الثقافة العربية واحدة التمثل والعطاء وفضاء ممتد لا يمكن للسياسة أن تحجّمه

حاوره: توفيق عثمان الشرعبي -

مثقف أصيل وشاعر له أدواته ومفرداته الخاصة والمكثفة. 
ناقد يتميز بلغة أدبية أنيقة حد الدهشة. استطاع، خلال عقد ونيف قضاها في اليمن، أن يضع بصمات مهمة في المشهد الثقافي اليمني، شعراً ونثراً ونقداً وبحثاً ودراسات في التراث الشعبي اليمني وأدب الطفل، رافداً المكتبة اليمنية والعربية بمجموعة من المؤلفات الأدبية المهمة.
إنه الناقد الأكاديمي العراقي الدكتور علي حداد، الباحث في مركز إحياء التراث العربي، والمحاضر في العديد من الجامعات العربية، الذي رسا في مرافئ صحيفة «لا»، مطلاً على المشهد الثقافي اليمني مجدداً، من خلال حوار ضافٍ ممتلئ بالمهم والنفيس والفاحص للواقع الثقافي العربي؛ وارى فيه من الرؤية الثورية الوازنة ما يستدعي قراءته بعمق، خصوصاً من قبل أولئك المثقفين الذين التاذوا بالسياسي لدوافع نفعية. 

المثقف العربي وحيد في معركة الوعي
 نبدأ معكم دكتور علي حداد من السؤال العام عن تقييمكم للمشهد الثقافي العربي في الظرف الراهن؟
 علينا أن نعترف بأسى أن كثيراً من الشعارات القيمية القومية والوطنية، وبسبب تلك المساعي الشريرة لقوى التسلط العالمي والسياسات الهوجاء التي تمارسها السلطات الحاكمة في هذا البلد العربي أو ذاك، قد ذبلت الروح فيها، وأمست من البقايا الأثرية لتاريخ وعينا المعاصر.
لم يعد لشعارات التضامن العربي ووحدة المصير ومساعي التعاون للنهوض الاقتصادي والعلمي من تداول في قاموس معظم الحكام العرب، ولم يبق من ينافح عن تلك الشعارات سوى المثقف العربي، ومن خلال مسعاه إلى ترسيخ حضورها في كتاباته الإبداعية وأعماله الفنية، لأنه يدرك بيقين نبيل أن الثقافة العربية واحدة التمثل والعطاء في كل بلداننا، وأنها فضاء ممتد على مساحة التلقي العربي لا يمكن للسياسة ودعاتها أن تحجّمه، مهما سعوا لذلك. ولكن المتاح بين يديه محدود، بعد وضع القيود على انتقال المثقفين بين بلد عربي وآخر، وتواضع الدور الذي تؤديه الاتحادات والمنظمات والتجمعات الثقافية في كثير من البلدان العربية، لعوامل تتعلق بالدعم والتمويل، والعوائق التي وضعت دون وصول ما ينشر من كتب ومجلات وإصدارات إبداعية مختلفة بين تلك البلدان.
ومع كل تلك المعطيات المعيقة، فما زال المثقف العربي متمسكاً بتواصله مع أشقائه من البلدان العربية الأخرى، ومازال ينتج ثقافته بوعيه الوطني النبيل. ومن يتابع وسائل «الميديا» المختلفة، سيدرك ذلك التواصل الحميم بين المثقفين العرب، وعمق الأواصر الفكرية والإنسانية ونبل الانتماء الذي يعايشونه، وهم ينتجون قيم ثقافة عربية يتكامل مشهدها بهم؛ من دون أن نتجاوز هنا الإشارة العابرة إلى بعض المثقفين الذين هرعوا نحو السياسي في بلدانهم،ملتاذين به لدوافع نفعية، فشذوا وانغلقوا على ذوات موتورة.

التراث لا يذبل تأثيره
  باعتباركم على سدة مركز إحياء التراث العلمي العربي، ما مدى حضور التراث في الأدب العربي الحديث؟
لا يجادل أحد في كون التراث هو تاريخنا الثقافي، وهو الامتداد والهوية، امتداد لما أنجزه الأسلاف من رائع العطاء الفكري والثقافي والقيمي، وفي مختلف المجالات الثقافية التي أكدت مقدرة اللغة العربية على الاستيعاب والتقنين والتكريس المعرفي الخصيب. ذلك التراث الأصيل تحدى الزمن ونوازع الإعاقة التاريخية والسياسية، ومساعي القوى الاستعمارية لطمسه وتغييبه، ليبقى فاعلاً ومؤثراً ومشخصاً لسمات خاصة بهوية ثقافية عربية، وبتكريس قيمي لوقائع وإنجاز وخصوصيات مازالت واحداً من المؤثرات الأساس التي يتواصل معها الإبداع الأدبي العربي شعراً ونثراً، وتدخل في نسيجه من خلال ممارسات من الاستعادة والتمثل التاريخي والاجتماعي الذي يؤكد عمق التواصل بين الماضي والحاضر، وهما يتماهيان في إنتاج هوية ثقافية عربية ومحلية يتأسس منجزنا المعاصر على كثير من بثها الذي لا يذبل تأثيره. 

