طاهر علوان الزريقي / مرافئ -
إن أزمة الدراما الإبداعية ووضعها الكئيب جزء من أزمة تشمل الثقافة بعامة. ولا أظن أننا بحاجة إلى البرهنة على أزمة الثقافة وما تعانيه هي الأخرى من حصار وتهميش منهجيين. وإنها لمفارقة غريبة أن يتم ذلك الهبوط الفني المستمر والإسفاف الثقافي المتبادل والمدهش بين المسلسلات الدرامية الموسمية، والركون إلى الجاهز المألوف والرتابة، في الوقت الذي توفرت فيه ثروات هائلة من المعارف الإنسانية والمعلومات الفنية الرائعة؛ ثروات حولت العالم إلى قرية واحدة. هذه التحولات وتراكم تلك الثروات كان يأمل المرء أن نستفيد منها ونحقق التطور الدرامي والفني والتقني شكلاً ومضموناً. ولكن الدائم والقائم والمستمر حتى اللحظة في عالم الإبداع الدرامي والموسمي عندنا هو نهج البقاء للأسوأ، وليس للأصلح أو للأقوى والمتطور، مع كامل الاعتذار الشديد من داروين سيد التطور.

الدراما ليست بخير
وهل نحتاج إلى الاستخفاف بالعيون أو بالعقول حتى نقول إن الدراما الإبداعية الفنية الموسمية بخير ولا تعاني الوعكات الموسمية والحمى والهذيان المتواصل طوال شهر رمضان، وأنها تزداد تألقاً في جوهرها وتفهمها للواقع الاجتماعي وشروط العمل الفني الإبداعي ومقتضياته التقنية والتأليف الدرامي وبنيانه وتركيباته وتكنيكه المعقد، وأن أسلوب المعالجة الفنية المتميزة تزداد تطوراً ووضوحاً وإبداعاً، والتوسع الدائم والمستمر في الأعمال الدرامية المتنوعة في أفكارها وأساليبها الدرامية الفنية في إخراجها وتأليفها وأدواتها وأدائها المتقن، مدركة لمشاعر الجماهير وتذوقها الجمالي واحترام عقليتها، واستطاعت بجدارة أن تستولي على عقول وعواطف المشاهدين بقوة المضامين التحليلية والأسلوب الفني الممتع والأفكار التي لا تتوقف أبداً عند أي منعطف أو تاريخ أو موقف تتجدد باستمرار وتقوم بدورها التنويري ووظيفتها الثقافية الشاقة والمضنية على الصعيد الإنساني روحاً وجسداً، تبحث بشكل دائم عن جذور الإبداع الدرامي الإنساني وغصونه وأزهاره، بحثاً عن خلاصٍ راقٍ للفن الدرامي الإبداعي الجميل والقيام بالدور الفني والإنساني، مهما كانت الإمكانيات شحيحة والظروف المعيشية قاسية والحياة صعبة والرواتب شبه مقطوعة والقصف الدموي مستمرا، وكل عوائق الدنيا السلبية تتكالب على ذلك الإنسان المطحون البائس المضطرب. ومع ذلك، وبالرغم منه، الدراما الجيدة تخلق لديه قابلية التذوق للعمل الدرامي المتفوق والمستوفي للمقاييس والمعايير الفنية والموضوعية والمكتمل في شكله ومضمونه ويعالج أسباب ومسببات طحنه وبؤسه، وأيضاً تمنحه بهجة حسية عالية، بالرغم من الظروف الدموية التي تقف بقسوة بينه وبين متعته وسعادته وتذوقه الجمالي.

مهام الدراما الملتزمة والفنان الحقيقي
المطلوب والمفروض في الوقت الراهن بالذات، وفي ظل العدوان والقصف والحصار والقتل والدمار والأحداث الدموية، إنتاج دراما متمكنة من أدواتها الفنية والموضوعية تعكس تلك الأحداث الدموية والقاسية بقالب فني تبحث عن رؤى وتجسيدات باهرة في عمق الأحداث وغابات الروح الإنسانية وسراديبها السرية الموغلة في العمق والاتساع.
تلك هي مهام الدراما الملتزمة بقضايا المجتمع، بقضايا الإنسان المغلوب على أمره. تلك هي مهام الإنسان والفنان الحقيقي والمكتشف والفاتح الذي لا يركن إلى الجاهز المألوف ولا يكتفي بمجرد الكينونة السائدة المعطاة للجميع، ولكنه يسعى على الدوام، دائباً إلى منح الكينونة معنى التجديد والتجريب والتجاوز، مخترقاً المحظورات والممنوعات والأفكار العتيقة المحنطة، مفتوناً بالطزاجة والولادات المدهشة والتكوينات المفاجئة، يطرق كل الأبواب، يفتحها على الإبداع والجمال، يتجاوز المفاهيم والأساليب المكررة، يعبر بفاعلية جمالية عما هو أساسي وجوهري في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، تتفتح مداركه وأحاسيسه وأدواته الفنية وجميع وسائله على التجارب ذات الأبعاد الفنية والحيوية والإنسانية، معتبراً الفن الدرامي عملية خلق وإبداع واستيعاب للشروط الموضوعية والفنية وللأحداث الواقعية وانعكاساً لأرقى أشكال الوعي الإنساني يعبر عن العلاقات الجمالية بين الإنسان والواقع ويساعد على تعميق الوعي والحس الجمالي والإنساني والحضاري لدى المشاهد دون شطحات موسمية واستخفاف بالعقول واستجداء للعواطف.

