خاص دمشق: أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
لا يوجد شارع في العالم يكتنز من قصص التاريخ والأحداث، وشهد أحداثاً غيرت وجه العالم، كما هو الشارع المستقيم في دمشق، والمسمى زوراً وبهتاناً "شارع مدحت باشا".
فالسوق الموجود في الشارع، والذي يحمل الاسم نفسه (سوق المستقيم)، بني في القرن الأول قبل الميلاد، وتحديداً في العهد  الروماني، خلال حكم "بومييوس" عام 64 (قبل الميلاد)، بطول 1570 متراً وعرض 26 متراً داخل السور، يمتد من غرب المدينة القديمة إلى شرقها قاطعا إياها إلى قسمين.
سماه الرومان باسم "فيا ريكتا" (Via Recta) ويعني "الشارع المستقيم"، وكان يعتبر الشارع الرئيسي لمدينة دمشق القديمة، وبني بحسب أسلوب بناء المدن اليونانية والرومانية، بالشكل الشطرنجي الهلنستي، والمقسم بالشوارع الصغيرة إلى أحياء صغيرة.

حكايات عن أقدم عاصمة في التاريخ
كان الشارع يتألف من طريق واسع في الوسط يقابل فتحة الباب الوسطى، ورواقين جانبيين مسقوفين يقابلان الفتحتين الصغيرتين للبابين الشرقي والغربي، تحملهما الأعمدة المتوجة بتيجان كورنثية جميلة (مازال يظهر بعضها خلال أعمال الحفر والبناء في الشارع) وكانت المخازن التجارية موزعة على طول هذا الشارع بمحاذاة أروقته.
في الطبقات الدفينة لهذا السوق حكايات عن دمشق (العاصمة الأقدم في التاريخ)، تتحدث عن العهود التي مرت بها، منذ عهد ما قبل الميلاد مروراً ببدء وانتشار الديانة المسيحية وانتشار الإسلام والدولة الأموية والأندلس والعباسية ودويلاتها، وصولا إلى الحقبة العثمانية وحتى الوقت الحاضر.

سمي زورا باسم من أحرقه
فــي العهد العثماني، قام الوالي مدحت باشـــا بتوســيع الشارع على حســـاب الدور السكنية، سنة 1878. لكن هذا الوالي (الذي يسمى اليوم السوق باسمه زوراً) قام بحرقه عندما رفض سكان المنطقة وأصحاب المحلات إخلاء منازلهم من أجل أعمال التوسيع، وأتى الحريق على معظم السوق، بسبب السقف الخشبي الذي كان يغطيه، وعندما تم تجديده في أواخر العهد العثماني تمت تغطيته بالحديد والتوتياء، حماية له من الحرائق.‏

مركز انتشار الإيمان المسيحي
ومع أهمية النواحي التاريخية والأثرية والعمرانية للسوق، إلا أن لهذا السوق بعداً روحياً يتعلق برؤيا الإيمان للقديس بولس الرسول التي كانت من أهم محطات انتشار الإيمان المسيحي في العالم.
حدثت القصة عندما كان شاؤول الطرسوسي، المولود في مدينة طرسوس السورية (المحتلة حالياً من قبل الأتراك)، يكرس حياته لاضطهاد التلاميذ الأوائل ليسوع المسيح (عليه السلام).
جاء شاؤول من القدس إلى دمشق حيث كان يتواجد معظم تلامذة السيد المسيح، لاعتقالهم وإعادتهم إلى القدس، وفي مكان يقع حالياً عند بلدة "كوكب" في ضواحي دمشق الغربية ظهر له السيد المسيح مع إشعاع نوراني قائلاً له: "شاؤول، لماذا تضطهدني؟!"، فأدى هول المشهد والنور المنبعث، إلى إغماء شاؤول وإصابته بالعمى.

من شاؤول إلى بولس الرسول
تم إسعاف شاؤول إلى دمشق، ودخلها من الشارع المستقيم، وقام تلميذ السيد المسيح، الطبيب حنانيا، بمداواته حتى استعاد وعيه ونظره بعد ثلاثة أيام، ليتحول بعدها إلى أكثر المؤمنين برسالة السيد المسيح، وتحول من شاؤول إلى بولس الرسول، وبدأ التبشير برسالة السيد المسيح، ليصبح ثاني أهم شخصية في تاريخ المسيحية بعد السيد المسيح نفسه.
بعد إيمانه المسيحي، تعرض القديس بولس للملاحقة من قبل الرومان واليهود، فتم تهريبه بسلة من فوق سور دمشق إلى مكان قريب من الباب الشرقي لدمشق، واتخذ من كهف خارج السور مكاناً للعبادة قرب باب كيسان، وهو المكان الذي أصبح كنيسة معروفة باسمه، ومازالت قائمة حتى الآن، ليبدأ رحلته الجديدة من دمشق كمبشر بالديانة المسيحية في العالم.
تحول بيت حنانيا، الذي أسعف إليه القديس بولس، إلى كنيسة تحمل الاسم ذاته (كنيسة حنانيا)، مع كنيسة القديس بولس عند باب كيسان، من أقدم كنائس العالم وأكثرها قدسية، لأنهما تعودان إلى تاريخ السيد المسيح مباشرة، وأصبحتا محجا للمسيحيين من مختلف بلدان العالم، وقد حج البابا الراحل يوحنا بولس الثاني إلى الكنيستين خلال زيارته لدمشق في العام 2001.

