حوار أجري العام ٢٠٠٤ ويعيد ««((مرافىء لا)) نشره في الذكرى الرابعة لرحيل آخر فرسان العمود
الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد يحكي قصته مع الشعر والسياسة وعلاقته بصدام حسين ويعترف: لست بعثياً والسياسة ذبحتني

حاوره في دمشق: صلاح الدكاك / #لا_ميديا -

أجريت هذه المقابلة في دمشق عام 2004 وبعد قرابة عام من الاحتلال الامريكي للعراق ونشرت حينها في صحيفة «الثقافية» الصادرة عن  مؤسسة الجمهورية للصحافة والطباعة ويعيد مرأفى «لا» نشرها لمضمونها القيم وبعد رحيل الشاعر  الكبير عبدالرزاق عبدالواحد المتوفى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 

عبدالرزاق عبدالواحد آخر الشعراء الكبار الذين حفظوا لقصيدة العمود هيبتها وحضورها القوي..  أحسست وأنا أحاوره بأنني أحاور رسماً عصرياً لأبي الطيب المتنبي.. وهو ليس امتداداً لهذا الأخير  في صوته -فحسب- بل وفي علاقة كل منهما بالسلطة في زمانين مختلفين متشابهين،  فإذا كان اسم المتنبي قد اقترن باسم سيف الدولة الحمداني فقد اقترن اسم عبدالرزاق عبدالواحد  بصدام حسين في أذهان كل الذين عرفوا  
ويعرفون هذا الشاعر، وكلا الشاعرين امتدح في صاحبه النموذج المثال والمجسد لمجموعة القيم العربية التي يصبو لأن تسود في واقع من الشتات كما امتدح فيه القائد العربي الصرف في زمن القادة المولدين.. وكالمتنبي يدفع عبدالرزاق ضريبة علاقته بالسلطة، 
وفي هذا الحوار الذي أجري مع الشاعر فـي العاصمـة السوريـة دمشـق حيث يقيم.. يتحدث عبدالرزاق عبدالواحد عن الشعر والسياسة وعن رحلته الدامية والطويلة  من بغداد إلى دمشق والتي قدر أن تكــون ذهاباً لا أمل في الإياب منه أو هكذا تبدو..

 من هو عبدالرزاق عبدالواحد؟! كيف يقدم نفسه لقارئ يجهل الكثير مما ينبغي أن يعرفه عنه!
- عبدالرزاق عبدالواحد هو جريح عراقي كبير يمشي على قدمين، جريح يخر دماً وشعراً، ولد في بغداد سنة 1930م وقضى طفولته وشرخاً من صباه في محافظة «ميسان» بين شبكة الأنهر والأهوار، ثم عاد إلى بغداد ليواصل دراسته الجامعية ويتخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية. رصيده 41 مجموعة شعرية مطبوعة والمجموعة الـ42 تحت الطبع الآن. معظم شعره للعراق والبقية لذاته. تقلد مناصب عديدة، مدرساً للغة العربية في بداية حياته ثم في وزارة الثقافة والإعلام سكرتيراً ورئيس تحرير لمجلة «الأقلام»، ثم عميداً لمعهد الدراسات الموسيقية وقبلها معاوناً لعميد كلية الفنون الجميلة، ثم مديراً عاماً للمكتبة الوطنية، فمديراً عاماً لثقافة الأطفال في العراق، وله عشر مجموعات شعرية للأطفال هي من أجمل وأعز شعره، وأخيراً عمل مستشاراً لوزارة الثقافة العراقية. أولى مجموعاتي الشعرية كانت عبارة عن قصة مسرودة شعرياً، وفازت بالجائزة الأولى في مهرجان دائرة المعلمين العالي أيام كنت طالباً في الصف الثالث في الدار. وقد تمت طباعتها حينها وحملت اسم «لعنة الشيطان». وفي ذلك الوقت كان مهرجان دار المعلمين هو أكبر مهرجان عراقي، وفي مكانة مهرجان المربد. وقد علق على مجموعتي تلك أستاذ وناقد كبير راحل، فقال: «ليعلم الغرب أن لدينا شاعراً كتب القصة الشعرية وهو في التاسعة عشرة من العمر». تلك كانت البداية، وبعدها حصلت على وسام العالم في الشعر ثلاث مرات كانت الأولى عام 86 وفي مهرجانات بوشكين في ذكرى مرور 175 عاماً على وفاته، ثم عام 99 في مهرجانات يوغسلافيا الشعرية.


