أحمد الحسني / لا ميديا - كُتبت هذه المادة في: ديسمبر 2005

دخل المقهى رجل أشيب الشعر جاحظ العينين، وبرفقته أحد أبناء المنطقة. جلس الرجل ورفيقه وطلب من النادل الذي كان يوليهما اهتماماً خاصاً أن يحضر لهما رقعة شطرنج، كان يجلس بالقرب منهما نجيب محفوظ محملقا في الأصابع النحيلة الطويلة وهي تنقل قطع الشطرنج.
من هذا التأمل في ملامح الرجل الذي عرف محفوظ أنه اللواء حمزة البسيوني، المدير السابق للسجن الحربي الرهيب، وفي مقهى أحمد عرابي، ولدت رواية «الكرنك» الشهيرة، عام 1971م.

يقول نجيب محفوظ متحدثاً عن حياته مع المقاهي: «بخلاف قهوة قشتمر وعرابي والفيشاوي التي كنت أرتادها للقاء الأصدقاء، كانت هناك العديد من المقاهي التي كنت أذهب إليها لألتقي بالكتاب والمثقفين، وكان أول منتدى أدبي هو كازينو الأوبرا، ثم بعد ذلك جاءت قهوة ريش، ثم علي بابا. في حياتي الكثير من القهاوي، فقد جلست مثلاً على قهوة البوديجا التي كانت واحدة من أفخم المقاهي في عماد الدين، جلست أيضاً على قهوة أم كلثوم بميدان عرابي، وفي الصيف كنت أتمشى إلى كافتيريا فندق شهرزاد القريبة من مسكني، وتتميز القهوة البلدي على غيرها بأنك لاتحتاج أن تذهب إليها مع صديق، فبمجرد أن تجلس يمكنك أن تصادق، أما في القهاوي الأخرى فإذا ذهبت وحدك فقد تتركها معظم الأحيان وحدك أيضاً، وقد كتبت بعض السيناريوهات، أحدها لفيلم من إخراج صلاح أبو يوسف، في قهوة التريانون بالإسكندرية، كما كتبت سيناريو فيلم «ريا وسكينة» في جليمو نوبولو، أما أعمالي الأدبية فكنت أتوصل إلى بعض أفكارها في المقهى، وحين أعود إلى المنزل أدونها.. أكثر قهوة استلهمت فيها أفكار وأحداث رواياتي كانت (الفيشاوي)».
لم يكن نجيب محفوظ الشهير الوحيد بين مرتادي المقاهي، فهناك حافظ إبراهيم وعبدالعزيز البشري ومحمد البابلي ود. محمد حسين هيكل وزكي مبارك والصحفي والقانوني محمود عزمي الذي شارك في صياغة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وفكري أباظة وغيرهم، بل إن رئيس تحرير «الأهرام»، أنطوان الجميل، كان حريصاً على أن يترك مكتبه ليتخذ من موائد قهوة بار اللواء مكتبا مفتوحاً يلتقي فيه الأدباء والمفكرين، يقول العلامة السوري محمد كرد علي في مذكراته «إن التاريخ الأدبي حافل بالكتابة عما يدور في المقاهي، ولم يكن ما كتبه أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» غير اقتباسات من مجالس السمر التي كانت تدور في دار الوزير في قضايا الفكر والأدب، وحرص الأمير على مسامرة ذويه في تلك الليالي التي شهدها أبو حيان، وسجل خلاصتها بأسلوبه البارع، فتميز كتابه بالتنقل بين المواضيع كما يحدث في المجالس عادة وبتلقائية غير مقصودة».
كما في القاهرة كانت مقاهي «البرازيل» و«شارع بورسعيد» و«هافانا» في دمشق، منتديات لأدباء ومثقفين مثل أحمد الصافي النجفي وبديع حقي وأنور العطار وشاكر مصطفى... الخ، ومقاهي شارع الحمراء في بيروت، ومقاهي بلحاج وباب سويقة والأحباش في تونس، وغيرها من مقاهي المدن العربية في القرن الماضي.
