جراهام فولر
ترجمة خاصة عن الألمانية نشوان دماج / لا ميديا -

من جديد تتصاعد عمليات قتل وحشية في عدة مدن أوروبية على يد شباب مسلمين متعصبين. فهل هي قضايا متعلقة بـ"صراع للحضارات"؟ بحرية تعبير غربية إزاء آراء دينية رجعية؟ أم لا؟
مريع هو مشهد "الاغتيالات" الدامية بسبب الرسوم المسيئة للنبي محمد في كل من فرنسا والنمسا. كما أنها ليست المرة الأولى. وليس ثمة مبرر لقتل الناس، لاسيما بسبب عقيدة أو دين..
يطلق السياسيون عبارات رنانة يدافعون فيها عن حرية التعبير، وهي قِيمة تبدو مألوفة وموثوقة ومريحة، لكن عند إجراء فحص دقيق لها، تبرز بعض الإشكاليات المقلقة التي تجعل من الصعب اختزال الأمر برمته في مجرد "حرية تعبير"، كما لو كانت تلك هي نهاية القصة.
إننا هنا إزاء صدام بين حرية تعبير مطلقة واحترام مطلق لقدسية الدين. إنما هل الأمران "مطلقان" حقاً؟
في مجتمعات غرب علمانية يكون لديّ الحق في السخرية من النبي محمد. ولكن هل ثمة، عند ممارسة حقوقي تلك، من مكان لقيم الذكاء والحكمة؟! وأي ذكاء في المطالبة بممارسة مطلقة لحقي ذاك في أي وقت وفي أي مكان؟! إننا نعلم جميعاً أنه لا يحق لنا أن نصرخ بكلمة "نار!" في سينما مزدحمة. ولكن ما مدى حساسية ومراعاة ما هو أبعد من ذلك في الإصرار على ممارسة "حق" شامل في السخرية، عندما يكون ذلك مسيئاً إلى مئات الملايين من الناس؟! فبما أننا نعيش في مجتمعات متعددة الثقافات، فالمطلوب قبل كل شيء التزام الحد الأدنى من احترام مشاعر الآخرين وأمنهم النفسي.
دعونا نلقِ نظرة على بعض الحالات الأخرى المحتملة. لدي، على سبيل المثال، الحق القانوني في السير في أحياء هارلم السوداء بمدينة نيويورك أو أتلانتا جورجيا والصراخ بالشتائم ضد مارتن لوثر كينج أو مالكولم إكس واستحضار كلمة "نون" في حق المجتمع الأسود. في النهاية لم يكن كينج شخصية بارزة للقرن العشرين فحسب، بل وكان معروفاً باسم "معاكس النساء". إنما لنفترض أنني حملت ملصقات عليها رسومات فظة عن كينج وهو يداعب نساء عاريات. ما نوع الرد الذي سأتلقاه؟! إن أي شخص عاقل، بغض النظر عن آرائه، لسوف يدرك أن مثل هذا الفعل هو فعل أرعن، مؤذٍ، غبي، وربما خطِر عليَّ، لأنه يثير ردة فعل غاضبة. لكن في النهاية، ذاك هو "حقي"، أليس كذلك؟! فكم من الليبراليين سيدافعون عن حقي في السخرية والتقليل من شأن مارتن لوثر كينج وأن أطلق عليه لقب "زنجي هلامي"؟!
أو لنأخذ حالة باريوس لاتيني، في إل باسو تكساس أو لوس أنجلوس، حيث نرى مجموعات مراهقة غالباً ما يرتدون قمصاناً عليها صورة عذراء غوادالوبي التي تمثل رمزاً أسطورياً وقوياً للثقافة والعقيدة والهوية، بل وحتى القومية المكسيكية. لنفترض أنني رحت أتجول هناك مرتدياً قميصاً عليه صورة عذراء غوادالوبي وهي تمارس الجنس. لسوف تقول لي الفطرة السليمة بأنه يفترض بي أن أخشى ردود فعل متعاطفة –بل وعنيفة- ضدي. ولسوف أكون بليداً بشكل لا يصدق –ومجرد أحمق- إذا قمت بذلك. إنما هل لدي هذا الحق في الولايات المتحدة؟! أجل. وهل سيدافع عني الليبراليون لمثل هكذا تحقير ساخر للحساسيات العرقية والثقافية والدينية لأقلية تناضل من أجل المساواة؟!