هناك من يعتقد بأنك كنت شاعر سلطة ونخبة، لا شاعراً جماهيرياً. ما تعليقك على مثل هذا الرأي؟!
- على العكس، أنا شاعر خرج من صفوف الجماهير وعُرف من خلال التظاهرات التي كنت أقرأ أشعاري فيها وأستنهضها به.
 لكن ذلك كان في حدود العراق؟!
- نعم، ظل في هذه الحدود، وهناك في العراق كنت على علاقة حتى مع بسطاء الناس، يسألون عن أخباري وعن سر غيابي إذا أنا تغيبت ولم تصلهم أشعاري.

 لماذا برأيك ظللت حبيس هذه الحدود، حدود العراق؟!
- هذه مشكلتي أولاً، ومشكلة النشر في الوطن العربي ثانياً. هي مشكلتي لأنني أعجز الناس عن إرسال قصيدة إلى مجلة أو جريدة. خذ مثلاً حين كان إخواني من الشعراء يكتبون لمجلتي «الأديب» و»الآداب». كنت وقتها أكتب القصيدة وأضعها في ظرف يظل في جيبي أسبوعاً أو أسبوعين ثم أمزقها ولا أقوى على أن أضع الظرف في صندوق البريد.

 هل ذلك بدافع الأنفة؟!
- لا. كنت «تمبل» حينها ومتقاعساً، ولم يكن يعنيني أن أنشر قصيدتي قدر ما يعنيني أن أكتبها وكفى. لم أعرف التخطيط في حياتي. وكانت القصيدة دائماً «شيء» بيني وبين نفسي، حتى أن بدر شاكر السياب كتب ذات مرة مقالتين نقديتين عن ديواني الأول تحت عنوان «طيبة الديوان المظلوم» قال من ضمنها إن «أبرز أسباب عدم ذيوع عبدالرزاق هو عبدالرزاق نفسه، إنه أكثر الناس ظلماً لنفسه، فهو لم يكن يرسل قصيدة إلى جريدة أو مجلة».

 في السياق ذاته، بماذا تفسر غياب أعمالك المطبوعة عن المكتبات العربية، على الأقل في اليمن حيث تتمتع بجمهور طيب؟!
- كنت سآتي على ذكر ذلك، فقد طبعت أغلبية دواويني في العراق ما عدا بعضها مما طبع في مصر ولبنان، ويطبع الآن في تونس والعراق. اعتادت وزارة الثقافة على أن تكون أكبر كمية تطبعها من الديوان هي خمسة آلاف نسخة تحتفظ بألف منها للتبادل الثقافي، وتضع الأربعة آلاف نسخة المتبقية في أربعة أركان من بغداد، وهكذا كانت النسخ تنفد جميعها خلال ثلاثة أيام في بغداد وحدها، لذا فإن دواويني لم تكن تصل حتى للعراقيين أنفسهم في المحافظات الأخرى.

 ألم تحاول كسر هذا الاحتكار الذي مارسته وزارة الثقافة عليك؟!
- في إحدى المرات عرضت عليَّ «دار القلم» أن تنشر أعمالي بشكل باذخ جداً، أغلفة سميكة وطباعة رفيعة، ورفضت ذلك؛ لسبب واحد هو أنني كنت مديراً عاماً لثقافة الأطفال، وكانت منشورات دار ثقافة الأطفال تغطي العالم كله، في اليابان وفرنسا، في بيروت، وفي الكثير من دول العالم، وبمعدل خمسمائة ونيف كتاب في العام، وحينها خشيت أن يقال إنني طبعت أعمالي في «دار القلم» وقايضت الدار بكتب تحقق أرباحاً من خلالها، ولهذا السبب رفضت. أعترف أنني قصرت في حق نفسي في هذا الجانب، وأعتقد أن المربد وقصائدي فيه أحد أسباب ما وصلت إليه من شهرة، لأن هذه القصائد كانت تصبح أحياناً «تحية المربد» يسلم الشعراء العرب على بعضهم بعناوينهم كما حدث مع قصديتي التي مطلعها «الحمد لله يبقى المجد والشرف أن العراق أمان حيثما أقف».

