الجامع الكبير بصنعاء..
- تم النشر بواسطة بشرى الغيلي/ لا ميديا
جدرانه ارتفعت بحجارة قصر (غمدان)
صفقة بسكويت فاخر تبتلع بعض أنفس مخطوطاته
الجامع الكبير بصنعاء..
(الحــاج علــي الإنجليــزي) يتســلل تحــت قنــاع الإســلام إلــى خزانــة نفائــس الجامــع الكبيــر
في كل أوقات الذكر والصلوات تصدح مآذنه، وحلقاته التي تخرّج منها أساطين الدين وجهابذته، وعلماؤه الأجلاء... وفي شهر الخير تتضاعف هذه الخصوصية التي قل أن تجدها في جامعٍ سواه.. الجامع الكبير تحفة معمارية فريدة تتوسط صنعاء القديمة، مرت بعصورٍ عريقة، واختلفت الروايات حول بنائه، فهناك من يرجح أنه ثاني جامع شُيّد بعد مسجد رسول الله صلوات ربي عليه، والبعض الآخر يقول إنه ثالث جامع، وأياً كانت الروايات أكثرها صحة، يكفي أنه أول مسجد بُني في الجزيرة العربية بأمرٍ من خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وأنه كان ولا يزال مصدر إشعاعٍ للعلوم الدينية وحفظ القرآن الكريم.. عن حقيقة بنائه، وتأسيسه، ومخطوطاته النادرة، والحكايات الغريبة التي تناقلها سكان الحي عن الرجل الإنجليزي الذي كان يُغريهم ببسكويته الفاخر مقابل (السطو) على مخطوطاتهم النادرة، دون وعيٍ بخطورة ما يفعلون.. اقتربت (لا) من ذلك، وخرجت بالسياق التالي..
بدايةُ التأسيس..
يذكر أن الجامع الكبير أهم وأشهر الجوامع في اليمن، واتفق مؤرخون على أنه بني في حياة النبي محمد (خاتم المرسلين) في السنة السادسة أو السابعة للهجرة (627 أو 628 ميلادية)، وبذلك يكون أول جامع في اليمن، وثالث مسجد أقيم في الإسلام، بعد مسجد قباء والمسجد النبوي في المدينة المنورة.
وبني الجامع الكبير، على أنقاض قصر غمدان، ويذكر المؤرخون المعماريون أيضاً أن تكوينه المعماري بأبعاده الحالية، يماثل التعديلات التي أدخلت عليه في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (86–96 للهجرة) الموافق (705–715 ميلادية).
وقام ببناء الجامع، الصحابي (وبر بن يحنس الخزاعي)، في السنة السادسة، وقيل السابعة للهجرة، بعد إسلام (باذان) الحاكم الفارسي في اليمن، حسب المراجع التاريخية، فالجامع بني من أنقاض قصر غمدان، ولا تزال هناك بقايا أحجار من القصر، التي بني بها المسجد، أما الأحجار الكبيرة التي بنيت بها الأعمدة فقد أتوا بها من (ناعط) (قرية تتبع جغرافياً محافظة عمران شمال صنعاء)، وبني الجزء الخلفي من الجامع فقط في السابق، ثم جرى توسيعه على مراحل عديدة، وتمت إضافة الجناح الشرقي، وبنيت أولاً المئذنة الشرقية ثم الغربية.
وللجامع الكبير مئذنتان، يعود تاريخهما إلى عصر الأيوبيين، الذين حكموا أجزاء من اليمن في القرن السابع الهجري، ويقع في فناء الجامع مبنى مكعب مقبب، بني ليكون مستودعاً لمخطوطات القرآن الكريم، وتبرع به الوالي العثماني سنان باشا، عام 1016 للهجرة (1607 ميلادية)، ويسمى أيضاً (قبة الزيت)، وكانت تستخدم في حفظ مخطوطات القرآن الكريم عبر نافذة في الدور العلوي، أما الدور الأرضي فكان يستخدم لحفظ الزيوت التي يستخدمونها في إنارة الجامع.
ويشتهر الجامع الكبير بمكتبته الكبيرة التي تضم أمهات الكتب في الفقه والدين، والمخطوطات القديمة والكتب النفيسة والخط العربي، ولعل أشهر تلك المخطوطات هي مخطوطة للقرآن الكريم بخط الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
التكوين المعماري للجامع
ومن حيث تكوينه المعماري بأبعاده الحالية ينطبق تقريباً على شكل الجامع الذي كان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أمر بإنشائه، والروايات لا تذكر ما إذا كانت لهذا الجامع مئذنة آنذاك، علماً أن بقايا معمارية لازالت موجودة بالمئذنة الشرقية، أما (بن رسته) فقد ذكر مئذنة للجامع في القرن الرابع للهجرة النبوية الشريفة.
ومن التغييرات المهمة إنشاء الرواق الشرقي عام 265هـ/878م، في عهد محمد بن يعفر. والرواق ذو سقف خشبي مصندق فخم، ثم إعادة تشكيل حائط القبلة بثلاث بوابات عام 553هـ/1159م. ويمكن التدليل على إجراء أعمال ترميم لاحقة بالسقوف، منها مثلاً: حزام كتابي بأسماء الأئمة موجود بحائط القبلة، حيث يذكر أن الملكة الصليحية سيدة بنت أحمد من قامت بعمله.