عالمياً ألهم الرصيف «شارلي شابلن» أروع قصص أفلامه، وكتب سارتر وسيمون دي بوفوار الجزء الأكبر من أعمالهما في مقهى يطل على رصيف. عموماً لم تكن المقاهي ساحات أدب وفنون وحسب، وإنما لعبت دوراً مهما في الحركات الوطنية والفعاليات النقابية، وكان المقهى علامة بارزة في نشأة الكثير من الحركات والتنظيمات السياسية والتيارات الأيديولوجية، تكفي الإشارة إلى أن حزباً كبيراً مثل حزب البعث العربي الاشتراكي، وقع تأسيسه في أحد مقاهي دمشق، وكانت انطلاقة الحزب وانطلاقة منظريه من أمثال صلاح البيطار وميشيل عفلق من ذلك الفضاء، ومن مقهى شارع الفلكي بالقاهرة كانت بداية تنظيم «حدتو» حركة الديمقراطية والتجمع الوطني، التي عرفت بالحزب الشيوعي المصري، في الأربعينيات، ومن مقهى بلحاج بالحلفاويين في تونس شكل عبدالعزيز الثعالبي حركة الشباب التونسي التي أصبحت الحزب الحر الدستوري، عام 1920م.

عدن البداية
المقهى اسم مشتق للمكان الذي تقدم فيه القهوة، وارتبط ظهوره بتجارة البن التي كانت تحتكرها اليمن، يقول الدكتور سالم البيض، من المعهد العالي للعلوم الإنسانية ـ تونس: «كما هو الشأن في أغلب أقطار الوطن العربي العثمانية، ظهر المقهى مع انتصاب الأتراك، إذ تعتبر إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية أولى الفضاءات التي عرفت هذه الظاهرة، وهو نفس التاريخ الذي انتشرت فيه أول المقاهي بالإيالة التونسية، بالرغم من أن تجارة القهوة تعود بأفريقيا إلى ما قبل ذلك التاريخ، والتي يرجح أنها وافدة من المشرق العربي، وتحديدا من اليمن، وقد انتشرت في عدة مدن من ذلك عدن والقاهرة».
أما الأستاذ جمال الغيطاني فقد أورد في دراسة له في السبعينيات عن القهوة موشحاً للشيخ عبداللطيف بن كثير الذي تولى القضاء في مكة وجدة، ينسب انتشار القهوة إلى المتصوف اليمني الكبير الشيخ العيدروس، يقول فيه:
«قهوة الـبن مرهم الحـزن وشفا الأنفــس
فهي تكسو شقائق الحسن من لها يحتسي
شاذلي المخا لها أســـس قطــب الزمان
ولها العيدروس قد كيس وابن ناصر أعان»
وفي ظل هذه الخصوصية التاريخية لعدن، أين تقع مقاهي عدن التاريخية بين مثيلاتها العربية؟ وإذا كان مقهى الفيشاوي يزيد عمره عن قرنين من الزمان، فما هو أقدم مقهى في عدن التي ينسب لها ولوليها العيدروس اكتشاف القهوة وانتشارها؟ وإذا كان مقهى ريش في القاهرة موضوعاً لأطروحة جامعية للباحثة رانيا أحمد، فما الذي قدمه الباحث اليمني عن مقاهي عدن التاريخية؟
توجهت بداية إلى الزميل محمد زكريا، الصحفي والباحث في التراث اليمني، وصاحب أحد أشهر المقاهي التاريخية في عدن، مقهاية «زكو»، بلطف حدثني بداية الأمر، وبتحفظ عجيب اعتذر بعد ذلك بدقائق عن تقديم أية معلومة عن تأسيس والده لهذا المقهى أو أي مقهى آخر في عدن، وكأنني طلبت منه أن يفشي أسرار وزارة الدفاع أو ينقلب على النظام السياسي في البلاد.