  هل حدث أن دخلت في مواجهة مع النظام بسبب قصيدة أو موقف ما؟!
- سأخبرك بشيء.. ذات يوم كنت أتجول في شوارع باريس في وقت متأخر من الليل، وكان بصحبتي الفنان الراحل كرم مطاوع، كنت خارجاً من نوبة قلبية، وكنت أردد معه بصوت مرتفع القصيدة التالية:
يا عبدالرزاق ميلادك في موتك
يا عبدالرزاق. ميلادك في موتك
موتك في صوتك
فتأمل، فكل الفجيعة في الصوت هذا
بكاءً ولدنا وبكاءً لنموت
فمتى تتعلم أن السكوت
أبلغ الآيتين؟!
وقال فاروق شوشة يومها بعد أن سمع بالقصيدة: «سيخرج عبدالرزاق من المشفى محمولاً على الحديد»، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فأنا كنت ممن يُسمع صوتهم ويُحترمون لدى النظام.

 ما الذي يجبر «النظام» على احترامك مع كل ما تقول؟!
- أنا كنت كما سماني رئيس الدولة «صوت الوطن العربي». كان صوتي هو صوت العراق سياسياً ووطنياً، على أنني أكره السياسة بطبيعتي.
  ماذا خسر عبدالرزاق الشاعر والإنسان باحتلال العراق وسقوط النظام الحاكم فيه؟!
- إذا سمعت بإنسان يموت إن خرج من وطنه كما تموت السمكة إن خرجت من الماء، فذلك الإنسان هو أنا، لهذا السبب أصبت بالنوبة القلبية جزعاً على العراق وحزناً عليه. كانت أقصى مدة أحتمل قضاءها خارج العراق وبعيداً عنه لا تتجاوز الشهر، ولدى عودتي كنت أحس بأنني أصبحت في العراق حالماً أدخل الطائرة العراقية، فأبكي فرحاً. فماذا تتوقع أن يعني احتلال العراق بالنسبة لي؟! ذلك هو جرحي الكبير الذي سيظل ينزف دماً، لكنني أثق في أن هذا الجرح سيلتئم يوماً ما، لأنني أعرف العراقيين وأنا الذي قلت فيهم:
ألا كل ذي قولة قالها
وكل أخي ميلة مالها
وكل طموح جموح الخيال
أتيحت له جولة حالها
وما بدلت حالة لها
ولا قيل عن شهقة يا لها
إلى أن طلعت فضج العراق 
وزلزلت الأرض زلزالها
بلى نحن أدرى بهوج الفرات
إذا سيّل الغيض سيّالها
بلى نحن أدرى بهام النخيل
إذا هزت الريح أحمالها
بلى نحن أدرى بهول العراق
إذا ندبت حرة خالها
إذا أشعلت رملة آلها
وأجفلت النفس إجفالها
وأخرجت الأرض أثقالها
وأنكرت الأم أطفالها
وقفنا بأسواطهم لا تريم 
وكنا عليها وكنا لها
لهذا أنا أدرى بالعراق، وأتوقع أن يعود سليماً معافى. وفي قصيدتي التي حظيت بشهرة عالمية والتي طلبتها أمريكا ونشرت هناك وهي شتيمة لأمريكا نفسها، والتي ألقيتها في أول مؤتمر شعبي عربي عقد لنصر العراق في بعداد عام 92م، هذه القصيدة كانت تحمل نبوءة وتوقعاً أيضاً، وهي بعنوان «يا صبر أيوب» وأبدؤها بهذا التقديم:
«من مأثورنا الشعبي أن مخززاً نسي تحت الحمولة على ظهر الجمل».
قالوا وظل.. ولم تشعر به الإبل
ليمشي وحاديهُ يحدو وهو يحتمل
ومخرز الموت في جنبيه ينشتل
حتى أناخ بباب الدار إذ وصلوا
وعندما أبصروا فيض الدما جفلوا
صبر العراق صبور أنت يا جمل

