرضة للسقوط في الفوضى.
لربما أثرت هزيمة جيش شمال فييتنام في العام 1975 على التطورات في البلدان المجاورة كالهند والصين، غير أنه تم احتواء تداعيات ذلك إلى حد كبير.
أفغانستان مختلفة نوعاً ما، ففي حين قصف مصداقية وثقة أمريكا في فييتنام؛ بقيت هي القوة العسكرية المهيمنة في غرب المحيط الهادي قبل ظهور الصين.
في الشرق الأوسط ستجد واشنطن متضائلة، اهتزت فيها الثقة بقدرتها على تنفيذ التزاماتها، إن لم تكن قد تحطمت. إن سلطتها ستصبح موضع تساؤل متكرر.
يأتي هذا في وقت تقوم فيه الصين وروسيا باختبار العزم الأمريكي عالمياً. وفي المنطقة نفسها تحاول تركيا وإيران عملياً ملء الفراغ الذي سببه الفشل الأمريكي.
لدى بكين وموسكو -لأسبابهم الخاصة- اهتمام بمستقبل أفغانستان. بالنسبة للصين فإن الأمر يتجاوز مشاركتها في بعض الحدود، بينما بالنسبة لروسيا فالأمر يتعلق بمخاوف تاريخية إزاء تطرف أفغانستان الذي يؤثر على سكانها المسلمين وسكان الدول القومية في محيطها.
في الآونة الأخيرة كانت الصين تفاوض قادة طالبان. وعقد وزير خارجيتها وانغ يي اجتماعاً حظي بتغطية إعلامية مع الزعيم السياسي لحركة طالبان الأفغانية ملا عبد الغني بارادار في الشهر الماضي.
بعد هذه الدول تأتي باكستان، التي دعمت طالبان سراً وعلناً على مر السنين. وبذلك سوف ترى إسلام أباد في الانزعاج الأمريكي الشديد فرصة لها لتولي دور إقليمي أكثر أهمية.
هذا الأمر لا يعني نسيان علاقات باكستان الوطيدة بالصين وعلاقتها المتصدعة مع الولايات المتحدة.
في أفغانستان نفسها ربما تكون طالبان قد أوفت بتعهداتها بأنها تغيرت وبأنها سوف تسعى إلى تأسيس حكم توافقي في بلد ممزق إثر انقسامات قبلية وعرقية دموية.
ونظراً إلى المؤشرات المبكرة على انتقامات طالبان الوحشية من أعدائها ورد الفعل المذعور للشعب الأفغاني المشلول بالصدمة قد يتطلب التصديق بأن الكثير قد تغير قفزة إيمانية كبيرة.

ما آثار ذلك على الشرق الأوسط؟
هل سيسمح لجماعات القاعدة والدولة الإسلامية بأن تعيد تأسيس نفسها في أفغانستان تحت حكم طالبان؟ هل ستبرز طالبان مرة أخرى كدولة راعية للإرهاب؟ هل ستستمر في السماح باستخدام أفغانستان كحديقة سوق عملاقة في تجارة الأفيون؟
بتعبير آخر، هل ستغير طالبان أساليبها وتتصرف بطريقة لا تشكل بها خطراً على جيرانها وعلى المنطقة عامة؟
من وجهة نظر أمريكا فإن خروجها من أفغانستان يترك محاولاتها لبث الحياة في الاتفاق النووي مع إيران كجزء رئيس من عملها الشرق أوسطي غير المنتهي، (هذا إذا ما وضعنا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي -الذي يبدو عصياً على الحل- على جنب.
إن محاولات إعادة إحياء موقف الخطة الشاملة المشتركة قد شكل حجر الزاوية في جهود إدارة بايدن للمشاركة أكثر في الشرق الأوسط على نحو بناء.
ولكن من ناحية كان يتم عرقلة مثل هذا التقدم. فانتخاب رئيس إيراني متشدد يعقد جهود تحقيق التسوية أكثر فأكثر. والفشل في إحياء موقف الخطة الشاملة المشتركة التي تخلى عنها الرئيس السابق دونالد ترامب سيضيف طبقة من الشكوك -والخطر- إلى حسابات الشرق الأوسط.
لن يكون هناك بعد الآن طرف معني بالتطورات في أفغانستان المجاورة أكثر من القيادة في طهران. لقد كانت علاقة إيران مع طالبان مشحونة أحياناً وتعاونية في أوقات أخرى، نظراً لقلق طهران من سوء معاملة سكان أفغانستان من الشيعة.
فإيران الشيعية والحركة الأصولية السنية طالبان ليسا شريكين طبيعيين.
أبعد من ذلك سوف تستحوذ التطورات الأخيرة في أفغانستان على اهتمام دول الخليج. حيث قدمت قطر ملاذاً دبلوماسياً لطالبان خلال محادثات السلام مع حكومة غني المهزومة. مبادرة السلام هذه -تحت رعاية أمريكية- تم الكشف عنها الآن كي تمثل إحباطاً لأطماع طالبان في العودة إلى السلطة في حد ذاتها.
كيف يمكن لأي مراقب عاقل أن يعتقد أن خلاف ذلك هو أمر محير؟!
ستضطرب السعودية جراء تطورات الأيام القليلة الماضية، لأنه ليس من مصلحة الرياض أن يتم تقويض السلطة الأمريكية في المنطقة. إلا أن لدى السعوديين علاقاتهم القائمة منذ زمن مع طالبان.
في السياسة الخارجية للسعودية أفغانستان ليست لعبة محصلتها صفر.
بشكل عام، إن ضرب مكانة الولايات المتحدة في المنطقة سيكون مقلقاً لحلفائها العرب المعتدلين، مثل مصر والأردن. بالنسبة لهما -مع رواياتهما الخاصة عن تخفي طالبان في الظل- فإن الأحداث في أفغانستان ليست أخباراً جيدة.
كما أن نجاح طالبان في أفغانستان سوف يخلق تعقيدات على زاوية الشرق الأوسط الأكثر احتراقاً، أي في كل من العراق وأجزاء من سورية، حيث تحافظ هناك الولايات المتحدة على وجود عسكري لها، ما سيشكل الخروج الأمريكي منها اضطراباً.
وسيضاف سقوط أفغانستان إلى غم لبنان الذي أصبح بكل المقاييس دولة فاشلة.
بينما ستقوم إسرائيل بحساب تداعيات النكسة التي عانى منها حليفها الأساسي. ولن يبدو في اضطراب الشرق الأوسط مصلحة لإسرائيل.
في هذه المرحلة التالية بالتأكيد لن تنسحب أمريكا من كل السياقات، ولكن فقط من التزاماتها الأكثر ضغطاً عليها. وسيكون هذا وقتاً للتفكير في الدروس التي أخذتها من تجربة أفغانستان الموجعة. وهو درس ينبغي أن يكون أساسياً لأمريكا وحلفائها فيما يتعلق بأن: خوض حروب "دولة فاشلة" مضيعة للوقت ومهدرة للطاقة.
16 أغسطس 2021