إهمال شبيه بالازدراء
الإبداع الدرامي أكثر الفنون دلالة على المستوى الثقافي والحضاري عند شعب ما أو عند مجتمع معين، ويُقال «إذا أردت معرفة مستوى حضارة أمة فتعرف على فنونها». إن الفن الدرامي والفنون بشكل عام هي الواجهة الحضارية لأي مجتمع من المجتمعات. إذن، لابد من الاهتمام بالفن الدرامي ورعايته وتضييق المساحات التي تجبره على التقوقع في هوامش مهملة ومعتمة، بينما تتوالد التفاهات المعلبة ويتكاثر الاهتمام بها، والفن الدرامي يتقهقر ويعاني من الضمور وفقر الدم والعوز المادي والمعنوي، فالمخصصات التي تغذيه تضمر وتنكمش سنة بعد سنة، لا توجد رعاية، بل يُحيط به إهمال شبيه بالازدراء، وغالباً ما يتستر وراء خطاب تشجيعي منافق. مادمنا لا نريد أن نخادع أنفسنا فعلينا الاعتراف بأن الفن الدرامي في عالمنا الراهن بعيد عن أن يكون ذلك الفن الذي يهبنا فسحة للتأمل والحوار ووعي انتمائنا الإنساني العميق، فالفن الدرامي ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني والحضاري فحسب، بل هو شرط من شروط قيم هذا المجتمع وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره، ووظيفة اجتماعية تشبع الحاجة الجمالية للإنسان وتساعده على صياغة الواقع واحتوائه.

عيوب قاتلة
الفن الدرامي وثيق الصلة بالحوار بين الجماعات وتعميم الديمقراطية واحترام التعددية وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء، يحثنا على أن نحيا في عالم إنساني واحد متضامن، تتقاسم شعوبه خيرات الأرض دون استغلال، وتزدهر فيه إنسانية الإنسان دون ظلم أو عدوان. الدراما مرتبطة بشكل مباشر بحياة الناس وبعلاقاتهم، مرتبطة بالجمال والقوة الإنسانية الإبداعية، مرتبطة بالقدرة الفائقة على تحريك الجماهير وتوعيتها وتثقيفها وربطها بالواقع وبالعلاقات القائمة، وضد الاستغلال والظلم في توزيع الثروات وتعميق الهوة بين دول فاحشة الغنى ودول فقيرة وجائعة، وتوجهات تلك الدول العدوانية في تدمير -دون رحمة- كل أشكال الحياة الإنسانية والتلاحم داخل الجماعات وتمزقها إلى أفراد تضنيهم الفرقة والكآبة ولا يجرؤون على مجرد الحلم بحياة أفضل. مهمة الإبداع الدرامي إنارة الطريق وخلق الوعي لجماهير الجياع بالكيفية التي يتحركون بها لمواجهة القوى التي تعرقل تطورهم، وبأساليب درامية وعبر معايير ومقاييس فنية ملتزمة بالعمل الدرامي ومقتضياته التقنية والموضوعية، والابتعاد عن النصوص الهزيلة والرتيبة والمملة والمكونة من عدة حوادث متداخلة وملفقة ومحشوة قسراً تتعاقب دون أي ترابط درامي وعدم ديناميكية أحداثها، وتصاعد خطها الدرامي وبلوغه الذروة الفنية المطلوبة بحيث يستكمل العمل الدرامي شروطه التقنية والموضوعية والجمالية وأسلوبه المميز في معالجة الحدث الدرامي دون رتابة مملة أو افتعال أحداث خارج السياق والتسلسل الدرامي، ووحدة النص دون ضجيج أو صراخ أو زوائد مفتعلة لا تطور وحدة الحدث درامياً.
إن هذه العيوب القاتلة لا تخلق دراما جادة وقوية بنصوصها الخلاقة ومضامينه الاجتماعية الهادفة واستيعاب شروط العمل الدرامي وتقنياته المعقدة. كل خطوة في اتجاه الواقعية هي غزو لعالم جديد بمضامينه الهادفة وتقنياته المتطورة، كل خطوة في اتجاه العمل الدرامي المتكامل هي خطوة لتأسيس أعمال ومسلسلات درامية متواصلة ومستمرة طوال العام وليس مسلسلات موسمية خلال شهر رمضان هزيلة فجة فقيرة ببنيانها وتركيبها الفني الضعيف ومواضيعها الساذجة وبأحداثها الملفقة، ومن خلالها نريد أن نصب الوعي والثقافة والمتطلبات الجمالية والروحية والفكرية وما تيسر لنا من قيم ومفاهيم، وما يحلو لنا من مشاعر وعواطف في وجدان المشاهد في جوهر الروح البشرية، وكأن الحواس والمشاعر مجرد ثقوب في جسم الإنسان يتم تعبئتها بكل ما نريد وعندما نريد.