(عند هذه النقطة يغالب الشاعر دموعه التي بدأت بالانحدار .. برهة صمت ثم أسأله مجددا) هل يمكن أن تصنف لنا ظروف مغادرتك العراق ووصولك إلى دمشق؟!
- قبيل الحرب بأيام، كنت مدعواً من وزارة الثقافة في السودان مع نخبة من الشعراء العراقيين لإحياء فعاليات ثقافية أدبية هناك، وقد توجهت فور انتهائها إلى دمشق وقضيت فيها أسبوعين، وخلال ذلك اندلعت الحروب ولم أتمكن من العودة حتى الآن. وقد بعثت برسالة إلى ولدي وصديقي عبدالرزاق الربيعي في عمان، بعثها بدوره إليّ لتنشر في مجلة «الصدى» قلت فيها: «أنا أدري أنني لو رجعت إلى بغداد الآن، وأنا أموت لكي أعود إليها، ولكني أخاف من أنني وأنا منحن أقبل تراب العراق تخترق ظهري رصاصة يطلقها أحد الخونة فأموت ويقال قتله العراقيون وحاشى العراقيين أن يقتلوا عبدالرزاق عبدالواحد، لأنه كان شاعرهم.. ولكن يقتله خائن من الخونة، وهذا ما أتوقعه، لأنهم أهدروا دمي». وهكذا فضلت البقاء في الشام ثم انتقلت إلى باريس ومكثت لدى ابنتي المقيمة هناك عشرة أشهر، في الشهر التاسع منها أقامت جامعة منوبة التونسية يوماً للاحتفاء بالعراق سمي «يوم العراق» وفيه تم تكريمي وألقيت قصائد شعرية انتحبت فيها العراق وانتحب الحضور الغفير معي. كان المشهد فوق الاحتمال، وأحسست لدى عودتي إلى باريس بعياء شديد تطور بعد يومين إلى نوبة قلبية أدخلتني المشفى ليعود قلبي إلى الاستقرار في اليوم التاسع، فأقر السفر مع زوجتي الدكتورة سلوى إلى دمشق، فإذا كان لا مفر من أن أموت فليكن ذلك في دمشق، هذه المدينة التي أصبحت مقبرة لشعراء العراق دفنوا فيها، وهذا مجد لي أن أدفن مع هذا الرعيل: الجواهري، ومصطفى جمال الدين، والبياتي... وغيرهم، وها أنا في دمشق، وأتمنى أن أرى العراق قبل أن يُحفر قبري.

* يقول قباني: «علمني كيف يموت الخيل ولا يبقى إلَّا الشعراء»، ألا ترى أن هذه الصورة معبرة عنك؟! انهارت العسكرية العراقية وبقي عبدالرزاق عبدالواحد!
- إذا كان نزار قد عنى بالخيل وسيلة نقل الشعراء، فأنا أعتقد أنه لا العراق يموت ولا خيل الشعر في العراق تموت، قد ينكب منها فارس على وجهه فيتعفر بالتراب، تراب الهوان، وقد ينكب منها شاعر معفراً بجراحه، لكن خيل العراق تظل تجري مثلما تجري أمواج دجلة والفرات.