في الواقع قد لا أتعرض للقتل بسبب أي من تلك الأعمال الفاضحة التي ذكرتها أعلاه، ولكن من المحتمل جداً أن أتعرض للضرب أو السجن، بل وحتى للمحاكمة، وذلك بناءً على مكان حدوث ذلك.
لديَّ الحق في القيام بمسيرة في شوارع هولندا أو ألمانيا حاملاً ملصقاً عليه هتلر بصليب معقوف كبير في يده، يضرب يهودياً متنعماً وسط أكياس النقود. لكن مهلاً - فواقع الأمر ليس لدي قانوناً ذلك الحق هناك، بل إنه أمر محظور في العديد من دول أوروبا الشرقية وكذلك في روسيا.
وهل يمكنني المطالبة بالحق في الادعاء علنا بأن الهولوكوست مسألة لم تحدث قط، وأن كل ذلك كان مجرد خدعة، أو أن أظهر بعض الرسوم الكاريكاتورية لتصوير "خدعة الهولوكوست"؟! في الواقع، ليس لدي ذلك الحق في ست عشرة دولة أوروبية، ولا حتى في ألمانيا أو فرنسا، حيث إنه يعتبر جريمة جنائية. لكن لا يزال لديَّ الحق في الاستهزاء بالنبي محمد!
في رواندا، كانت عمليات بث "حديث حر" في ما يسمى "إذاعة وتلفزيون الأحرار في آلاف الرُّبى والآكام" تسخر من خلال مقابلات وموسيقى وأخبار مزعومة ونكات وبرامج أخرى من سكان توتسي، ما أدى في النهاية إلى عمليات الإبادة الجماعية، التي ذبح على إثرها في 1997 أكثر من نصف مليون توتسي.
هنا سيقول كثير من الناس بأننا قد انتقلنا الآن إلى مجال "خطاب الكراهية". ولكن أين هو الحد الفاصل بين "حرية الخطاب" و"خطاب الكراهية"؟ ("Free Speech" و"Hate Speech").
ليست كل تلك الحالات تقارن تماماً بجرائم القتل الفرنسية والنمساوية. فالقتل هو أقصى فعل مشين ومستنكر. ولكن في مجتمعات متعددة الثقافات -كحالة مثالية في جميع المجتمعات- من المأمول أن يؤدي الحد الأدنى من الحكمة والحساسية الثقافية والوعي العرقي والسياسي والذكاء البسيط إلى منع أي شخص من تأجيج أوضاع اجتماعية محتقنة وحساسة عاطفياً، حتى لو كان يحق له قانوناً القيام بذلك.
كما أن حالة السكان المسلمين في أوروبا تثير أسئلة عاطفية. فمواطنو أوروبا المسلمون يجدون أنفسهم من عدة نواح في حالة اندماج قوية جداً مع المجتمع الأوروبي. لكن لا تزال هناك توترات عميقة؛ فمعظم الدول الأوروبية لم يجر من الناحية التقليدية تصميمها بشكل واعٍ لتكون متعددة الثقافات. بالإضافة إلى ذلك، فإن كل بلد إسلامي من بلدان العالم قد خضع تقريباً لقرون من الحكم الاستعماري الأوروبي –على وجه رئيسي من البريطانيين والفرنسيين– الأمر الذي خلق في الغالب ذكريات استعمارية سلبية للغاية.
إن النبي محمد ليس فقط زعيماً دينياً وسياسياً تاريخياً فعلياً. إنه يمثل أيضاً شعور هوية مركزياً بالنسبة للجماعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم، وخصوصاً تلك التي تعيش كأقليات. ومع ذلك، لا يزال مسلمون كثيرون يشعرون بأنهم يعاملون في الغرب أو الهند أو ميانمار كمواطنين من الدرجة الثانية. ثم يأتي تشدد العلمانية الفرنسية: الحجاب ممنوع -حتى المسلمات المتسترات- وأي "بوركيني" (ملابس سباحة) على الشاطئ محظور. فكان لتلك العلمانية المتشددة والمتزمتة أن تؤدي في النهاية إلى توترات معادية للمسلمين أكثر من أي مكان آخر في أوروبا.
