الرواية الثورية الغائبة
- تم النشر بواسطة أنس القاضي / مرافئ لا
أنس القاضي / مرافئ -
يجترح مجاهدو الجيش واللجان الشعبية بطولات ومآثر عظيمة واقعية تفوق خيال الروائي، وكذلك صمود الشعب الذي يقدم التضحيات، وأسر الأسرى والمفقودين والشهداء، لوحة من الصمود اليماني لا مثيل لها في القرن الحادي والعشرين، فتبرز لدينا في المجال الثقافي مهمة تخليد هذه الملاحم البطولية وهذا الصمود العظيم، وكذلك جوانب الحزن والمعاناة الإنسانية المُثمرة بالصبر، فنحن بحاجة إلى تصوير الحياة الاجتماعية اليمنية في مرحلة الثورة الشعبية ومواجهة العدوان ومجرى الكفاح الشعبي ضد سلطة العمالة والاستبداد منذ الحروب الست على صعدة باعتبارها مرحلة جديدة من النضال والجهاد الوطني.
الرواية والأسطورة
عرف الناس الكثير عن الثورات العالمية من الرواية لا من كتب التاريخ، فأبرز الثورات في التاريخ الإنساني تخلدت عبر الرواية ثم قدمت كأفلام سينمائية، وحملت الرواية الشخوص والإحساسات والوجدان والأفكار والظروف والتحديات والأشواق والاندفاعات والأحلام والتطلعات التي ألمت بالمجتمع والثوار في ذلك العصر، وتعجز أشكال الكتابة المختلفة باستثناء الرواية عن الإحاطة بكل هذه الجوانب، وأكثر من ذلك تعطي الرواية حافزاً وجدانياً ومعنوياً لاعتناق أفكار الثوار والاستعداد للتضحية مضياً في دربهم.
والرواية عن البطولات والثورات هي بشكل أو بآخر امتداد للون فني قديم عرفته البشرية، وهي الأساطير الميثولوجية، فالأساطير التي تتوارثها الشعوب، تخلد مآثر أبطالهم وملاحمهم البطولية، وتفسر وجودهم، وتنسب أصولهم إلى حيوان أو طوطم أو إله وثني، فالأسطورة التي هي مبالغة في حدث واقعي، تتلخص مواضيعها في جانب البطولات، كبطولات «شمشون» في الرواية التوراتية و»سيف بن ذي يزن» في الأدب الشعبي المصري، و»ملحمة جلجامش» في العراق، والملاحم الإغريقية في «الإلياذة» و»الأوديسة» بشخوصها المتعددة، ثم الميثولوجيا الرومانية التي هي تطور عن الميثولوجيا الإغريقية، وكذلك الميثولوجيا في بلاد الشام «تموز» و»أدونيس» و»عشتار» و»أنانا»، وأسطورة الخلق الصينية، كما أن الشعر العربي الجاهلي هو في أحد أبعاده خطاب ميثولوجي يصور الحياة العامة وصراع الموت والحياة التي تتجسد في الحديث عن عملية الصيد حيث الكلب هو الموت والبقرة الحياة وغيرها من الإشارات الميثولوجية في الخطاب الشعري الجاهلي الذي توارث العرب في الجاهلية مفاهيمه وشكله.
توارثت الشعوب الكثير من الأساطير، وكذلك الأدب الشعبي الذي يعكس طموحات الشعب الكادح والمجتمعات لشخصيات البطل والمخلص، ففي الأساطير والبطولات كان البطل فرداً أو أفراداً، وهذا هو مكمن الخلاف مع الرواية الحديثة الواقعية حيث الشعب والمجتمع هو البطل وحيث الأحداث التاريخية هي الخالدة لا الخيال، وحيث البطولة في الملموس التاريخي لا في التصور والرغبة.