ليس أكثر من «تحصيل حاصل»!
لا وجود لدراما حقيقية لدينا، الدراما تواصل يومي وخلق جمهور يعتبر الدراما جزءاً من حياته وضمن خططه ومشاريعه وبرامجه، الدراما الحالية موسمية وتعاني من وعكات متعددة وأزمات متواصلة في السيناريو، وهو الأهم لإنجاز أي عمل درامي، والإخراج لا يمكن أن يكون في المستوى المطلوب بتلك النصوص الهزيلة بشخوصها الدرامية الباهتة والشاحبة والمسطحة والخالية من العمق والأبعاد ونمطيتها ومحدودية شخوصها التي تؤدي إلى عجز الممثلين عن تطوير قدراتهم الأدائية والحركية مما ينمط ويكرر أسلوبية تمثيلهم ويجعلهم يكررون أنفسهم في محاكاة شخوص ليس لها بعد درامي على الإطلاق.
الدراما منذ البداية عانت من قمع السلطة، ولا نريد أن نستغرق في سرد ذلك التاريخ الكئيب للدراما الإبداعية، لكننا سنشير إلى عدد من المعوقات ونفتح جزءاً بسيطاً من صفحة التاريخ الذي هو العلم الوحيد الذي نعرفه ونعترف به، ولسنا بحاجة إلى أن نورد الأرقام والإحصائيات حتى نتأكد من أن ما نراه الآن ليس أكثر مما يسمى «تحصيل الحاصل».
لقد عانت الدراما اليمنية الجادة والمعبرة على المستوى الفكري والسمو الوجداني والثراء الروحي والطموح الإنساني اللامتناهي لتحقيق الكمال وتجسيد الحقيقة الإنسانية على أرض الواقع، في تلك المرحلة لم يستطع الفنان الحقيقي الجاد الملتزم أن يؤكد حريته في أدوار عظيمة، إذ كان القائم يمضي بكل سلبياته، ولا يظل في البال سوى الحلم بمولود جديد غير مشوه، وصورة غير مشوشة للإبداع الدرامي المتعثر في حركته، ومحاولته إيجاد حلول خجولة للعديد من المشاكل والصعوبات التي تأتي من خارج الفعل الدرامي، أي أن الدراما كانت تعيش مرحلة مهادنة مع السلطة الحاكمة وسيفها المسلط على هذا المجال الإبداعي الهام، حيث كانت الرقابة مشددة على الإنتاج الدرامي الحقيقي والجاد، مشددة على الإنتاج الملتزم بقواعد وشروط العمل الدرامي والملتزم بقضايا وهموم المجتمع ومعاناته. لقد تمكنت السلطة من كبح جماح المبدعين الدراميين من دافعوا عن نمط لا يمكن تنميطه يولد جديداً في كل عمل ينتجه أصحاب الموقف والرأي المعاكس لتوجهات السلطة ومحاصرتهم حتى لا يندفعوا في طريق الانتقاد والمواجهة أكثر فأكثر، وكانت الرقابة على المصنفات الفنية مرضاً خطيراً يهدد الدراما الإبداعية الملتزمة في الصميم ويجبرها على التقوقع والانزواء لرفضها القيام بدور المداهن المتملق.
رقابة السلطة من أبرز العوائق التي كانت تقف ضد تطور الإبداع الإنساني الدرامي، وأي عمل درامي جيد كان يصطدم بلائحة طويلة من المحظورات والممنوعات تقيد حركة المؤلف والمخرج معاً.