إنصاف أبوراس / #لا_ميديا -

بدت غريبة، هي نفسها لم تكن لتتعرف عليها إن رأتها هناك تقف على عتبة الضياع، بعد أن التهمت الحرب خارطة حياتها فتاهت في مغارات تقلباتها.
تحن كثيرا لفنجان قهوتها، لصوت فيروز يناغي صوت عصفوري الكناري اللذين يراقبان بخار قهوتها الممتزج بأنفاس صباح مدينتها الحالمة.
تعود مجددا من رحلة الاشتياق لتفرض على ذاتها تقبل وضع غريب عنها، تحاول تناسي ماضيها، تتوسل حاضره القبول بها جزءاً منه، وإن كان ذلك الجزء مشوهاً تخفيه عباءة مهترئة تحوي جسدا نحيلا امتصته الحرب بتلذذ، تدرب كفها على الإمساك بخرقة مبللة بالوجع، تمسكها بكف الصبر ثم تمررها عبر زجاج السيارات العابرة، تدرب سمعها على الضجيج، أصوات العابرين، أبواق السيارات، تعليقات تجرح كبرياءها، تذكرها بأنها لم تعد هي بعد أن تركت الحرب عليها بصمتها كلعنة أبدية.
ستتخذ من الرصيف سكنا، ستواسي في نهاية كل حسرة كفها التي بدأت تتناسى الرفاهية وأتقنت ببراعة مناغاة الزجاج، ستمتن دائما لإشارة المرور التي تقدم لها العون كلما بكت وضعها واحمرت عيناها، لتتوقف بمحاذاتها سيارة بفضلها تضمن أنها لن تبات ليلتها جائعة، تمتن لخيمة تكتظ بالنازحات أمثالها، على الأقل ستنام دون أن تجلد جسدها سياط البرد، ستمنع عنها سياطا أشد قسوة رأتها ترتسم ببشاعة على أجساد فتيات لم تشوه الحرب تفاصيلها، فأضحت سلعة تباع بالرخص.
ستلعن قبل أن تغمض عينيها بشاعة السياسة، خبثها، شيطنتها، ربما تدون على السطور مذكرات تسميها: للموت وجه آخر، هي بطلتها. ثم في غمرة البؤس، حين يهرب من جفنيها النوم ويستوطنهما الأرق، ستناجي الإله، ستعاتبه كيف لم يكن بها رحيما وأبعد عنها فرصة النجاة بأن تكون روحا تسكن السماء.
ستستغرب تساؤلها، لكنها ستؤمن به، فالموت منقذ. يغدو الهبة الأعظم حين يضحى الإنسان وحيدا يقضمه الفقد، ستنهي ليلتها كغيرها من الليالي الباردة، ستترك دفترها المتخم بالغصة، وستنام كعادتها لتحلم بأن كل شيء قد عاد لما كان عليه من قبل، وستتمنى كعادتها أيضا ألا تصحو أبدا.