التقيت بالمنشد الكبير عبدالرحمن العمري في صنعاء القديمة. تصافحنا بمودة ومحبة، ومن جانبي بشوق يكاد يقارب التقديس.
امتناني لدنياي التي أتاحت لي أن أستريح في ظله الوارف ساعتين ونصف الساعة تقريباً.
صوته يوحي بجماليات الحياة، ويتوافق مع مستوى تطوير اللحن، كما يمتلك موهبة لافتة في كتابة القصيدة، وإحساساً خاصاً في التوغل في باطن التراث اليمني. فعندما استمعت إلى بعض من قصائده، تأملت لغتها وكثافتها وإنسانيتها، وأحسست بأنه الشاعر الذي يكتب روحي، وقد بدأت أتابع أعماله بشغف لا ينضب.
إنه شخصية فنية له نتاج فني خاص به يحمل لونه، ويميزه عن بقية المنشدين.
بدأ في الإنشاد منذ الصغر، وكانت بداية لاختبار قدرته وإمكانيات صوته الفذ، فأعماله سواء في الإنشاد أو الموشحات أو غيرها، ترتقي إلى مستوى أعمال كبار الفنانين والمنشدين، وهذا هو سر إعجاب الكثيرين به سواء داخل اليمن أو خارجه، وأن كل المقامات العربية لا تستطيع أن تتحدى حنجرته .. فإلى الحوار:
 منذ الصغر وأنت في مجال الإنشاد والموشحات.. إلى ماذا توصلت؟
السؤال كبير، وقد توصلت إلى شبكة علاقات في شتى المعارف، فالإنشاد ينقلك إلى التراث العربي الإسلامي، القديم منه والحديث، سواء كانت قصائد أو مدائح، حيث تنتقل إلى الأدب، ومنه إلى الفلسفة، وبالتالي تصبح لك علاقة وطيدة بشتى الثقافات والمعارف. وهذه هي نتيجة ما توصلت إليه.

 هل تجيد العزف على آلة العود أو على بعض الآلات الموسيقية؟
نوعاً ما.

 لكن قصيدة (الله ما يحويه هذا المقام) أنشدتها مع عزف العود؟
كان الأستاذ الفنان يحيى العرومة هو من عزفها. حينها كنا في منزل الأخ نزار غانم، وكان هناك أحد المهتمين بالتراث اليمني، وكان من نيوزيلاندا، وهو الذي تولى التسجيل.

 ما هي المقامات التي تتحدى حنجرة المنشد عبدالرحمن العمري؟
هي المقامات العربية التي تكون امتحاناً عسيراً للصوت، مثل مقام السيكا.

  لكن السيكا والصبا من أصعب المقامات بالنسبة للعازفين..
نعم، للعازفين والمغنين على حد سواء، والتحدي متبادل في الإبداع داخل هذا المقام.
 أنت منشد مشهور داخل اليمن وخارجه.. هل تشعر بالغرور؟
لا.

 إذا أبحرنا في أعماق المنشد عبدالرحمن العمري، ماذا سنجد؟
ستجدون طموحات، آمالاً، انكسارات، فضاءات، وأيضاً فجوات.

  كان لك دور في رفد الثقافة والأنشودة الدينية والموشحات، لماذا لا تقترب من الأنشودة الوطنية؟
لأنه لم يتح لي أن أخوض في مجال الأنشودة الوطنية.

 من خلال مشاركتك في أوبريت (لبيك يا وطني)، لفتَّ انتباه الكثير من المراقبين الفنيين من خلال أدائك المتميز.. ما تعليقك؟
أنا سعيد جداً أنني وفقت، وقد كان حشد الأوبريت جيداً، والنية صادقة، والأخ أحمد شذان كان يبذل جهده ليتم إخراجه في أحسن صورة، ولا بد من قصور في أي عمل سواء كان في الإخراج أو في صلب العمل، لكن العمل برمته يحسب له.

 ما هو الشيء الذي تمنيته ولم يتحقق؟
أن أكون أديباً كبيراً، وهذا يرجع إلى التقصير الذاتي مني في الجهود التي أبذلها، كنت أتمنى أن يكون الإنشاد والفن قنطرة أصل بها إلى هذا الهدف، ولكن مع مرور الأيام والسنين أصبح عندي عزوف نوعاً ما.
  هل لك مشاركات خارجية؟
نعم، شاركت في مصر، وشاركت في إيطاليا، وفي المهرجان اليمني في بريطانيا سنة 98م، عندما كان الدكتور حسين العمري سفيراً في لندن، وكان في المهرجان الفنان محمد حمود الحارثي، والشاعر عبدالله البردوني من ضمن المدعوين، وكنت أقرأ قصائده نيابة عنه، لأنه كان مريضاً في الأردن.

 كيف كانت علاقتك بالشاعر الكبير عبدالله البردوني؟
البردوني كان صديقاً خاصاً لي منذ أن عرفته إلى أن توفي، وكان الفضل يعود للشاعر إبراهيم الحضراني الذي لا أنسى معرفتي الطويلة وعلاقتي العميقة به من عام 1990 إلى وفاته، وهو الذي أطلعني على العوالم السحرية للأدب، سواء في الشعر أو في الفكر.