روايات خلدت الثورات
على سبيل المثال لا الحصر، تخلدت الثورات العالمية في الكثير من الروايات، كالتالي، الفرنسية: «البؤساء»، و«قصة مدينتين». والروسية «الدون الهادئ»، و«كيف سقينا الفولاذ»، و«الفجر هادئ هنا»، و«قصة إنسان حقيقي»، و«الأم»، و«بدون اسم»، و«10 أيام هزت العالم»، و«متى يطلع الفجر يا رفيق»، و»الثلج الحار»، و«الطلقات الأخيرة». العراقية: «الأيام المضيئة»، و«النخلة والجيران»، و«شقة في شارع أبو نواس». الفلسطينية ـ اللبنانية «المتشائل»، و«أطياف»، و«الطنطورية»، و«رجال الشمس»، و«فلسطين». المصرية حول الحرب مع الكيان الصهيوني: «الرصاصة لاتزال في جيبي»، و«خطوات على الأرض المحبوسة»، و«الأسرى يقيمون في المتاريس»، و«الرفاعي». الجزائرية: «اللاز»، و»زمن العشق والأخطار». البرازيلية: «فارس الأمل». المكسيكية: «أهل القاع». ورواية «وردة» عن الثورة في ظفار، وروايات عزيز نيسين عن الحركة الثورية في تركيا: «عاش الوطن»، و»ذكريات من المنفى». ورواية «مملكة هذا العالم» عن الثورة في هايتي ـ أمريكا اللاتينية.. إلخ الثورات والروايات.
فيما أصدرت إيران عدداً من المسلسلات والأفلام التي تخلد الثورة الإسلامية، منها فيلم «كيميا»، وفيلم «الدفاع المقدس»، وفيلم «المبعدون»، وفيلم «كاني جانغا»، وفيلم «الفيلائيون»، وفيلم «المراقب». رغم أن هذه الأفلام لم تبن على كتب روايات بل كتبت كسيناريو مباشرة، إلا أنها صورت أحداث الثورة الإيرانية والحرب العدوانية المضادة وخلدت بطولات الشعب الإيراني بصورة عميقة، والسينما الإيرانية في تطور مستمر وتحصد الجوائز.
الرواية والثورة السوفييتية - الروسية
تعد الثورة الروسية (1905ـ1917)، ثم الحروب الوطنية العظمى ضد الغزو النازي الألماني «22 يونيو 1941 و9 مايو 1945»، من أكثر الثورات والحروب في التاريخ التي كتبت عنها روايات ترجمت إلى مختلف اللغات وحصلت على جوائز عالمية، وعُرف الكتاب السوفييت عالمياً واكتسبوا شهرتهم من أعمالهم هذه، وقد ارتبط بالثورة السوفييتية تطور الأدب الواقعي والواقعية الاشتراكية، فعرفنا كبار الأدباء السوفييت الذين يحتلون موقعاً مميزاً في الأدب العالمي، منهم: ميخائيل شولوخوف، وماكسيم غوركي، وبوريس فاسلييف، وألكسي تولستوي، وقسطنطين سيمونوف، ونيقولاي أوستروفسكي، وبوريس بوليفوي، ويوري بونداريف، وغيرهم ممن وصلوا إلى العالمية ليس فقط لعبقريتهم في الرواية، بل لأنهم رسموا لوحة لصمود شعبهم، وقد قامت هذه الروايات بدور تربوي ثوري عظيم الأثر للشباب الثوري في العالم، ومازالت حتى اليوم منبعاً لنهل الصمود والتأسي الإنساني بالثوار الكادحين الشعبيين ضد الإمبريالية الغربية.
لتتخلد بطولات الشعب اليمني
يكتسب التوثيق الأدبي في شكله الروائي والمسرحي والسينمائي أهميته، من أثره التربوي العميق وقدرته على الامتداد إلى المستقبل والاحتفاظ بذات التوهج الوجداني والفكري، على عكس بقية أشكال الإنتاج من زامل ومقالة أو فيلم وثائقي التي تفقد فاعليتها في التأثير على الإنسان كلما تقدمت السنون، وتصبح فقط مجرد معلومة للمعرفة الذهنية، لا دافعاً للنشاط والحركة.
كما تكتسب الرواية أهميتها من حيث كونها إعادة تكوين ومحاكاة لفظية وصورية تعبيرية عن كلام البشر وأحكامهم على الحياة والأحداث، فما يدور على لسان الروائي أو الشخصيات يعكس اللغة الحسية للبشر التي تعبر عن أحاسيسهم ومشاعرهم وأفكارهم وأمزجتهم، فالأديب من خلال إعادة صياغة كلام البشر ينقل كل ما شاهده وقاله وشعر به البشر الواقعيون في الحياة الاجتماعية مما يكسبه واقعية، ومن خلال التعبير عن كل هذا بعفوية لغة الروائي يتولد لدى الناس انطباع بأنهم لا يتلقون كلام ومشاعر شخصية اختلقها الأديب، بل كلام شخصية حقيقية، ومن هنا ينشأ الشعور بالتعاطف مع شخوص الرواية والمحبة لهم والخوف عليهم كأنهم بشر أحياء بيننا.
