وليد مانع / لا ميديا -
عشرات الروايات عن الإمام علي (ع) والإمام الصادق (ع) وغيرهما، حول فضائل "ظهر الكوفة"، دفعت الكثير من المسلمين، الشيعة في الغالب، إلى نقل موتاهم ليدفنوهم هناك، في حياة الإمام علي (ع) وبعد استشهاده. نعرف ذلك بالتأكيد حين نعرف أن بين من يروى أنهم يرقدون هناك، في "وادي السلام": نبي الله هود (ع)، نبي الله صالح (ع)، صاحب الزمان (ع)، الإمام زين العابدين (ع)، رقية بنت الحسن (ع)، الإمام المهدي، محمد بن الحنفية، زيد بن أرقم، عدي بن حاتم الطائي...
لذلك أصبحت "وادي السلام"، أو مقبرة النجف، أوسع مقبرة في العالم، وتضم حوالى 6 ملايين قبر. ويقال إن ما بين 15 إلى 20 ألف جنازة تقريبا تدخل "وادي السلام" سنوياً، من بلدان وأقطار شتى.
وتضم "وادي السلام" قبور أنبياء وصحابة وملوك وسلاطين وتابعين وأمراء الحمدانيين والفاطميين وسلاطين البويهيين والصفويين والقاجاريين والجلائريين ووزراء وشعراء وعلماء وعظماء... وقد أشار الشيخ الشرقي إلى هذا شعرا بقوله:
سل الحجر الصوان والأثر البادي
خليلي كم جيل قد احتضن الوادي
فيا صيحة الأجيال فيه إذا دعت
ملايين آباء، ملايين أولادِ
ثلاثون جيلاً قد ثوت في قراره
تزاحم في عرب وفرس وأكرادِ
تقع مدينة النّجف الأشرف على الطريق البري القديم بين بغداد ومكة المكرمة (حوالى 161 كيلومترا إلى الجنوب الغربي من العاصمة بغداد اليوم). ويسكنها حوالى مليون ونصف مليون نسمة حسب تعداد 2011، كخامس مدينة عراقية من حيث عدد السكان.
تتربع النجف على رابية مرتفعة من أرض رملية فسيحة ترتفع عن سطح البحر حوالى 70 مترا، وتطل من الجهة الشمالية الشرقية على مساحة واسعة من القباب والقبور حيث مقبرة وادي السلام، وتشرف من الجهة الغربية على بحر النجف الجاف، ويشاهد القادم من مسافة بعيدة مرقد الإمام علي (ع) وسط المدينة. تعتبر النجف واحدا من أهم مراكز التعليم الديني، وذلك لوجود حوزتها العلمية، إحدى أقدم الحوزات الشيعية في العالم (تأسست على يد الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري، وتخرّج فيها الكثير من العلماء أمثال السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي والسيد السيستاني). وبوجود الكثير من علماء الدين الشيعة وأغلب المراجع الكبار في الفقه الإسلامي، صارت قبلة الآلاف من طلاب العلوم الإسلامية.
تاريخياً تعود مدينة النجف إلى عصور قديمة، ولكن بعد بناء القبة على قبر الإمام علي (عليه السلام) بدأت الهجرة إلى هذه المنطقة، وأخذت تتسع عمارتها.
وعلى امتداد تاريخها عُرِفت النجف بعدة تسميات، وذلك نتيجة لامتداد تاريخ المنطقة إلى ما قبل الإسلام بمدة زمنية طويلة، قد لا يمكن تحديدها بحد زمني معين. اختلفت تلك التسميات في مبناها ومنحاها؛ إلا أنها اجتمعت وأصبحت من أسماء النجف فحسب، وهي: 
1 - النجف: وهو اسم عربي معناه "المكان المستطيل لا يعلوه الماء"، وأطلق قديماً على المنطقة التي تعرف بـ"ظهر الحيرة" أو "ظهر الكوفة". وذهبت بعض الروايات المنقولة عن الأئمة (عليهم السلام) إلى أن النجف هو الجبل الذي قال عنه ابن نوح: "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء"، وكان في المنطقة بحر يسمى بحر "الني" ثم جف بعد ذلك فقيل "ني جف"، فسمي "نيجف"، ثم صاروا يسمونه بعد ذلك "نجف" تخفيفا على الألسن.