وفياً لليمن وأهلها
  الدكتور علي حداد ترك بصمات في المشهد الثقافي اليمني في تسعينيات القرن الماضي شعراً ونثراً ودراسة وتدريساً... ما أبرز السمات التي حددت هذا المشهد، التي وقفتم عليها؟
 أجد من التعبير عن الامتنان أن أتمثل المكان الذي أعيش فيه وأن أكتب عنه، مهما كانت المدة التي أقضيها فيه، فكيف وقد عشت في اليمن أربع عشرة سنة، أصبحت فيها جزءاً من الفضاء الثقافي في هذا البلد المفعم بطيبته وأريحية إنسانه وسجايا مودته التي يغمرك بها؟! لقد اجتهدت أن أكون وفياً لليمن وأهلها وفضاء ثقافتها الذي شرع لي مجالات متسعة من العطاء.  
عملت بالتدريس في جامعتي إب وصنعاء، وكان حرصي على تبني الطاقات الطلابية المتميزة ودعمها واحدة من اشتغالاتي التي ألزمت بها نفسي إلى جانب التدريس. وكنت سعيت لأن يكمل الطلاب المجتهدون دراساتهم العليا، وذلك ما تحقق لبعضهم الذين أصبحوا اليوم أساتذة بارزين في الجامعات اليمنية وسواها. كما شجعت بعضهم الآخر أن يعملوا في الصحافة، ولم يخب ظني فيهم، فقد أصبح بعضهم من الإعلاميين البارزين اليوم.
أما في الحقل الثقافي فقد أطلت التأمل في كثير من الظواهر الثقافية والإبداعية، فألفت فيها عدداً من كتبي: «عشبة آزال- قراءات في الشعر اليمني الحديث» (2001)، «رائد الرومانسية في اليمن- علي محمد لقمان» (2004)، «ديوان الطفل في الأدب الشعبي اليمني» (2006)، «ضفاف للغواية واليقين- قراءات في المنجز الإبداعي والنقدي اليمني الحديث» (2009)، فضلاً عن القصائد المتعلقة بالشأن اليمني -طبيعة وأماكن وأصدقاء- التي تضمنتها دواويني الشعرية الأربعة التي صدرت كلها خلال وجودي في اليمن. وإلى ذلك ما كنت أنشره من مقالات ودراسات في الصحف والمجلات العربية واليمنية. وهكذا وجدتني وقد أصبحت ضمن ذلك الفضاء الثقافي اليمني الذي كان خصباً وحيوياً في تلك المرحلة، فمُنحت شرف عضوية اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وكُرمت أكثر من مرة. وكان من الطريف من أمري أن كثيراً من القراء وبعض المثقفين اليمنيين لا يعرفون بعراقيتي، فذهب ظنهم إلى أنني يمني، وكنت سعيداً بذلك ومعتزاً.
وبخصوص سؤالك عن أبرز السمات التي حددت المشهد الثقافي اليمني، فمثلما تغتني اليمن بتنوعها الطبيعي المثير وباتساع أفق تاريخها الموغل بالزمان وتدافع وقائعه وأحداثه، فهي غنية بثقافاتها التي ما إن تمد جانباً من باصرتك إليها حتى تمدك بما يلفت ويثير ويستدعي الإنصات لبوحه ومضامينه وصيرورة تشكله، خصوصيات تمثل وتعبير لا تجارى. هكذا وجدتني مشدوداً بإعجاب للمنجز الثقافي اليمني بعد مدة قصيرة من إقامتي.
لقد فاتنا -نحن المثقفين والقراء في البلدان العربية- أن نلمّ بما كان ينجزه كثير من مثقفي اليمن ومبدعيها من نتاج أدبي وفني لافت ومهم، في حين تجد أن أي مثقف يمني له من الاطلاع على المنجز الثقافي في البلدان العربية الأخرى ما يدهش، فهو يعرف أسماء المبدعين هناك ويتابع نتاجهم، ويمتلك تصوراته الخاصة عنهم. لفت اهتمامي التنوع الإنثروبولوجي بين البيئات اليمنية، فشغلت بتأمل العادات والتقاليد واللهجات والحكايات والأشعار الشعبية اليمنية. وكثيراً ما أدهشني أن أجد تماثلاً بينها والمتداول في البيئات الشعبية العراقية.  
أما إذا وقفنا عند الإبداع الأدبي، فقد كانت اليمن تمور باتجاهات أدبية متنوعة غلبت فيها الحداثة، سواءً في الشعر أم في المنجز السردي الذي كان يترى نشره على نحو مثير. وقد نافست المبدعة اليمنية زملاءها من الأدباء الرجال، حتى ليتفوق الكثير من المنجز الأدبي النسوي، بجرأته وتبنيه الحداثة وجهة وعي وتأسيس سياقي وجمالي، على كثير مما ينشر في البلدان العربية الأخرى.
 صدر لكم عدد من المؤلفات خاصة بالأدب اليمني، هل نتوقع إنتاجات جديدة خاصة بالواقع الثقافي اليمني؟
لليمن عندي يد فضل لا يسدد إلا بدوام ذكرها واستعادة ذكرياتي فيها، والتواصل مع كثير من مثقفيها الذين جمعتني بهم مودة حميم. مازلت أتصل بين الحين والآخر بأستاذنا عبد العزيز المقالح مطمئناً على صحته، وكذلك عديد من المثقفين، وكثير من طالباتي وطلابي الذين أصبحوا أسماء أكاديمية وإعلامية متميزة هناك.
مازلت أكتب عن اليمن بين الحين والآخر، عن مبدعيها الكبار، وعن بعض مضامين مأثورها الشعبي التي تند دالة بخصوصياتها. وقد اشتغلت منذ مدة على تدوين سيرة أيامنا اليمنية وتوثيق ما كان لنا فيها.

