الثمن الباهظ لارتداد الولايات المتحدة من (امبراطورية) إلى (دولة عظمى)
الســـــوبرمــــان والــقــنــفــذ


أعلنت الإدارة الأمريكية، الأسبوع الفائت، رسمياً، وعلى لسان خارجيتها، عن انهيار التفاهمات الثنائية بينها وبين روسيا حول سوريا، وبررت ذلك بعدم جدية (موسكو) في الضغط على (دمشق) لوقف غاراتها على مسلحي عصابات ما تسمى (المعارضة في حلب)، والسماح بدخول قوافل (المساعدات الإنسانية دون تفتيش).. التفاهمات الأمريكية الروسية التي عتمت (واشنطن) على مضمونها عمداً، لم تنشأ بالأساس إلا كحصيلة اضطرارية لعجز الولايات المتحدة عن كبح جماح الانهيارات العسكرية لعصاباتها على الأرض السورية، وتحديداً حلب.
كان الجيش العربي السوري قد ضرب طوق حصار عسكري على المدينة الثانية من حيث أهميتها بعد دمشق. باتت العصابات، إثر ذلك، أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الخروج بأسلحتها إلى (إدلب) شمال غرب، أو تسليم أسلحتها والانضواء تحت سقف المصالحة والعفو العام، وفي الحالين فإن عليها تمكين أهالي المدينة من الخروج عبر منافذ آمنة حددها الجيش العربي السوري.
(إن الذي سقط في حلب هو وهم امبراطورية).. حقيقة أوجزتها عبارة السيد حسن نصر الله، وتشير إلى مبلغ ألم رؤوس الحرب الكونية على سوريا بقيادة أمريكا، الناجم عن عودة (حلب) إلى حضن الدولة السورية، الأمر الذي جعل واشنطن تلهث خلف موسكو طمعاً في تطويق نتائج هذا التحول الميداني النوعي، وضمان الإمساك ولو بخيط دبلوماسي رفيع يتيح لها الإسهام في صياغة المشهد السوري المستقبلي الذي يوشك أن يغدو مشهداً سورياً داخلياً وطنياً محضاً لا ثقل لخلطة المعارضات التركية السعودية القطرية الأمريكية فيه، بعد احتضار عصاباتها المسلحة على الأرض، وكحصيلة للهاث الأمريكي كانت التفاهمات التي أعلنت (واشنطن) مؤخراً انهيارها.
لكن ما البديل الأمريكي عن هذا المسار الدبلوماسي الرفيع الذي انقطع وفق تأكيدها؟!
بالنسبة للثنائي السعودي الصهيوني المأزوم، والذي يشعر باليتم والخذلان لانحسار قدرة الولايات المتحدة كالسابق على لعب دور السوبرمان العابر للحدود وغير العابئ بالمحاذير والتبعات في فضاء مغامرات كونية أحادي القطب، فإن هذا الثنائي رأى أن انهيار التنسيق الأمريكي الروسي حول سوريا، يعني أن مسوغات دخول واشنطن عسكرياً على خط الأزمة، نضجت.
تأسيساً على هذا العشم، سارعت وسائل إعلام العدوان السعودي الأمريكي، إلى قرع طبول الحرب بشدة كخيار بديل، ووجدت مؤشراً لأزوف موعدها في تسريب صوتي مسجل لـ(كيري) يقول فيه خلال لقائه بـ20 ممثلاً لفصائل (المعارضة السورية)، إن معظم الدول لا تؤيد دعم تدخل عسكري في سوريا.
مراقبون رأوا ـ من زاوية مقابلة ـ أن هذا التسريب المتعمد هروب أمريكي من حقيقة عجز واشنطن عن خوض مواجهة عسكرية مباشرة مع ـ ليس روسيا فحسب ـ بل محور روسي سوري إيراني لا يبدو أن الصين بمنأى عن المصلحة في الانحياز لصفه؛ وعليه فإن بديل (واشنطن) عن التفاهمات مع (موسكو) هو التفاهمات مع (موسكو) ليس إلاَّ!
طين الولايات المتحدة في (الشرق الأوسط) يزداد بلَّة، بطبيعة الحال، فبينما يحكم الجيش العربي السوري قبضته على حلب، ويتقدم في الغوطة الشرقية ودير الزور، ويتأهب الحشد الشعبي العراقي لتحرير الموصل بعد تحرير القيارة والشرقاط، تتلقى بحرية العدوان السعودي الأمريكي صفعة قاسية في مياه باب المندب، بتدمير السفينة الحربية الإماراتية (سويف) على أيدي رجال القوة الصاروخية في البحرية اليمنية، علاوة على توغلات نوعية للجيش واللجان في عمق مملكة بني سعود.
ما هي النقطة الأسخن التي يتوجب على الولايات المتحدة توجيه ثقل اهتمامها صوبها بهدف حسمها إيجاباً لجهة إخماد نار متغيرات تجتاح هشيم سطوتها في الشرق الأوسط، بوتيرة متسارعة؟!
