الفنانة التشكيلية سبأ القوسي لـ «مرافئ لا»: المسابقاتية دَجّنت الفنان وجعلته صائد جوائز لا ينتج إبداعاً
- تم النشر بواسطة نشوان دماج / لا ميديا
حاورها / نشوان دماج - مرافئ -
الفن انحياز بالضرورة، والحياد موقف جمادي.
هكذا تؤكد الفنانة التشكيلية سبأ القوسي، في التعريف بنفسها كفنانة منحازة إلى قضايا وطنها ومجتمعها.
سبأ القوسي من مواليد 1983، بكالوريوس لغة ألمانية - كلية اللغات- جامعة صنعاء. شاركت في عدد من معارض الفنون التشكيلية محلياً. تتحدث لـ«مرافئ لا» عن تجربتها في الفن التشكيلي، وعن حراك شهدته اليمن مؤخراً في هذا المجال، وفر للنشء فرص التعرف على الفنون التشكيلية بشكل علمي؛ وهو الأمر الذي فاتها هي كما تقول، فعانت منه الشيء الكثير. وككلمة أخيرة جعلناها استهلالاً، تتمنى الفنانة سبأ القوسي أن تتعدد منتديات الفنون التشكيلية وتتاح الفرصة لكل النشء، وخصوصاً الفنانات المبدعات والمحرومات من عرض أعمالهن وفنهن بسبب عادات المجتمع،
مؤكدة أن ذلك لا يتأتى إلا بجهد حقيقي وليس شكلياً من القيادة السياسية والجهات المعنية... فإلى الحوار:
طائر جناحاه الشعر والرسم
جدلية الفن والأدب هل يمكن أن تنعكس على الفن التشكيلي هو أيضاً؟
- بلا شك؛ فالإبداع الفني والأدبي متنوع في أشكاله وله تأثيرات متبادلة. ولطالما كانت الصورة الشعرية هي نفسها تعبيراً بالنص التشكيلي، وذلك منذ القدم. فهناك ملاحم شعرية تم تجسيدها بالرسم، حيث تأثر التشكيليون بالشعراء. والنص البصري الذي هو الرسم، والنص الكتابي الذي هو الشعر، أعتبرهما طائراً يحلق بجناحين. وينطبق ذلك على فنانين كثر تأثروا بالشعر، وشعراء تأثروا بالفن التشكيلي؛ فكل له أدواته وإبداعه. شخصياً هناك عدد من لوحاتي تأثرت فيها بقصائد معينة لشعراء. وبالتالي نستطيع القول بأن الرسم نص غير منطوق، والنص رسم منطوق.
سلطوية المعتقد
لماذا يكاد الفن التشكيلي في اليمن ينحصر في رسم معالم ووجوه؟
- مشكلة الفن التشكيلي عندنا أن هناك أمية فنية توازي الأمية الأبجدية. فانحصاره في رسم معالم ووجوه لأنه نوع من التقليد أو التأثر المتأخر بتطور الفن التشكيلي عموماً. فالفن التشكيلي بدأ أساساً بتجسيد الوجوه (البورتريه). الحراك الفني في اليمن جاء متأخراً نتيجة للعوامل والظروف التي مرت بها اليمن في مسيرتها نحو التحضر ومعاصرة العالم. إنما بدأت في الفترة الأخيرة اتجاهات ما نحو التطور. فمع تدفق المعلومات، بدأ الوعي يتوسع والمصادر تتعدد، فبدأ نوعاً ما الخروج عن المألوف في رسم الوجوه. أما تجسيد المعالم فسببه الثقافة السلطوية للمعتقد. فللأسف، الفهم المغلوط للمعتقد الديني بأن الرسم محرم ومحظور كان تماشياً مع مد وهابي غرس تلك المفاهيم في أوساط المبدعين والفنانين التشكيليين أنفسهم، فأثر ذلك عليهم ليتجهوا إلى رسم الطبيعة، بحكم أنها ليست أجساماً أو أرواحاً.
عقبات حصرت الفن في رسم الطبيعة
كيف تقيمين الفن التشكيلي في اليمن طالما أن ثمة كل هذه القيود؟
- كان الفن منزوياً ومحصوراً في أناس معينين، وكان يقدم على استحياء. فمادة الرسم ليست موجودة في المدارس، والثقافة الفنية ما لم تكن مستوعبة لدى المجتمع لن ينال الفن التشكيلي حظاً وافراً، على الرغم من أن اليمن في تركيبتها مليئة بالفنون، فالقمريات مثلاً نوع من الفن يلهم الفنانين. أنا شخصياً كان لانعكاس ألوان وأضواء القمريات تأثير مباشر في تنمية ذائقتي الفنية. فالفن التشكيلي في اليمن، للأسف، على الرغم من الأفكار المتدفقة وبزوغ المبدعين والنشء الذي بدأ يتنوع بأفكاره وينحو في اتجاهات متعددة، إلا أنه محصور نظراً لظروف الحصار والإرهاب الفكري والحاجات وشح الإمكانيات، بالإضافة إلى أن هناك نوعاً من التهميش والإقصاء أو حتى من الرفض لأفكارهم. هذه العقبات جعلت الفن محصوراً في رسم الطبيعة الصامتة. من الأشياء المؤسفة أيضاً أن الفن قد يصبح ذا وجهة تجارية. هناك مثلاً فنانون أبدعوا لوحات في غاية الجمال، لكنها كانت بغرض الترويج التجاري أو الدعائي. ولا شك أن الذي يدفعهم إلى ذلك هو شح الإمكانيات. فالفنان للأسف ليس لديه الوقت ولا الإمكانيات التي تجعله يتفرغ لفنه، لأنه بحاجة ذلك الوقت وتلك الإمكانيات لتوفير لقمة العيش، وبالتالي يضطر إلى أن يخضع لشروط الآخرين وطلباتهم.