* متى تكون علاقة الشاعر بسلطة أو نظام ما مسيئة للشعر والشاعر؟!
- هذا يتعلق بزاوية الرؤية، فعبر التاريخ كان هناك شعراء انتموا إلى تيار سياسي أو فكري ما، وكان هذا التيار «مناضلاً» ضد وضع قائم، ثم انتصر وامتلك الحكم وصار حاكماً، عند ذلك ليس من المنطق أن ينقلب الشعراء الذين انتموا إليه في نضاله عليه لأنه أصبح حاكماً.. في اعتقادي أن خطأ الشعر الكبير أن يمشي مع تيار السياسة، وهذا خطأً ووقعت فيه أنا، وهو يجني على الشعر والشاعر معاً، فالشعر يبقى أكبر من السياسة ومن السياسيين، وذات مرة قلت في لقاء تلفزيوني مع القناة العراقية إنني لست شاعر سياسة، أنا شاعر وطن، وأكره السياسة لأنها نفاق وتلون ومخاتلة، وهي ليست نظيفة ولا نقية. وحدث أن التقيت «الرئيس» بعد هذه المقابلة وقال لي حينها: إذن أنت تكره السياسي يا عبدالرزاق؟! فأحرجت وأجبته: أنت لست سياسياً، أنت عقائدي وصاحب مبدأ، ولو كنت سياسياً لما وقعنا في كل هذه المطبات. هذا ما قلته بالحرف الواحد. ومجدداً أقول إن السياسة عندما تحتوي مبدعاً تذبحه، وأنا واحد من المذبوحين بها، على الرغم من أن ما أكتبه ليس سياسة، كنت أكتب للعراق في أقسى محنه ولم أكن منتصراً لفئة ما. اتهمت بالشيوعية ذات يوم، والحقيقة أنني ما كنت شيوعياً ولا بعثياً ولم يكن لدي انتماء سياسي، كان لدي انتماء وطني صرف للعراق، ومتى ما وجدت أن هذا «الرمز» ينهض بقيم العراق ويعطي لها ألقها يمكن أن أرمز إلى هذه القيم به وأسميها باسمه، ومع ذلك فإن المرء لا يستطيع أن يهرب من السياسة بمعناها الواسع: شرب الماء والحديث عن تلوثه في العراق يصبح ضرباً من الحديث السياسي، هذا البلد الملوث بالاحتلال اليوم، وهذا الماء الملوث باليورانيوم، وهذا الهواء... كل ذلك هو سياسة فماذا نعني بالسياسة والحال كهذه؟!

*  ربما السياسة كنظام بعينه؟!
- إذا تحدثنا عن السياسة كنظام في العراق أنا كنت «بين بين»، كان عندي رمز أمتدحه هناك، وكنت في المقابل أحتج على الكثير من المسائل بشكل واضح وأقول عن العراق أشياء سلبية لم يكن يجرؤ المعارضون في الخارج على قولها رغم أنهم كانوا آمنين على أنفسهم وأسرهم. وقد أوشكت أن يقطع رأسي بسبب ذلك. أما الإيجابيات التي امتدحتها في العراق فترجع إلى أنني كنت مؤمناً بأنه يتجه اتجاهاً وطنياً رغم أخطائه وأخطاء السياسة الكبيرة في العراق.

*  لهذا السبب يحس المرء وهو يقرأ قصائدك في صدام حسين بنوع مختلف من الإطراء يشبه إطراء المحب؟!
- أنا كنت أكتب للعراق مشيراً إليها بصدام حسين، وقبله كنت أرى هذا الرمز في عبدالكريم قاسم، لكن كبريائي كان للعراق وسيظل للعراق، وأتذكر أن صدام حسين استاء كثيراً لقصيدة ألقيتها في حضوره أقول فيها:
ما تشاء يا عراق لا ما أشاء
 أنت أبقى والمجد والكبرياءُ
أنت أبقى وكل ذرة رمل
فيك أبقى وتذهب الأسماء
هذه هي الحقيقة وقد ذهبت كل الأسماء وبقي العراق وحده يقاتل اليوم. وحتى عندما كنت أكتب للمرأة فقد خاطبت العراق:
يا أخت نخل عراق لا تميل به
ريح ولكن دلالاً يلعب السعف
حلاوة التمر أو أحلى وجوهرها
مثل النواة عليه السن تنقصف
العراق هو قضيتي إذن.

*  ما الذي يمكن أن ينهض به الشعر اليوم في زمن الاحتلال؟! ما هي وظيفته؟!
- وظيفة الشعر اليوم أن يكون حادياً ونبياً وأن يكون الشعراء أنبياء يقرؤون شعرهم في الشوارع ويستشهدون كملحميين وفدائيين لإنسانية كلها تذبح اليوم، وعلى الشعراء أن يكتبوا بإنسانية وللإنسانية نفسها.

*  سمعت عن علاقتك بالنواب، ما الذي يجمعك بهذا الشاعر المغضوب عليه؟!
- مغضوب عليه ممن؟! (يضحك) العراقيون كلهم يحبونه.