تعود المواجهات بين المسيحيين والمسلمين على الأقل إلى جيوش الصليب المسيحية في القرن الحادي عشر، والتي غزت واحتلت الدول الإسلامية في الشرق الأوسط. وفي العقود القليلة الماضية، وقع عدد من بلدان الشرق الأوسط ضحايا حروب وعمليات عسكرية بقيادة الولايات المتحدة أودت بحياة أكثر من مليون مسلم وعطلت ودمرت إلى حد كبير دولا وأنظمة سياسية واقتصاديات ومجتمعات وبنى تحتية. ونحن في الغرب نعتقد أنها فقط ردة فعل مستاءة من قبلنا على الغضب بشأن هجمات 11 سبتمبر. لكن لتتذكروا أن القصة لم تبدأ مع 11 سبتمبر. فثمة سوابق كثيرة من عشرات ومئات السنين تسلطت فيها القوة الأوروبية الغالبة على السكان المسلمين.
في هذه الحالة، تجدر الإشارة إلى أن قاتل المعلم الفرنسي صمويل باتي كان شاباً في الثامنة عشرة من الشيشان – البلد المسلم الذي كان هدفاً لحرب وحشية شنتها روسيا ضد استقلاله؛ فتم بذلك سحق العاصمة غروزني. لقد كان الشيشانيون لأكثر من قرن شهوداً على عنف مروع تعرضوا له. وكيف لمثل هكذا وحشية ألا تؤثر بهم؟!
أكرر، لا شيء من ذلك يسوّغ أو يبرر حتى مجرد التبرير الفعل البربري لذلك الشاب الشيشاني. لكن هناك على الأقل لمحة عن كيف أمكن للأمر أن يحدث.
يقع الشرق الأوسط على مفترق طرق مباشر اتخذته القوة الإمبريالية الغربية طيلة قرون معبراً لها إلى الشرق. وكانت المسيحية تعتبر الإسلام من الناحية التقليدية بمثابة "بدعة". وبالمناسبة، فإن اليهود يعتبرون كلاً من المسيحية والإسلام من الناحية التقليدية عبارة عن بدعة بالمعنى اليهودي. وبالتالي فإن الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى يكون للانفعالات على كلا الجانبين أن تهدأ شيئاً فشيئاً، فيما يواصل المسلمون عملية اندماجهم الأوسع في المجتمعات الغربية. معظم المسلمين في الغرب مرتاعون من أحداث القتل تلك. أما أن يقرر الرئيس الفرنسي بعد ذلك أن يصف الإسلام بأنه ممثل لثقافة هشة في العالم، فليس من المفاجئ أن يهب غالبية المسلمين للدفاع عن معتقدهم وثقافتهم وهويتهم ضد هجمة من ذلك النوع الشامل. 
وإنها لغاية الاغترار والتعجرف أن نعتقد في الغرب أنه من خلال استهزائنا بالإسلام فإننا فقط ندافع في النهاية عن "حق وهبه الله لنا في حرية التعبير". هذا إذا كان الأمر بهذه السهولة. في الواقع، لنا أن نتساءل كم أناس من الذين يُعملون فؤوسهم ضرباً تجاه المسلمين -أو حتى تجاه السود أو أي أقلية مضطهدة أخرى- يتعاملون فعلاً من منطلق مثالية صرفة في "الدفاع عن الحق في حرية التعبير"؟! المحزن أن كثيراً من أولئك بكل بساطة تستهويهم عنصريتهم في مضايقة الأقليات، ثم يحبذون لو أنهم تمكنوا عن تعال وادعاء للعصمة من فعل ذلك باسم "حرية التعبير".
إن حرية الرأي لم تكن في أي مكان مطلقة أبداً. فهي عند النظر إليها بشكل واقعي تقاس دائماً بالظروف والأوضاع السائدة. وفيما يتعلق بأوروبا، فإنه قد حان الوقت لـ"التخفيف من غلوائها" والتفكير في أفضل السبل لتحقيق عمليات الاندماج الاجتماعي وليس الاستبعاد. فلنعمل على تضميد الجراح النفسية. هذه الفكرة تسري على كافة العلاقات البشرية في جميع الأوقات. أما أن نمضي عن تعال وادعاء للعصمة ونحيط أنفسنا بحقوق مطلقة، خاصة عندما نكون نحن الأغلبية، وعندما يُنظر إليها على أنها مؤذية للآخرين، فإن ذلك لا يكون على الإطلاق عملاً حكيما أو بنّاءً. والاعتراف بما يمكن أن يكون فعالاً حقاً في بعض أجندات "حرية التعبير" هذه هو الخطوة الأولى نحو تغيير هكذا مآس مريعة.


•* مسؤول سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ألف العديد من الكتب عن العالم الإسلامي.
موقع: "مناهضة الحرب" (Antikrieg)