مهمة المثقف نزعة من الجهاد
 بالعودة إلى المشهد الثقافي العربي، برأيك هل المثقف العربي يقف عند مستوى شرف الكلمة التي يدعيها إزاء تطلعات الشعوب للعيش بحرية وكرامة؟
 من يصنع المشهد الثقافي في هذا البلد أو ذاك هو الفعل الثقافي الذي يتبناه المثقفون ويسعون إلى إشاعة قيمه النبيلة في أوساط مجتمعاتهم، مستجيبين لتطلعات أهلهم ورغبة الارتقاء بواقعهم. 
ولا يمكن للمثقف الحقيقي، الذي يريد أن يكون طاقة اجتماعية وثقافية فاعلة لينال توصيفه بكونه «مثقفاً عضوياً»، إلا أن يكون منتمياً إلى بيئته ومجتمعه وإنسانه، مهموماً بقضاياه وتطلعاته ومكابداته. ومن دون ذلك فإنه يضع نفسه في قوقعة الذات ويغلقها على أنانية وفردانية تعزله، وتلغي دوره.
وفي هذه الظروف المتردية التي نعيش فيها لا يمكن استثناء الواقع، ولاسيما الثقافي، من أن ينتابه ما ينتاب كل وقائع حياتنا الراهنة الملتبسة، وفي ظل تحكم سياسيين فاسدين وفاشلين يخشون المثقف ويسعون إلى إلغاء دوره، من خلال تكفيره أو تهجيره أو الذهاب به إلى الصمت المؤقت أو الدائم؛ فإن مهمته في التوجيه والتوعية تمسي نزعة من الجهاد والتضحية بالكثير، ولاسيما وهي تواجه بسعي كثير من سياسيي الصدفة لتجهيل المجتمع وتعطيل دور العقل وإشاعة الخرافة، وبما ينتج عنه القطيعة مع المثقف والثقافة، ولاسيما الثقافة العصرية وقيمها التي تتطلع نحو المستقبل.

لحظة الرهان
 ما اللحظة التاريخية لدى المثقف التي يجد فيها أن الحبر يساوي الدم وأن الكلمة تتوازى مع الرصاصة؟
 تتجلى اللحظة التاريخية حين يجد المثقف نفسه بين أن يصنع لكلمته خلودها القيمي أو يذلها في الآني من الشهوات والمطامع المادية الرخيصة، فيختار الأولى من دون تردد.
وتتأكد في التخيّر الفاصل بين موقفين، بين الانتماء للوطن وللأهل أو الخنوع لنزوات طافحة بالشر يؤسس لها المحتل وأولئك الأغراب الذين لا يريدون الخير للوطن وأهله.
إنها لحظة الرهان على الانتماء الوطني المجالد لكل من ينال منه، وفي شرف الكلمة الضاجة بقيمها تتعالى في وجه الفاسدين والفاشلين الذين يسعون للنيل من يقيننا الوطني.
 كلمة أخيرة تحبون أن تضعوها قلادة على جيد معشوقتكم اليمن؟
 لليمن في القلب والضمير مكانة لا تدانى، وعندي لها شوق طافح ينتظر اليوم الذي نعود إليها مسترجعين بعض ما كان من ذكرياتنا فيها. وسيأتي ذلك اليوم، إذ لا بد من صنعاء وعدن وتعز وإب والمكلا وإن طال السفر واشتعل القلب بالحنين، والرأس بشيب الانتظار.