علي نعمان المقطري  / لا ميديا -

عندما زار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الاتحاد السوفييتي في عهد خروتشوف، رأى مجموعة من النساء يشاركن في العمل؛ في المصانع والمزارع والبناء والتعليم والصحة... وغيرها من الأعمال الميسرة، فاعتبر ذلك نقيصة سوفييتية، وأشار إليها خلال كلمته الخطابية في الاحتفال الذي نظمه خروتشوف على شرفه. إلا أن خروتشوف رد على كلمات نيكسون المتعالية بالقول: "إن الضيف يعيب علينا أن نساءنا يكسبن خبزهن اليومي من عرق جباههن، بينما نساؤهم في الغرب يكسبن خبزهن اليومي من عرق أفخاذهن، فأيهما أشرف وأكرم؟!".

ما قاله كل من خروتشوف ونيكسون من كلمات إنما تعكس المفاهيم والعقائد في الغرب والشرق تجاه المرأة وتجاه أمور كثيرة أخرى، فإذا كان نصف الشعب في الغرب يكسب عيشه بهذه الطريقة، فكيف ننتظر منه أن يكون لديه ولاء للوطن؟!
إن المومس في الغرب كآدمية تشعر بمدى ما تتعرض له وتواجهه من إذلال، حيث التركيب الاجتماعي السائد والدولة القائمة في الغرب يفرض عليها ويشجعها على العمل في هذا المكان كخيار لكسب العيش. 

ما يلفت الانتباه أن نجمة أمريكية هوليوودية مشهورة، وهي مارلين مونرو، التي كانت محظية خاصة للرئيس كندي نفسه، تمت تصفيتها سرا في القرن الماضي وبطريقة ظلت غامضة حتى كشفت الوثائق السوفييتية ـ الأمريكية أن هذه النجمة الأمريكية كانت جاسوسة سوفييتية تتبع خروتشوف نفسه، فما الذي يدفع نجمة أمريكية باذخة الثراء والمجد ومقربة من الرئيس والسلطة العليا الأمريكية إلى هذه الخيانة البشعة؟! لأنها ببساطة تفتقر للولاء الوطني، ولكن لماذا؟!
كل جريمة لها دافع شعوري واعٍ، فهناك دافع المال أو الشهرة أو السلطة... أو غيرها من الشهوات والمتع، وبالتالي فإن الدافع الرئيسي الوحيد لجرائم خيانة للوطن هو انعدام الشعور بالولاء والانتماء للوطن، وكراهيته واحتقاره، فلماذا يأتي ذلك من نجمة كهذه؟!

إنها الرغبة في الانتقام من شعور الإهانة والاستعباد الروحي الذي وضعت فيه، وانعدام الولاء للوطن الذي يضعها في هذ الموضع الخالي من تقدير الإنسان لذاته، مهما تكن حالة الافتقار للشعور بالاحترام الذاتي الناتج عن وضع النساء في الغرب، فالغرب يفتح طريقا واحدا للضعيفات من النساء للعيش، وهو بيع أعراضهن في ظل بطالة الملايين من الرجال، فهي المهنة الوحيدة التي لا تعرف البطالة، بفعل هندسة اجتماعية مسبقة لتخطيط المجتمع والسيطرة عليه.

الخلفية التاريخية للتخاذل الغربي إزاء الاحتلال الأجنبي 
تهشمت بنية الغرب الأوروبي ومجتمعاته وثقافته وروابطه الاجتماعية وعقائده خلال العصور الأخيرة من الإقطاع والثورة الصناعية والاستعمار ونهب المستعمرات والعالم الجديد، وكان الانحلال الاجتماعي والطبقي والأخلاقي متلازمين في هذه المجتمعات.
كانت الحركة الأنوارية تبحث عن آلية جديدة لتعقلن بها ذلك الانحلال الذي استشرى بقوة في هذه المجتمعات، والذي جاء نتيجة المجتمعات الإقطاعية الاستبدادية الفاسدة المتعفنة والفاسقة المتحللة الأخلاق والعقائد والقيم التي توارثتها فرنسا طوال العهود العبودية الإقطاعية الاستبدادية الرأسمالية الاستعمارية الامبريالية والدجل المسيحي المزور خادم الاستبداد.