ومن المرجح أن القباب الفانوسية الثلاث الموجودة أمام المحراب، راجعة إلى ذلك العصر أيضاً. أما المحراب الداخلي فهو عائد إلى عام 665هـ/1267م. وتشير الدلالات إلى أن حيطانه الخارجية بنيت من حجر (الطفة)، تشكل خمسة أروقة ذات حيطانٍ مزودة بالممرات، وتشكل ثلاثة صحون الرواقين الشرقي والغربي، والرواق الجنوبي، وتوازي كافة الصحون الحيطان الخارجية، باستثناء الرواق الشرقي الذي يمتد من حائط القبلة إلى الحائط الجنوبي.
وأشارت المراجع إلى أنه في عصر الإمام يحيى عام 1355هـ/1936م، بنيت مكتبة الجامع، وذلك بتوسيع الرواق الجنوبي جهة الشمال. فيما ذكرت الموسوعة اليمنية الجزء الثاني، أن تأسيس المكتبة تم عام 1925م، كأول مكتبة عامة تظهر في اليمن، وهي تحوي الكثير من المخطوطات الإسلامية، وهي في الواقع مكتبتان: الشرقية والغربية، وتمت فهرسة معظم محتوياتهما، وإلى جانب ذلك، أنشئت دار حديثة للمخطوطات تُعنى بصيانة المخطوطات والرقوق، وتقديم خدمات القراءة والتصوير.
الرقوق القرآنية
ويضم الجامع رقوقاً قرآنية نفيسة، حيث ذكر القاضي إسماعيل الأكوع أن الجامع الكبير بصنعاء لا يحتوي على المخطوطات فقط، بل إن مكتبة الجامع الكبير تضم العديد من نفائس المخطوطات والمؤلفات، منها مصحفان فريدان: كتبا بالخط الكوفي، ومصاحف أخرى كتبت بخطوطٍ متعددة ترجع إلى فترات زمنية مختلفة، وذات أحجام متنوعة، فيما تم العثور على مجموعةٍ من نفائس المخطوطات والرقوق القرآنية، حوالي 4500 مخطوطة، كتبت بالخط الكوفي والحجازي وغيرهما من الخطوط غير المنقوطة، تعد بعضها من أقدم النصوص القرآنية الموجودة، وتم اكتشافها مع عدد من المخطوطات التاريخية في الجامع الكبير بصنعاء، عام 1927م، وتعود للعصور الأولى للإسلام، ويُعتقد أن بعضها كتبت بخط علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه.
وعثرت أعمال حفر في الجامع الكبير في السبعينيات من القرن العشرين، على عدد كبير من المخطوطات القرآنية، يعود تاريخها إلى القرن الأول من الهجرة.
وفي فترةٍ من الفترات، ألحقت أمطار غزيرة هطلت في صنعاء عام 1385هـ/ 1965م، أضراراً بالغة في سقف المسجد في الزاوية الشمالية الغربية. وخلال أعمال الاستطلاع اكتشفت خزانة كبيرة تحتوي على آلاف المخطوطات القرآنية والتاريخية.
حكاية الرجل الأجنبي وبسكويته الفاخر..!
وأثناء إعداد هذه المادة التقت صحيفة (لا) بأحد المهتمين بالجانب التوثيقي والتاريخي، حيث حكى عن قصة الرجل الأجنبي بأن سكان حي الجامع الكبير بصنعاء، وتحديداً في بداية القرن التاسع عشر للميلاد تقريباً، تداولوا واقعة كانت تحدث في أحد الأسواق القريبة، والذي يطلق عليه حالياً (سوق الملح)، مفادها: أن أحد التجار الأجانب كان له متجر صغير يبيع فيه بعض البسكويت الفاخر، الذي كان يجلبه معه من موطنه، ولم يكن مألوفاً لدى سكان حي الجامع الكبير بصنعاء حينذاك، فكان يغريهم بقطع البسكويت الفاخر مقابل ما يمتلكون من مخطوطاتٍ نادرة تحويها مكتباتهم الخاصة، دون وعيٍ منهم بخطورة ما يقومون به. وأضاف الباحث أن هذه الحكاية وثّقت في صدور كبار السن، وأن هناك مرجعاً ذكر أنه وثّق الحادثة، لكنه لم يذكر تفاصيل أكثر عن ذلك.
فأياً كان، فذلك يدل على أن مخطوطاتنا، ورقوقنا القرآنية، خاصة التي تم اكتشافها في الجامع الكبير، تعرضت لسطوٍ مباشر وغير مباشر على غفلةٍ من الزمن.
ويظلُّ الجامع الكبير بصنعاء تحفة الزمان، والمكان، شاهداً على مراحل تاريخية عريقة منذ شيّد حتى عصرنا الحاضر.
المصدر بشرى الغيلي/ لا ميديا