2 - بانقيا (بكسر النون)، وقد أشار إليه الشاعر ميمون بن قيس بقوله:
فما نيل مصر إذا تسامى عبابه
ولا بحر بانقيا إذا راح مفعما
وتقول بعض الروايات إن إبراهيم عليه السلام مر ببانقيا يريد بيت المقدس فاشترى هذه الأرض ودفع فيها غنيمات كن معه، والغنم بالنبطية يقال لها "نقيا".
3 - الجودي: وهو المذكور في القرآن الكريم: "واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين"، أي أنه الجبل الذي استوت عليه سفينة نوح (ع)، لما نضب الماء.
4 - الطور: وفي اللغة هو الجبل.
5 - الربوة: وفي الأخبار عن سليمان بن نهيك عن أبي عبد الله الصادق (ع) في قول الله عز وجل: "وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين" قال إن الربوة نجف الكوفة والمعين الفرات. وهذا ما أشار إليه ابن عساكر عن محمد بن مسلم.
6 - الظهر: "ظهر الحيرة" أو "ظهر الكوفة". وارتبط ظهور التسميتين بتأسيس مملكة الحيرة العربية، أي منذ القرن الثاني الميلادي، حيث كانت تمثل النجف الوجه الحضاري والعمراني لهذه المملكة.
7 - المشهد: من التسميات التي عرفت بها مدينة النجف بعد ظهور القبر الشريف وعمارته. والمشهد هو "كل مكان يشهده البشر ويحتشدون فيه"، وهي صفة غالبة على مرقد الإمام علي (ع).
9 - وادي السلام: وتعني أرض الطمأنينة والراحة، فكل من زاره دخل قلبه الخشوع والهيبة.
وإلى مقبرة وادي السلام، فإن من أبرز معالم النجف "بحر النجف"، ويقال إنه كان يسمى بحر "الني" قبل أن يجف، وهو عبارة عن خط انكساري حدث بحركة انكسارية في قشرة الأرض أدت إلى هبوطها، يدل على ذلك الشكل الطولي للحافات الشرقية المرتفعة.
وبحسب الروايات التاريخية، هو بحر كبير إلى الغرب من النجف، جفّ في زمن غير معلوم، ولكن المؤكّد أنه كان جافا في عهد المناذرة، واستمر جفافه حتى 1240 للميلاد، إذ صب فيه نهر الحميدية، فتكونت بحيرة سميت بحر النجف، وكانت ترد إليها السفن من البصرة، وفي سنة 1889 طمي مجرى النهر، مما أدى إلى جفاف البحر مرة أخرى، ليصبح أرضا خصبة يُزرع فيها النخيل والأشجار وتُسقى من نهر الفرات.
أخيرا، فقد روي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: "ظهر الكوفة أول بقعة عُبد الله عليها"، وروي عنه قوله أيضا: "ما من مؤمنٍ يمُوتُ في بُقْعَةٍ من بقاعِ الأَرضِ إِلَّا قيلَ لرُوحِهِ: الحَقِي بوادي السَّلامِ، وإِنَّها لَبُقْعَةٌ من جَنَّةِ عَدْنٍ"، وأنه (عليه السلام) دعا الله أن يجعل قبره في هذا الموضع.
وبالفعل، فإلى عدد كبير من المعالم التاريخية والحضارية لمدينة النجف، فإن الأهم هو الصحن العلوي، العتبة المقدسة، أو الروضة الحيدرية، التي تتوسط المدينة، وسنخصص لهذا الموضوع حلقة قادمة.