تأثرت ببستان والدتي
بمن تأثرت الفنانة التشكيلية سبأ القوسي من الفنانين التشكيليين؟
-ربما تأثرت بالبيئة الجمالية من حولي، بستان والدتي مثلاً، القمريات... ذاك هو الفنان المجهول الذي وضع أعماله وخلدها في البيئة من حولي. بالنسبة للفنانين لا شك أني اطلعت على أعمالهم وربما حاكيت بعضاً منها للممارسة في تقنية الرسم. ربما كنت أحاول وأنا صغيرة أن أحاكي لوحات المرحوم عبدالجبار نعمان، إعجاباً بها. لكن لم أفكر في يوم من الأيام بأن أعرض تلك اللوحات، لأني أعتبرها مجرد استنساخ، وأنني كنت أحاكيها لمجرد محاولة فهم نفسية الفنان وماهية أدواته، كشيء يجذبني في صغري. أما بالنسبة لتجربتي في ما بعد فإنني تنوعت في رسومات أو هي التي فرضت نفسها.
الواقعية الأقرب إلى ثقافتنا
بدأت السريالية شعراً ففشلت وأخفقت، لكنها نجحت نجاحاً مبهراً في الفن التشكيلي.. ما السبب في رأيك؟
- لطالما كانت السريالية غامضة حتى بالنسبة لتعريفها كفن. فربما لذلك لم يكن باستطاعة الشعر أن يجسدها، بالرغم من ظهور مدارس الشعر المتعددة. والسريالية عبارة عن أحلام وتداعيات خيال ولاوعي، كما أنها متأثرة بالطب النفسي التحليلي. فهل يمكن شرح حلم في قصيدة؟ ربما. لكن عندما يكون الحلم غامضاً أو غير مترابط أو معقداً، لن تستطيع التعبير عنه إلا من خلال الريشة. فاللوحة تمنح المتلقي وقتاً طويلاً لتأملها. وبالتالي السريالية نَحَتْ هذا المنحى في الفن التشكيلي، وكان لها روادها الذين أبدعوا في تجسيدها. وعموماً فالسريالية لاقت رواجاً في حقبة زمنية معينة، ثم في ما بعد لم تعد مقبولة عند الذائقة العامة، خصوصاً في الوطن العربي الذي لا يتقبل هذا النوع من الرسومات، لأنه بالكاد استطاع أن يحصر أميته الفنية، فما بالك بالثقافة البصرية المتطورة؟ ومن هذا المنطلق فإن الواقعية هي الأقرب إلى ثقافة المجتمع العربي والبيئة العربية.
الفنان حر لكنه منحاز بامتياز
وهل الفنان هنا هو رهن بيئته؟ بصيغة أخرى: هل البيئة هي التي تدفع الفنان التشكيلي إلى رسم لوحاته؟ وهل يؤثر ذلك على أدائه الإبداعي؟
- الفنان لا يجب أن يكون رهن أحد، فهو فنان، وبالتالي هو حر. لكن الفن هو فعل ورد فعل ونوع من الاندماج مع المجتمع، فإذا أراد الفنان أن يكون ضمن مجتمعه يجب أن يكون متكيفاً مع الجمهور، إنما ليس معنى ذلك أن يدع ذلك الجمهور يتحكم بفكرته. فهو معلم، والمعلم يجب أن يراعي أو يأخذ في حسبانه كثيراً من الأمور غير المألوفة في مجتمعه، وإنما يطرحها بشكل تدريجي بحيث تتطور الذائقة شيئاً فشيئاً. هذا إذا أردنا أن نخرج بمجتمعنا إلى ذائقة جمالية عميقة ومتينة.
هل تؤمنين بحيادية الفن؟ وما هي الزاوية التي تتناولين من خلالها أعمالك؟
- مبدأ الحيادية يخون الإنسان، وهو مبدأ جمادي، لاسيما عند الفنان؛ فالفنان بالذات لا يستطيع إلا أن يكون منحازاً في أعماله. فهو مرتبط بكل قضايا مجتمعه وظروفه المعاناتية والنفسية. وبالتالي أنا لا أؤمن بالحيادية، فالفنان منحاز بامتياز.
