علي حسين حمادي-

حمل أحدُهم التابوت وأنزله. وضعه على الأرض. يا إلهي! لا أجد أكتافاً لتحملني، ولا كتفاً واحدة، ولا حتى كتف ابني على الأقل.
شعرتُ بشلالٍ من العَرَق يسري على عامودي الفقري. عجيب. لماذا أشعر بجسدي أصلاً؟ كنت أظنّ أنه ستنقطع كل صلة معه بعد الموت، أو ربما بعد الدفن؟ كل ما أعلمه الآن أنني في التابوت، تنقلني سيارة إسعاف قديمة مُهترِئة إلى المقبرة. لحظة واحدة.. وما أدراني أنني ماضٍ إلى المقبرة؟ تذكّرتُ حرق الجثث في بعض الدول. ربما لا يكون هناك مقبرة ولا دفن. الحرق مُبرَّر الآن، أنا ميّت كورونا ولا يعني أن الكورونا الذي قضى عليّ مات بدوره. ربما هو سبب العَرَق الذي أشعر به. هل سيحرقونني ليقضوا عليه؟ ألا يُقضى عليه بمُجرَّد الدفن؟
حمل أحدُهم التابوت وأنزله. وضعه على الأرض. يا إلهي! لا أجد أكتافاً لتحملني، ولا كتفاً واحدة، ولا حتى كتف ابني على الأقل. أشعر بصمتٍ أكبر من صمت جثّتي التي بدأت تنتن. المكان خالٍ.. الطرقات.. الناس. 
لماذا لم يبقوني في برّاد المستشفى حتى ينتهي الوباء وأُدْفَن في جنازةٍ مُهيبة؟ تبّاً لهم، لقد دفعت مبلغاً ضخماً لقاء سريري الخاص.
البرّاد؟ ما أغباني! وهل يريدون أن يحافظوا على حياة الجرثومة ليضعوني في البرّاد؟
ما هذه الجنازة البائِسة. لو أنني تبرَّعت مثلاً بمليار دولار ربما الآن كنت أُحْمَل على الأكتاف، وكان يوجد صحافي على الأقل يُصوِّر التابوت مُكلّلاً بصورتي والورود، ويكتب مقالاً في صحيفته بعنوان «رحيل رجل الأعمال السخيّ الذي تبرَّع بمليار دولار لمُعالجة مُصابي الكورونا».
مليار دولار! كم يبدو المبلغ تافهاً الآن! أذكر أنني تبرَّعت بمائة دولار لإحدى العائلات. لو أستطيع الآن أن أدفع 400 دولار لأربعة عمال ليرفعوا تابوتي عن الأرض.
انتظرتُ لساعاتٍ. لم يتحرَّك التابوت! هاي، أين أنتم؟ هل فنى الناس عن وجه الأرض؟ هيّا فليأتِ أحدكم. تبّاً لكم. لو كنت حيّاً لتملّقتم حولي. لقبّلتم يديّ، أو ربما لَعَقَ بعضكم حذائي ليُنظّفه.
تبّاً لكم. صرخَت روحي بكل ضعفها.
شعرتُ بضوءٍ شعَّ فجأةً. الممرضة أشعلت نور الغرفة، وهرولت نحوي ترتدي كمَّامتها.
«ما بك يا سيّد نادر؟ خير؟»، سألتني.
«لا شيء، لا شيء. إنه كابوس. كابوس»، قلت لها ذلك، وأنا ألهث كالكلب، وأتحسَّس جسدي.
مسحَتْ عرقي، وناولتني كوب الماء.
«أرسلي فوراً في طلب ابني»، أمرتها كأنها سكرتيرتي.
«سيّد نادر أنت تعلم أنه لا يمكنك أن تلتقي بأحدٍ حتى تتعافى إن شاء الله».
«حسناً، هاتفي.. أين هاتفي؟».
ناولتني الهاتف.
«ألو.. فوزي».
«أجل يا أبي، هل أنت بخير؟ أريد أن أنقل لك شكر العائلة التي ساعدتها بمائة دو...».
«ليس وقته الآن. ليس وقته، هناك أمر مهم».
«حسناً يا أبي.. ماذا تأمر؟».
«سأقول لك ماذا تفعل، ولكن أولاً أحضر صحافياً وأربعة عمّال إلى مكتبي.. فوراً».

*قاص وشاعر من لبنان.