أهم مقرات المسيحية في العالم
مازالت حتى الآن تتوزع الكنائس القديمة على جانبي الشارع والأماكن المتفرعة عنه، وأصبح بعضها من أهم مقرات المسيحية في العالم، ومنها "الكنيسة المريمية" أو "الكاتدرائية المريمية"، التي تقع على يسار الطريق المستقيم المتجه إلى باب شرقي، وهي اليوم مقر "بطريركية أنطاكية" وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، و"كاتدرائية سيدة النياح" وهي اليوم مقر "بطريركية أنطاكية" وسائر المشرق للروم الكاثوليك.
وفي شارع باب توما، المتفرع من الشارع المستقيم، تقع "كنيسة أنطاكيّة" وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس.

سوق متنوع
يشتهر "السوق المستقيم" اليوم -والذي يمتد على طول الشارع- ببيع المصنوعات النسيجية، والعباءات الرجالية المذهبة، والكوفيات، والأقمشة الحريرية، والصناعات المحلية المميزة، والشراشف والديباج والمناشف والستائر، ومحلات البيع بالجملة، وكذلك محلات صنع وبيع المشغولات النحاسية والموزاييك والمصدفات، ومحلات بيع القهوة والبن والمكسرات، ومحلات العطارة والأعشاب، ومحلات صنع وبيع التحف والهدايا والسيوف والمصنوعات والمشغولات الشرقية الدمشقية الشهيرة.

مقام ابن جبل في "مسجد السادات"
وللشارع ميزة أخرى وهي أنه يضم في جنباته وفي الحارات والشوارع المتفرعة منه الكثير من المساجد القديمة، منها "مسجد السادات"، الذي يضم مقام الصحابي "معاذ بن جبل"، وبعض المدارس والفنادق الصغيرة، والخانات القديمة، وقبور بعض الصحابة والخلفاء والقادة والمفكرين، إضافة إلى البيوت الدمشقية العريقة بطراز بنائها الدمشقي المعروف عبر التاريخ بجماله وثرائه المعماري والروحي، ومنها قصر النعسان ومكتب عنبر، وهو عبارة عن بيت دمشقي رائع الجمال يمثل نموذجاً للبيت الشامي الدمشقي، وقد أصبح الآن قصرا للثقافة، ويتميز بساحاته الفسيحة ونوافذه ذات الزجاج الملون والزخارف، وبجماليات كثيرة. لكن من أشهر البيوت التي تقع على الشارع اليوم البيت الذي ولد فيه الشاعر الدمشقي نزار قباني ومنه استمد عشقه لدمشق.
كما تتفرع منه شوارع جانبية كثيرة، أهمها شارع الأمين وشارع البزورية وشارع باب توما الأثري، وكذلك الأسواق التاريخية، منها سوق الحرير، سوق البزورية، سوق الخياطين، سوق النسوان، وسوق الصوف.
وقد تحولت الكثير من هذه البيوت إلى مطاعم ومقاهٍ وفنادق وغاليريات ومعارض للفنون، تمتزج فيها جماليات الجلسات واللقاءات، مع روح دمشق القديمة وعبق التاريخ الدمشقي العريق.
لا تزال أجزاء من الشارع المستقيم موجودة حتى الآن، ومنها الجزء الممتد من القوس الروماني إلى باب شرقي هو جزء من الطريق القديم، فيما اختفت أجزاء أخرى ضمن الأسواق أو بسبب القدم، والكوارث الطبيعية أو الأعمال التنظيمية التي جرت في العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية، التي تعتبر من أكثر العصور إهمالاً للجوانب التاريخية والأثرية للأماكن.‏

تجديد وتزيين جمالي
في عام 2008، تم ترميم الشارع من أوله إلى آخره، وتم رصفه بالبازلت، وأعيد للشارع بعض أجزائه الأثرية وبعض قطع الأعمدة القديمة والتيجان الكورنثية التي كانت تزين الشارع المستقيم قديما، كما تم ترميم وتجديد العقارات الموجودة على الجانبين، وتمت الاستعاضة عن أبواب الحوانيت والمحلات الحديدية بأبواب أخرى خشبية، كما تم تأمين بعض المساحات الخضراء وزراعتها ببعض نباتات الزينة، وأُضيء الشارع بالأضواء المناسبة لتظهر جماله أكثر.