القميري.. مكتب سالمين المفتوح
لم يدم أسفي على هذه البداية كثيراً، فقد كان يجلس أمامي شخص كله تاريخي بدءا بشعره الأبيض وانتهاء بقدميه المعروقتين النحيلتين، كان ينظر إليّ من خلف نظارته، وابتسامته تزيح تخزينته الصغيرة قليلا، وكأنما يتعجب كيف لا أسأله، إنه أستاذنا في المولعة والصحافة عمنا عبدان دهيس الذي أجابني دون تحفظ قائلا: «في منتصف السبعينيات كنت أنا وزملائي نستعد لإنهاء رحلة العمل الصحفي اليومية بالذهاب إلى مقهى سيلان المشهور في كريتر أو مقهى كشر الذي يملكه السيد هاشم عبدالله السقاف (رحمه الله)، كنا نذهب بعد صلاة الفجر لسماع «صوت العرب» وإذاعة «بي بي سي» من راديو القهوة ذي الحجر الكبير، الكل منتشٍ بهذه اللحظات، ومنصتٌ باهتمام للمذياع. كانت بعض المقاهي تبيع اللبن البقري الطازج والملاي «دهن اللبن» والخمير الحلو الذي يسمى «المقصقص»، كانت مقاهي عدن ملتقى الوطنيين الأحرار، وكان بعض أصحاب المقاهي منخرطين في صفوف العمل النضالي ضد الإمامة والاستعمار ودعم المقاومة الشعبية سواء في صنعاء أو عدن، وفي هذا المقام أذكر أن كثيراً من الوطنيين اعتقلوا داخل هذه المقاهي، مثل المناضل عبدالله محفوظ، وكانت القوات البريطانية مركزة على المقاهي، وكما كانت المقاهي موعد لقاء بين صديقين وأصحاب حاجة، كانت مقاهي عدن تاريخاً مشهوداً وشاهدا على تاريخ ساد ولايزال يسود، إنه جزء من بنية الإنسان العدني الثقافية وموروثه الاجتماعي والنضالي».
أما أعرق مقاهي الشاي في الشيخ عثمان، فقد كانت مقهاية الشجرة لصاحبها عبده مكرد عزعزي، إلى جانب مقهاية القميري المشهورة التي انتهت مؤخراً، فمقهاية الشجرة إلى جانب شهرتها في بيع الشاي وخبز الطاوة، كانت ومازالت ملتقى الأدباء والفنانين والشعراء والرياضيين والتربويين أمثال الرياضي قيراط والشاعر محمد سعيد جرادة وإدريس حنبلة والبعيصي.
اشتهرت مقاهي الشيخ عثمان بوجود كتاب عرض الحالات (الشكاوى) الذين كانوا يكتبون شكاوى المواطنين باليد ثم بالآلة الكاتبة لاحقاً. أيضاً كانت المقاهي عنوانا دائما لسائقي سيارات الأجرة (التاكسيات).
أما أنواع الشاي الذي تقدمه هذه المقاهي، فهي: 
1 - المُحَوَّج «الزائد الجوز».
2 - العَصْمَلِّي «الثقيل».
3 - الجَرْو «الخفيف اللبن».
4 - الشاهي النص «نصف كأس».
5 - الشاهي الدبل «الكأس الممتلئة».
وهذه الطريق التقليدية في صناعة الشاي العدني لاتزال مستمرة إلى الآن، ولم تدخلها التحديثات والإتيكيت الجديد، ومرتادو القهاوي يمضون أوقات تسلياتهم في لعب الورق والدمينو، ولقد كان الرئيس سالمين مولعاً بشرب الشاي في مقهى القميري بالشيخ عثمان، خصوصاً في المساء والفجر، وكانت الكثير من القضايا يحلها في هذا المقهى..
أهل عدن يحمدون الله أنه لم يتم تأميم المقاهي، لقد حاول الحزب أن يؤمم مقهى الحاجة في كريتر، ولكن أبناء عدن فضلوا أن يبقى المقهى عدنيا محضا لا علاقة لماو ولا للينين به.. للأسف الشديد الكثير من المقاهي أغلقت أبوابها، وتحولت إلى مطاعم أو مخابز. 

الرئيسي هنا والفرع في القاهرة
كان عليّ أن أبحث عن التاريخ الحقيقي بعيداً عن النخبة، وأستقرئ ملامحه من الوجوه، فدخلت كريتر (عدن القديمة)، حيث كانت المقاهي القديمة تنفض عن الصيادين ليلاً تعب اليوم المضني، وتلملم أشجان الغربة من فوق عيون القادم من أقصى الأرض إليها، والضحكة تعقد بين الأجناس المختلفة عهد سلام ومحبة، والنشوة تسري من «قَلَص» الشاي العدني في الأنفس، والبخور العدني يتسلل بين أزقتها يحمل أسرار مخادعها.. قصص القبلات بأعشاش الأحلام و... 