الغرب الأوروبي تمثله البنية الفرنسية العامة ومآلاتها خير تمثيل من حيث التمزق والانحلال والتخاذل إزاء الغازي الأجنبي، حيث كانت فرنسا أكبر وأقوى ماديا وعسكريا من نظيرتها ألمانيا حتى عشية سقوط باريس واحتلالها، وكل الدراسات التاريخية العسكرية التي أجراها كبار العسكريين والباحثين في الحرب وتاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية يتفقون على نقطة مركزية أو فكرة أساسية مفادها أن انهيار الفرنسيين العسكري والسياسي أمام الاحتلال الألماني يعود إلى شيخوخة وهرم النظام الإداري والاجتماعي للدولة والجيش، وانحلال بنية الأخلاق المجتمعية وتفسخها، وضعف العقيدة القومية والوطنية الموحدة، والافتقار إلى مشاعر الولاء الجمعي تجاه الدولة المفقودة التي آلت إلى جيب حفنة من كبار الاحتكاريين الماليين والشركات الكبرى التي تحتكر كل شيء. فليس من المصادفة أن الفرنسيين الوطنيين لم يتمكنوا من تحرير بلدهم إلا بمساعدة القوات الأجنبية، التي أتت من الدول التي احتلتها فرنسا على طريقها نحو الشرق، مقابل وعود بمنحهم الاستقلال، مثل المجندين المغاربة والجزائريين والأفارقة.

ذلك كان حال الأمة الفرنسية التي لا يقل تعدادها عن 50 مليون نسمة حينذاك، وبلغت مستوى الدولة الاستعمارية الإمبريالية والرأسمالية العظمى صناعيا وزراعيا وثروات وتوسعا ومستعمرات، وعندما تعرضت لأول هزة حربية خنعت وجثت على ركبتيها أمام الغازي الأجنبي، حتى قبل بدء المعارك الحقيقية، مع العلم أن فرنسا لم تكن هكذا من قبل.
كانت فرنسا في عهود الثورة الفرنسية الكبرى ثم في عهد نابليون بونابرت ثم في عهود نابليون الثالث ثم في القرن العشرين، كانت ما تزال قوة عسكرية وسياسية، ولكنها كانت قد فقدت إيمانها القديم بثورتها ومبادئها، بسبب فساد نخبها المالية والسياسية والعسكرية المترفة والافتقار إلى الولاء للوطن والعقائد الثورية الأخلاقية الدينية والوطنية.
فما الذي استجد لتنهار فرنسا بسهولة أمام الغازي رغم توفر القدرات والإمكانات المادية والعسكرية وكل المقومات المطلوبة لدولة عظمى؟

إن الإجابة تكمن في شيئين، هما: "تفسخ المعنويات والأخلاق، وشيخوخة النظام العام"، حيث أصيب المجتمع الفرنسي بالتفسخ المعنوي والأخلاقي والفكري خلال حكم الطبقة الارستقراطية الإقطاعية الفاسدة قبل الثورة، نتيجة التحول من مجتمع الثورة والجمهورية الحرة إلى نظام الاستعمار الإمبريالي الرأسمالي، والتحول إلى قهر الفقراء والمستضعفين والعمال والبروليتاريا واستعباد المجتمعات الفقيرة في أوروبا وفي فرنسا ذاتها، حيث تم إعدام مئات الآلاف من العمال الذين احتجوا على ما يعانونه من مظالم في نهاية القرن 19.

فالمظالم الاجتماعية الواسعة التي كان يعاني منها الفقراء بفعل الطبقات الفرنسية الغنية المسيطرة أدت إلى تجفيف الشعور بالولاء الوطني للدولة القائمة وإضعاف الإحساس بالانتماء إلى النظام الرأسمالي الطفيلي الجائر الذي يحول قسماً كبيراً من الفقراء إلى مجرد رقيق أبيض لخدمة الاغنياء والمترفين وتوفير المتع الرخيصة لهم. كما أن الفسق الأخلاقي الواسع الذي انتشر في فرنسا، وتحديداً في العاصمة باريس وما يزال، أصبح نظام حياة ومصدر عيش وتكسب لقطاع واسع من الفرنسيين، وهو ما كشف أن القيم الأخلاقية والدينية في فرنسا كانت قد اندثرت معالمها وانحلت روابطها وتفسخت.