لوحة «الكفيف» بمثابة نبوءة
مشاهد العدوان على مدى 5 أعوام.. هل شكلت أثراً ما في رسوماتك وأعمالك الفنية؟
- بلا شك. فالعدوان الذي تتعرض له اليمن ليس بالأمر الهين أو السهل، بل هو حدث كبير وجلل. وإذا لم يؤثر بي كفنانة وبكل المبدعين، فمعنى ذلك أنه لا قيمة لإنسانيتنا ولا لعطائنا. فالإنسان هو إضافة على الحياة، ويجب عليه التعاطي بإيجابية مع ما حوله؛ فما بالك بهذا العدوان؟! لقد أثر بي كإنسانة أولاً، وكمواطنة ثانياً، وكفنانة ثالثاً. حيث إن الكثير من المشاعر إزاء تلك المشاهد تجلت وفاضت بي في لوحات كانت رسالتها قوية ولاقت تفاعلاً لم أكن أتوقع أن تناله على المستويين المحلي والخارجي. فالفن رسالة إنسانية، وقد تكون اللوحة أبلغ في رسالتها من المقالات والشعارات، بل حتى من الصور الفوتوغرافية. هناك لوحة شهيرة لي اسمها «الكفيف» كانت بمثابة نبوءة؛ طالما أن هناك شيئاً اسمه نبوءة الفنان. كانت اللوحة نتاجاً لألم ووجع كبيرين عشتهما نتيجة قصف العدوان لمركز المكفوفين؛ فتجسد كل ذلك الألم والوجع في عمل اعتكفت عليه لثلاث ساعات فقط. وكان عملاً عظيماً قررت الذهاب به في اليوم التالي إلى مركز المكفوفين وإهداءه إياهم، آخذة معي حمامة لأهديها لذلك الطفل الكفيف الذي رسمته حاملاً طيراً ميتاً جراء القصف، متحسساً الموت ومتحسساً حرارة الحياة وهي تفارق ذلك الطير؛ فإذا بي أتفاجأ أن نفس اللوحة متجسدة تماماً في الواقع. ومع وجود المصورين حدثت اللقطة المبهرة لكل من اللوحة والواقع. فكانت تلك أكبر ما تجلى من أعمالي في مواجهة العدوان.
ماذا عن المشاهد البطولية؟ هل تجسدت هي أيضاً في أعمالك؟
- نعم، تجسدت في لوحة عظيمة لذلك الجندي الذي يحمل قنبلة ويذهب حافي القدمين ليرميها في مخدع العدو، بكل شجاعة وبطولة. تلك الصورة الواقعية تجسدت في ذهني وعبرت عنها بلوحة ذات مساحة كبيرة جسدت تلك البطولية التي لا شك تستحق أكثر.
الفن المسابقاتي ليس إبداعاً
إلى أي حد يؤثر في الفن التشكيلي شيوع ثقافة المسابقاتية وتوجيه أعمال الفنان بما يوائم توجه القائمين على تلك المسابقات؟
- قد يكون للمسابقات ناحية إيجابية في كونها تأتي للتحفيز على الإبداع وعمل حراك فعال لتنمية المجتمع وتطويره. لكن، للأسف، كثير من الفنانين التشكيليين، بحكم معاصرتي لهم، هم بمثابة صائدي جوائز؛ فهم يرون ما سبق من لوحات ويبحثون في نظرية القائمين على المسابقة في تقييمهم للوحات، ثم يقومون بصناعة لوحاتهم بما يتواءم مع وجهة أولئك القائمين. وهنا يخرج الأمر عن الإبداع، ويتحول إلى مجرد مهنية لا تختلف عن مهنية أي عمل آخر يلبي رغبة. وبالتالي هذه الجوائز المسابقاتية دجّنت الفنان، ولم تجعله يضيف إبداعاً. ولا أستطيع أن أعتبرها معياراً للجودة بأية حال من الأحوال؛ فضلاً عن كونها تخضع لاعتبارات الوساطة والتدخلات والمعارف وما شابه.
تجربة خاصة فريدة
كيف تقيمين تجربتك بشكل عام؟
- تجربتي فريدة من نوعها، ليس لكونها أكثر إبداعاً، فهناك من هم أكثر إبداعاً مني بكثير، بل لأنها ارتبطت بفكرة. فكوني من أسرة محافظة، تنظر للمرأة نظرة قبلية، فقد استطعت كسر تلك القيود، وكان لذلك صدى ما. وبالتالي تجربتي مرتبطة بنفسيتي وظروفي، ولوحاتي تجسدت فيها تلك الظروف وتلك الفكرة أكثر من تجسد التقنية. هناك ربما عيوب في لوحاتي، ولكن يبقى فيها شيء مميز خاص.
المصدر نشوان دماج / لا ميديا