 الكثير من المنشدين والفنانين متهمون بعدم الاهتمام بالتراث وبالأنشودة الوطنية، برأيك لماذا؟
التقصير متبادل من المجتمع ومن الفنانين ومن المنشدين، وأعتقد الآن أن هنالك بعثاً نوعاً ما وعودة إلى الجذور والأصول وإلى التراث، لأن شخصية المؤدي أو المنشد أو الفنان لا تكون شخصية ذات معنى إذا لم تستوعب الموروث في أي مكان وفي أي زمان، وفي شتى أنواع الفنون والمعارف، انظر مثلاً إلى نجيب محفوظ عندما غاص في أعماق حارته وبيئته، كيف وصل إلى جائزة نوبل، وكذلك الفنان في أي مجتمع لا يكون صوتاً مؤثراً إلا إذا استوعب القديم.

 نلاحظ الفنانين في الخليج منذ نشأتهم يصعدون عبر مسيرتهم الفنية بالسطو على تراثنا وألحاننا، والجهات المسؤولة في بلادنا تتغاضى عن ذلك.. أين يكمن الخلل؟
نحن متهمون بالتقصير، وهم لا يلامون في أي شيء عندما يصدرون بعض الألبومات أو بعض الأغاني اليمنية، أو عندما يسطون على ألحاننا وينسبونها بأنها تراث خليجي، هناك جهات رسمية يمكنها أن تتابع، ويمكنها أن تحتج، ويمكنها أن تقول مثل اسم صحيفتكم (لا).. وكما يقول المثل الشعبي: (المال السائب يعلم السرقة).

 لماذا لم تقترب من الأغنية العاطفية؟
اقتربت من الأغنية العاطفية سواء كانت يمنية أو عربية، ولكنها كانت كجانب شخصي لي.

 أنشودة أو أغنية ترددها دائماً؟
(دع ما سوى الله واسأل) أعتقد أنني أعطيتها شيئاً من روحي ومن أسلوبي الخاص.

عمل تعتز به كثيراً؟
(رب بالسبع المثاني) لأنها علامة لا أنساها منذ الصغر إلى الآن.

 هل تكتب القصيدة؟
نعم، ولي بعض المحاولات، منها:
أنت معنى الحروف والكلماتِ
أنت في الشعر رائع الأبياتِ
أنت من أبتغيه في كل قصدٍ
أنت نبع الحياة وسر الحياةِ
أنت نجوى خواطري
أنت مني يا أنا أنت
أنت كلي وذاتي
يا دموعي إذا بكيت
وضحكي وابتسامي
والآه في زفراتي
أنت أنت الزمان
أمسي ويومي وغدي
أنت كل ماضٍ وآتِ
أنت سحر الحديث
في منطقي العذب
وأنت الخشوع في صلواتي
وكذلك مقطوعة أخرى أقول فيها:
لست أدري ما الذي يحل بي
عندما ألقاك يا نور العيونِ
أتحدى بك آلامي وما كنت
ألقى من عذابات السنينِ
وأرى الدنيا بعيني لهفةً
تتجلى في اشتياقي وحنيني
وأحس الكون في راح يدي
فأصيب بأهطال سخيني
لا تقل لي ما أشاء ما أبتغيه
منك لا يدرك بالعقل الزكينِ
إن حبي لك قد جلَّ عن الفهم
والإدراك عن كل الظنونِ
حسبنا منه حقوق في اللقاء
ويحس أن قد صار ديني

 هل كانت لك لقاءات بالفنان أيوب طارش؟
نعم، كانت لي لقاءات عديدة مع الفنان أيوب، وقد نزلت إلى تعز لأزوره، وقد نظمت قصيدة وكتبتها بخط جيد، وأهديتها للفنان أيوب، وأحفظ منها بعض الأبيات:
قد جئت من صنعاء يا أيوبُ
لأراك والأشواق فيك تذوبُ
لأرى محيا أشرقت قسماته
بالنور كشّف أن يحيد غروبُ
أيوب يا لحناً على شفتي الهوى
قد رددته أنفسٌ وقلوبُ
بالله كيف وجدت حالات الهوى
هي عذبةٌ أم الهوى التعذيبُ
ما زلتَ ظمآناً ألمّ يرتوِ القلب
المعذب؟ إنَّ ذا لعجيبُ

 كلمة أخيرة؟
اشكر صحيفة (لا) على هذه الالتفاتة لي ولكل المبدعين في كافة المجالات.


سيرة ذاتية:
ـ عبدالرحمن أحمد العمري
ـ مواليد صنعاء 4/2/1973م
ـ المؤهل الدراسي: إعدادي
ـ درس القرآن على يد الشيخ المرحوم محمد حسين عامر، وكذلك السيد محمد المنصور في العلوم التقليدية في النحو وعلوم وفقه، والمرحوم السيد حمود محمد شرف الدين، وغيرهم من الأعلام في الفقه والعلوم التقليدية.
ـ عاش مع كبار المبدعين في الفكر والأدب والفن في اليمن، كالشاعر إبراهيم الحضراني، والشاعر الراحل عبدالله البردوني، والدكتور عبدالعزيز المقالح، والكثير من فرسان الكلمة.
ـ بدأ الإنشاد عام 1984م.
ـ من أشهر أناشيده (لله ما يحويه هذا المقام) و(رب بالسبع المثاني) و(دع ما سوى الله واسأل).
- شارك في أوبريت (لبيك ياوطني).