«شاهي محوج.. وواحد نص زايد لبن.
جرو يا ولد.. جرو»
«أهلا وسهلا».. بغاية اللطف والابتسامة تملأ وجهه ذا اللحية الطويلة، قالها نصر هاشم وهو يستقبلنا في مقهى «كُشَر» في الميدان في قلب كريتر، أحد اًعرق مقاهي عدن، قال: «كان هذا محل قطايف وصاحبه يسمى كشر، وحوله والدي إلى مقهى حوالي عام 1955، ولكن الاسم ظل على حاله اسما للمقهى، بل حمل والدي هذا الاسم إلى القاهرة التي كان دائم السفر إليها، وهناك فتح أصدقاؤه مقهى بهذا الاسم، كان والدي متعهدا بتوفير الألبان إلى هذه المنطقة، فقد كان الحليب والزبد يباع في المقاهي، وكان لديه حظائر أبقار لهذه الغاية، ولكن حبه للرياضة وتشجيعه للشباب دفعه لأن يفتح هذا المحل كمقهى يلتقي فيه لاعبو نادي الشباب الرياضي حينها الذي كان والدي عضوا فيه وداعماً لشبابه، ورويدا رويدا تخلى الوالد عن حظائر أبقاره لصالح الشباب والرياضة، لدرجة أن المقهى عرف بمقهى الشباب الرياضي، وأغلب النقاشات التي كانت تدور فيه كانت عن الرياضة ونادي الشباب الرياضي. كان مفتوحاً على مدار الـ24 ساعة، يقدم لزبائنه الشاي والخمير، وبعد حرب 94م أصبحنا نغلقه عند 

منتصف الليل تجنباً للمضايقات».
وأضاف نصر: «كنت صغيراً في فترة النضال الوطني، ولكن من خلال الشخصيات السياسية والأدبية التي ترددت عليه لا بد أن قضايا الأدب والسياسة كانت ضمن ما يدور بداخله من نقاشات، وأذكر من رواده الفنانين محمد مرشد ناجي والمرحوم محمد عبده زيدي والأستاذ الكبير عمر الجاوي (رحمه الله)، والأستاذ سعيد عولقي، والأستاذ عبدالرزاق باذيب، والرئيس علي ناصر محمد كان يأتي إلى هنا أيام أن كان وزيراً للتربية والتعليم، لملاحقة الطلبة الفارين من مدارسهم، ولكن كما قلت لك كان المقهى رياضيا بدرجة رئيسة.. كان هنا العديد من المقاهي بعضها أغلق مثل مقهاية الحاجة، وهذا كان لامرأة، مقهاية الأغبري، مقهاية فارع، ومقهى زكو أصبح مطعما. أما أشهر المقاهي التي بقيت فهي مقهى سكران، مقهى سيلان، مقهى عبدان. كنت صغيراً كما قلت لك، ولكن هذا «الحاسر» أحد رواد القهوة من رياضيي تلك الفترة، وبإمكانه أن يحدثك»..

«كشر» قبلة الشباب الرياضي
«الحاسر» تعني المرهق أو المتعب، لكنه أقبل عليّ نشيطا على عكس لقبه، وانطلق سريعاً يسرد علي: «اسمي محمد درويش عياش الملقب بـ«الحاسر»، أحد لاعبي نادي الشباب الرياضي في عدن، وكابتن سابق في النادي الأهلي في الحديدة.. كشر «قبلة الرياضيين» هذه القهوة كانت أمنا، وصاحبها السيد هاشم (رحمه الله) أبو الشباب والرياضة، كان عضواً في النادي، وفتح هذه القهوة لتكون قبلة الشباب الذين صرف عليهم ثمن حظائر البقر التي كان يملكها ولم يبق لنفسه شيئاً غير حبنا له وذكراه التي لا تنسى، كان أحد مناضلي الجبهة القومية وراعي الشباب، وهنا كنا نجلس نناقش هموم الرياضة، ونسمع من «صوت العرب» خطب حبيبي جمال عبدالناصر»..