إن انقسام المجتمع الفرنسي الواسع بين طبقة الأغنياء جداً وبين أغلبية شعبية فقيرة من الكادحين والمسحوقين الذين قاموا بكل الثورات الفرنسية السابقة وضحوا بالكثير في سبيلها، وكانت مكافأتهم المزيد من الإفقار والقهر والاستغلال والاسترقاق المبطن والصريح، إضافة إلى الاضطرابات العقيدية والفكرية والدينية التي انتابت المجتمع الفرنسي خلال التحولات السياسية الراديكالية، كل ذلك فاقم إلى حد كبير تفسخ المجتمع الفرنسي وتمزق وحدته الوطنية وتفكك تماسك نسيجه الاجتماعي.
إن سياسة الاستعباد وتجارة الأعراض والرقيق التي كانت شائعة على أوسع نطاق في الغرب وفي فرنسا بالذات، لا تصنعان الرجال الأحرار الذين تحتاجهم كل دولة وكل أمة للدفاع والذود عن حياضها وأعراضها وكرامتها وترابها وأرضها وثرواتها وعقيدتها وقيمها وأخلاقها وهويتها ومقدساتها. 

ففي هذ العنصر المعنوي الأخلاقي تكمن بدرجة رئيسية بنية الانهيارات العسكرية السياسية الفرنسية أمام الغزو الأجنبي، التي كان من نتائجها سيطرة القوى الشائخة الطفيلية المترفة المائعة الغارقة في الترف والنعيم والفساد والفسق والرذيلة، وهي تشبه الأرستقراطية الرومانية المترفة التي وقفت أمام القبائل البربرية الجرمانية الرعوية عاجزة عن الدفاع عن روما وإمبراطورتيها الغارقة في فسادها وانهارت أمام الغزاة البدو.

يقول الحكيم اليوناني الشهير أرسطو طاليس، يقول مؤدب ومعلم القائد الفاتح الإغريقي الأشهر في التاريخ الاسكندر الكبير بعد هزيمته للجيوش الفارسية الضخمة التي كانت تفوقه عديدا وعدة عشرات الأضعاف في معركة بغداد القديمة، معلقا على تلك الانتصارات، مقدماتها ونتائجها ودروسها: "ليس القائد فقط هو الذي انتصر، وإنما نظام العيش الإغريقي هو الذي انتصر، والذي كان يعطي للإنسان الإغريقي مساحة من الحرية والحقوق والاحترام، ولا يخدم في الجيش إلا الأحرار ولا يدخله إلا أبناء قومية متماسكة واحدة هم اليونان الإغريق، والقيادة فيه لا تورث طبقيا ولا سلاليا وإنما تكتسب وتعلم وتدرس. ومن انهزم ليس الملك الفارسي وحده، وإنما هو نظام العيش الفارسي الاستبدادي والاستعبادي الذي لا يترك للإنسان فيه مساحة للاحترام الذاتي، ويجند العبيد والأقنان من كل الأجناس المختلفة المتباينة الأهواء والمصالح، ولا تدفعهم إلى الحرب دوافع ذاتية، بل هو الخوف والطمع المالي إلى الغنائم، وليس للولاء الوطني مكان في نفوسهم وقلوبهم نتيجة نمط عيشهم الذي يضعهم في جوف القهر والاستغلال والاستبداد والفساد والإهانات والإكراه".
إن تحول الجمهورية الفرنسية من دولة حرة وثورية إلى دولة استعمارية تستعبد الشعوب المستضعفة أسقط الصورة القديمة لفرنسا في عيون المواطنين الفرنسين أنفسهم، "فلا يمكن لأمة تستعبد أمة أخرى أن تكون حرة".