من المهم في هذه الفترة توثيق بطولات الجيش واللجان الشعبية، وقصص الجرحى على ألسنتهم، وقصص الشهداء من رفاقهم، فما قد يعتبره المجاهدون شيئاً اعتياديا لا أهمية له بفعل الممارسة اليومية، هو غير اعتيادي بالنسبة للشعب، فمن الضروري توثيق هذه القصص، من أجل أن تمثل بنك معلومات حقيقية واقعية، تُبنى عليها في المستقبل أشكال إبداعية أدبية وفنية مختلفة، وحتى اليوم صدر فقط كتابان لمعتقلين في سجون مأرب عبارة عن مذكرات شخصية، كتاب «رحلة خلف القضبان»، وكتاب «جحيم مأرب - في ظل الاحتلال»، وهي من الحجم الصغير ومهمة باعتبارها تجارب شخصية، إلا أنها لا تكفي، فما يحدث في السجون من تعذيب يعد جزئية صغيرة في عالم الرواية الواسع.
الثورة تاريخ الشعب اليمني
تاريخنا الحديث كله مآثر بطولية وجهاد وطني وكفاح منذ دخول القائد الوطني الإمام يحيى حميد الدين إلى صنعاء وطرد العثمانيين منها مطلع القرن العشرين، مروراً بالتمردات والانتفاضات والعمليات البطولية ضد المستعمر البريطاني في جنوب الوطن التي استمرت حتى تفجر حرب التحرير الشعبية الوطنية في 14 أكتوبر 1963 بقيادة الجبهة القومية، ثم حمل الاشتراكيون في شمال الوطن راية النضال الحقة ضد سلطة العمالة ومن خلفها السعودية عبر تنظيمهم الجبهة الوطنية الديمقراطية اليمنية، كل هذه البطولات التي حدثت في القرن العشرين هامة وبحاجة إلى تخليد أيضاً، إلا أن صمود شعبنا اليوم في القرن الحادي والعشرين في ظل الهيمنة الأمريكية وعدم وجود «معسكر شرقي» داعم ولا «منظمة عدم انحياز» ولا اتقاد ثورة عمالية عالمية و»حركة داعمة للسلم» وحق الشعوب في تقرير مصيرها، في هذه الظروف التاريخية التي يغلب عليها طابع الرضوخ للإمبريالية والصهيونية، فإن صمود شعبنا لا مثيل له في ظل قيادة ثورية مؤمنة صادقة.
بطولات دون ذكر!
طوال ستة أعوام اجترح أبطالنا الكثير من البطولات الشاهدة على بأس الشعب اليمني في دفاعه عن ثورته ووطنه وعن صلابة الثقافة القرآنية التي حملها المقاتلون، مما خلدتها الكاميرا من مقاطع وصور، وهناك ما لم تلتقطه الكاميرا وما لم ينشره الإعلام الحربي، وهو أكثر، إلا أنه ليس هناك انعكاس لهذه البطولات على الصعيد الأدبي، وما يوجد لا يزيد عن مقالات ومنشورات وقصائد شعبية وفصحى في أحسن الأحوال، وهذه الأشكال الإبداعية مع أهميتها، إلا أنها لا تغطي الفجوة الإبداعية الروائية والقصصة والمسرحية، وكتابة السيناريو، هذا الغياب فادح وغير مبرر، فالأديب المترع بالعاطفة الإنسانية يُفترض به أن يكون أكثر وطنية وحساسية تجاه العدوان والغزو الأجنبي الذي يتهدد بلده، وقد بلغت العاطفة الوطنية لبعض الأدباء حد الانتحار ليس من قبيل الخوف، بل من عدم تصديق أن الوطن يتم غزوه وحكمه من قبل الأجنبي. الروائي الياباني الكبير «يوكيو ميشيما»، عندما عجز عن استنهاض الجنود للانقلاب على الحكومة المدعومة من الاحتلال الأمريكي بعد أن خطب فيهم في أحد المعسكرات، انتحر على طريقة «الساموراي» بكل بطولة، مطلع السبعينيات، رفضاً لحكم الهيمنة الأمريكية على بلده، وكذلك الشاعر اللبناني الكبير خليل حاوي الذي انتحر غداة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982م.
المصدر أنس القاضي / مرافئ لا