باتت جميع النقاط على درجة واحدة من السخونة، وتهب لفحاتها بذات القدر من السلبية لجهة ما يتحتم على أمريكا فعله لاستنقاذ ماء وجه هيبتها في حظيرتها الشرق أوسطية التي كانت، وأمام استغاثات أدواتها وتوسلاتهم نجدتها من غرق وشيك!
غير أن أمريكا ـ في خضم عجزها عن الفعل ـ لا تعدم الحيلة. إنها ـ خلافاً لاعتقاد البعض ـ تعيد التموضع كدولة عظمى إزاء حقيقة انحسارها كامبراطورية، ولا صحة للمذهب القائل بأنها لا تزال تتصرف كامبراطورية، أو أنها يمكن أن تجازف لتبقى كذلك، حتى وإن كان الثمن حرباً عالمية ثالثة..
تفعل أمريكا اليوم ما يكفل لها مستقبلاً يداً طولى كدولة عظمى فحسب، لذا فإنها لا تنطلق من قاعدة الطمع في المزيد من المكاسب، وإنما من مبدأ تقليص الخسائر إلى الحد الممكن بوصف ذلك مكسباً، في ذاته.
بموجب استراتيجيتها تلك، عشمت أكراد سوريا بـ(دولة مستقلة) على حساب وحدة كيان حليفها التركي، فألجأته إلى الحضن الروسي، ومالأت توصيف (موسكو) لنخبة العصابات الأمريكية المسلحة في خانة (الإرهاب) والاستهداف.
وفي العراق رضخت لجهد إيراني في الظل أفضى للتقريب بين بغداد وأربيل، وتملقت المأزق الإسرائيلي بصفقة سلاح لا تعفيه من ارتدادات وقوع الحدود السورية في قبضة المقاومة العربية والإسلامية الحليفة لدمشق، وانتصار الدولة والقائد على مخطط الإطاحة بسوريا نظاماً وعقيدة.
أما في اليمن فإن واشنطن تلجأ لإعادة هيكلة مملكة بني سعود تمهيداً لتلافي زوالها الكلي بفعل إخفاقاتها الوظيفية الكبرى عسكرياً وسياسياً في اليمن، وسوريا.
وفق نظرية (الأنظمة المعدلة ثورياً)، تعيد واشنطن إنتاج هيكل السلطة في المملكة، بصورة تستدرج معها الاحتقانات الشعبية في نجد والحجاز إلى أفق من التكيُّف، دون الحاجة لأن تنفجر على هيئة ثورة في البناء التحتي تطيح بالبناء الفوقي بعيداً عن الهيمنة الأمريكية.
تبعاً لذلك، شرعت الرياض في سياسة التقشف والخصخصة وفرض رسوم على خدمات كانت شبه مجانية، وهي مصفوفة إجراءات يتبناها (محمد سلمان) نظير دعم أمريكي وأممي قد لا يضعه في المستقبل القريب على عرش أبيه، لكنه سيضع معظم صلاحيات الحكم في يده، باستحداث منصب جديد في هيكل السلطة، يحوز عبره على رئاسة الوزراء كـ(حاكم)، في موازاة محمد نائف كـ(ملك منزوع الصلاحيات)، في كنف نظام دستوري اتحادي.
جعبة مصفوفة الهيكلة في السعودية ستسفر تباعاً عن المزيد من السياسات التي لم يكن في حسبان أحد أن تلجأ إليها مملكة الوهابية، فيما لو استبعدنا إرادة مديرها التنفيذي الأمريكي كصانع قرارات فعلي في سدة كيان بني سعود الوظيفي.
إن إعادة تكييف الأدوات الأمريكية في الشرق الأوسط، لاستيعاب المتغيرات غير المرغوب فيها، هو سبيل أمريكا الامبريالية الوحيد كما يبدو، لضمان كبح انحسارها عند نقطة (دولة عظمى متصدرة)، كناتج لفشلها في إعادة إنتاج دول الممانعة ككيانات وظيفية مدجنة لها، عبر ذريعة (الربيع العربي ومكافحة الإرهاب).
هكذا تعتقد (واشنطن) أنه سيكون بمقدورها تقنين الاجتياح الصيني الإيراني الهندي الروسي الحاد لمجال المصالح الحيوية الأمريكية الحصري، في الشرق الأوسط، ليغدو ولوجاً سلساً بفلتر الشروط الأمريكية المتسامحة وغير الحادة إزاء الآخر الخصم الذي لا حيلة لـ(واشنطن) سوى القبول به والإقرار بواقع حاجتها القسرية إليه على مستوى مقارباتها لكل ملفات المنطقة، بمنأى عن تصعير الخد لحقيقة قوته وتأثيره.
لم تصل الخسارة الأمريكية إلى الحد الذي تلجأ معه إلى انتهاج (سياسة هدم المعبد) و(خيار شمشون)، فتشعل حرباً كونية ثالثة، كما تأمل منظومة أدواتها، إذ يكفي أن يتحول السوبرمان إلى (قنفذ)، فيما ستدفع منظومة الأدوات ثمن هذا التحول باهظاً على مختلف الأصعدة.