خرجت من الميدان مودعاً نصر هاشم، فلم يكن في الميدان من مقهى آخر، فمقهى زكو أصبح مطعماً، ومقهى الحاجة انتقل وأصبح مقهى أمين كما قيل لي، ومقهى عبدان ليس بشهرة تلك المقاهي في حارة الشيخ عبدالله: سيلان وسكران.
 
مقاهي عدن رياضية
في مقهى سيلان استقبلني صاحب المقهى محمد سيلان الذي حدثني عن المقهى قائلاً: «تأسس المقهى عام 1968م، ولايزال على عادته يقدم الشاي العدني، وإن كان الزحام لم يعد كسابق عهده. كان الرواد قديماً أكثر من الآن، انشغلوا في لقمة العيش، ولم يبق لديهم وقت يجلسون فيه على المقاهي. أما عن دور المقاهي في الحركة الفكرية والسياسية فكما ترى أنا صغير السن، ما أعرفه أن شخصيات شهيرة كانت ترتاد هذا المقهى مثل محسن وهيثم وسالم صالح محمد وسالمين وعبدالكريم الضالعي، أول رئيس نقابة عمال بعد الثورة. الموضوع الأكثر تداولاً في المقاهي، على حد معرفتي، هو الرياضة، وأستطيع أن أقول لك إن مقاهي عدن مقاهٍ رياضية».
دعاني محمد بلطف إلى تناول الشاي، فاعتذرت إليه لأني كنت على موعد مع صاحب أعرق مقهى في كريتر «مقهى سكران» نسبة إلى صاحبه علي عبدان محمد سكران الذي عاصر الحركة الوطنية مقاتلاً في صفوف القوات المسلحة، وسياسياً في جبهة التحرير التي يشغل الآن منصب الأمين العام لها.

الموالد والسيرة النبوية في ليالي المقاهي الرمضانية
وصلت مقهاية سكران، كانت القهوة لاتزال على حالها، تدرك منها أنها مقهى عدني قديم رغم أن المقاعد بلاستيكية، لكنها على الرصيف وفي الشارع، والطاولات البسيطة ما بين الكراسي والرواد أكثر، بداية اعتذرت له عن تأخري على موعدي، ثم دخلت خلفه إلى مكتب ولده المحامي قبالة المقهى، بداية قال لي: «مقهى سكران أسسه جدي محمد عبدالله سكران، عام 1910م، في مبنى محمد الفقيه، ثم نقله والدي عام 1944م إلى جوار مسجد الأهدل في شارع الزعفران، ثم نقلته أنا إلى هنا في مطلع السبعينيات، وهو أقدم مقهى في عدن موجود حتى الآن. كان هناك مقاهٍ عديدة، لكنها لم تعد موجودة، وجاءت أخرى بعد هذا المقهى، ولكنها ذهبت أيضاً، ولم يبق من المقاهي القديمة في كريتر غيرها، ومقهى كشر وسيلان وعبدان في الشيخ عثمان، مقهاية القميري ومقهاية الجرك ومقهاية حجازي ومقهاية محمدو ومقهاية الدبعي ومقهاية عبدالجبار في التواهي، وانتهت أيضاً مقاهي الحرفيين مثل مقاهي الجمالة (أصحاب الجمال) في السائلة، مقهى بياعي الغنم في الطويلة انتهت أيضاً بانتهاء أصحاب هذه المهن. كانت المقاهي تقدم للناس القهوة المرة مع التمر والبن المحروق والبن المطري والبن الوادعي والقهوة «المزغولة» أي المحلاة بالسكر وحليب البقر، ثم تراجعت القهوة وحل محلها الشاي، ولم يبق في عدن مقهى يقدم القهوة غير مقهى واحد أمام مسجد الأهدل في كريتر، بعض المقاهي الآن مع الشاي تقدم الخبز والفاصوليا لزبائنها».