*  الأنظمة العربية تمقته!!
- الذي أعرفه أن النظام العراقي وصدام حسين نفسه وجه إلى النواب دعوة للعودة إلى العراق في السبعينيات، وعاد النواب بالفعل وكرمه الرئيس وأهداه مسدساً رفضه مظفر وحينها طلب السماح له بالخروج من العراق وسمح له.
مظفر النواب هو صديقي منذ دراستنا الجامعية، كان في الآداب وكنت في دار المعلمين، ثم كنا معاً في اتحاد الأدباء، واعتقلنا سنة 56م ووضعنا في معتقل السعدية، وفي ذلك الوقت كنا نخرج إلى التلال عند الغروب فيقرأ مظفر النواب قصائده ويحدوها بطريقة مذهلة وهائلة، وفي الحقيقة ما سمعت شاعراً يقرأ الشعر مثل مظفر وهو يمازج قراءته بالبكاء.
إذن هو كان ولايزال صديقي، وفي الآونة الأخيرة عقب احتلال العراق عندما التقيته في دمشق بكينا ونحن نحضن بعضنا، أنا المصنف في صفوف السلطة وهو المصنف في المعارضة. هذه حسابات غير صحيحة وسقطت أمام حرارة اللقاء الذي جمعنا بعد غياب طويل.
وأعتقد أن الكثيرين لا يفهمون مظفر كما يجب. إنه رجل حر، وخروجه من العراق لم يكن لخلاف مع النظام العراقي، بل مع الأنظمة العربية جميعها، وهو ليس شاعر سياسة، هو شاعر وطن، شاعر إنسانية، شتم كل الظلم ودافع عن الخير، وأنا أحترم كثيراً شتيمة هذا الشاعر.

*  ماذا تعني بالنسبة إليك هذه التوليفة: مشاهد أبو غريب، اعتقال صدام حسين، المقاومة، الشعر، القمة العربية الأخيرة؟!
- هذه توليفة متفاوتة متباينة، لكنها في الواقع يؤدي بعضها إلى بعض. كنت قد توقعت أن يحدث كل ذلك وأن نصل إلى هذه النتيجة، وفي احتفال عمّان عاصمة للثقافة العربية قرأت قصيدتي التي تقول:
هذي البلاد بلادي والدماء دمي
والمستباحة في أقطارها قيمي
وكل أهلي بها صاروا بلا ذمم
أشكو لمروان أم أشكو لمعتصم؟!
.....................
وكلكم ساكن في رملها خيما
مادام نسل يهوذا صانع الخيم

*   مشهد اعتقال صدام؟
- لا أعلق عليه!!
إذا كان للشعوب العربية ضمائر، وأنا أثق أن لها ضمائر حية جداً، فإن تلك هي مشاهد تدمي كل ضمير، ونحن جميعنا إحساس بالأسى، بل وما هو أكثر من الأسى، لأنها تسيء إلينا جميعاً... ويأتي «أبو غريب» ليكشف فضيلة المحتل، فلم يكن ينقصنا نحن العرب إلا أن يعتدي علينا جنسياً لنكتشف ذلك! هل بعد هذا هوان؟!

*   ماذا عن المقاومة؟!
- الآن لا تستطيع التمييز، فالحابل يختلط بالنابل.

*  ما هو الفصيل المعبر عن العراق برأيك؟!
- كل فصيل يقاوم الاحتلال هو عراقي، لكنني ضد أولئك الذين يقتلون العراقيين.

* القمة العربية؟!
- قمة عربية كعادتها. ونتمنى أن ينجز حر ما وعد.

*  من هو صاحب قصيدة «أسرج لها الخيل..» القصيدة الأشهر التي ارتجز بها صدام إبان الحرب؟!
- الشاعر الأردني الكبير حيدر المحمود، وزير الثقافة الأردنية أيام مجلس التعاون العربي، وقد كتبها في مديح صدام حسين أثناء انعقاد المجلس في العاصمة عمان، وحينها اجتمع ثلاثة من كبار شعراء الأردن، كتبوا جميعهم قصائد في مديح صدام تاركين الرؤساء الثلاثة بمن فيهم مليكهم لم يقولوا شيئاً فيهم. والشعراء كانوا: حيدر محمود، عبدالرحيم عمر، وخالد بهاء الدين.

*   متى تزور اليمن؟!
- عندما تدعوني اليمن إليها.

(زار الشاعر اليمن مرات عديدة وكتب قصائد في الوحدة اليمنية دخلت إحداها ضمن المقرر المدرسي).