وأضاف: «كما كانت المقاهي ملتقى الأصدقاء، كانت ملتقى أصحاب المهنة الواحدة من مختلف شرائح المجتمع، جلس عليها ساسة وأدباء وفنانون وكبار تجار، وأذكر منهم على سبيل المثال محمد عبدالقادر مكاوي وحسن جاوي ومحمد علي شماخ وعلي محمد حاجب ومحمد فضل القمندان ومغلس وعبدالله صالح عنتري والحاج علي أبو بكر ومحمد عبدالرحمن مكاوي، كثيرون كانت تجمعهم على المقاهي منتديات أدب وفن وفكر، وبالنسبة للسياسة خلال مرحلة الكفاح المسلح ضد الاستعمار والإمامة وما تلاها أولاً أحب أن أقول لك كل فصائل العمل الوطني انبثقت من نادي الأدب العربي الذي أسسه عبدالله المحضار والسيد علوي الجفري وسالم باسويد، سنة 1947م، وانضم إليه الشيخ الحبشي، سنة 1950م، فمن هذا النادي انبثقت الجبهة الوطنية وحزب الشعب العربي الاشتراكي، سنة 1952م، وحزب البعث سنة 1954م، وحركة النقابات الـ6، ورابطة أبناء الجنوب سنة 56م، وحركة القوميين العرب سنة 57م، وكذلك حزب الشبيبة بقيادة عبدالله باذيب، ومنظمة علي السلفي، وكلاهما يساريان، بالنسبة إليّ توجهت مع مجموعة من الزملاء بعد ثورة سبتمبر 62م إلى تعز، ومنها إلى صنعاء، حيث التحقت بالفرقة 13 صاعقة بقيادة عبدالرقيب عبدالوهاب، ولكننا عدنا بعد انفجار ثورة الجنوب في 64م، فالتحقت بالجبهة القومية، وبعد الدمج القسري في جبلة بين منظمة التحرير والجبهة القومية، والخلاف بين الحركيين والتقدميين الذي أدى إلى تشكيل جبهة التحرير، في 13 يناير سنة 66م، وقد انضممت إليها».
واختتم حديثه: «كانت النوادي هي مكان الاجتماعات السرية للقوى الوطنية، ومنذ عام 74م بدأت تطغى الرياضة على المقاهي، وأصبحت أغلبها مقاهي رياضية.. ولكن هذا لم يلغ الجوانب الأخرى في المقاهي، قديما في رمضان خاصة كانت تقام الموالد النبوية، وتتلى على الناس السيرة النبوية من كتاب الهجرة المخطوط، وبعدها القصص الشعبية مثل فتوح الشام وأبو زيد الهلالي والزير سالم.. وكان المداحون يتواجدون بجوار المقاهي، لم يبق شيء من هذا الآن، مقاهي الإنترنت لم تؤثر على المقاهي الشعبية، فتلك نوع، وهذه نوع، ولكل زبائنها».
كان الحديث ذا شجون، ولكن الوقت أسرع من أن ينتظر رغباتنا، فتركته مكتفيا بسرده لي تاريخ الحركة الوطنية ودوره فيها دليلا على الدور السياسي الذي لعبه المقهى العدني الذي لا يقل عن مثيله في تونس أو القاهرة أو دمشق أو بيروت.

خاتمة
يقول الدكتور سالم البيض في بحث له: لا شك أن المقهى بالرغم من انتمائه إلى الفضاءات المخصصة لأوقات الفراغ وللمعاملات غير الرسمية والشكلية، فإنه استطاع أن يلعب أدوارا كبرى وخطيرة في أحداث سياسية ونقابية، وفي الترويج للأفكار والأيديولوجيات والآداب والفنون، وفي عقد الصفقات الهامة، وفي ارتباطه بأحداث وشخصيات على درجة كبرى من الأهمية في تاريخ البشرية (مقهى جلس فيه ماركس أو سارتر). وقد بات يشكل موضوع إبداعات أدبية وفنية سينمائية ومسرحية، وهو في واقع الأمر نتاج لحراك اجتماعي وتاريخي عاشته البشرية في إطار إجابتها على الأسئلة، والتي كثيرا ما ترتبط بالحاجات البشرية المادية والمعنوية المتجددة، وهو يعيش التحولات التي يعيشها المجتمع بأكمله، ويتأثّر بها، ويؤثر فيها بشكل أو بآخر.