في ذكرى رحيل المفكر والناقد الأدبي فؤاد علي عبدالعزيز الزريقي
قبل الأوان كان الرحيل

هل هي صفة ملازمة للمبدعين هذا الرحيل المبكر.. وضريبة يدفعونها ثمن نبوغهم؟ أم هو رفض صامت، واحتجاج مؤدب لهذا الزمن الرديء، واقتناع مسبق بعبثية الحياة؟ لا علم لي يا سيد الكلمات الصادقة، وفارس الحرف المضيء.. سنوات مرت على رحيلك، ومازالت الرؤية غير ممكنة.. وحين هممت بالكتابة عنك في ذكراك، مازلت عتمة قاتلة تجتاح أعماقي، ومرارة ساحقة تخنقني.. ضباب كثيف يقف حاجزاً بيني وبين الأشياء ومسمياتها.. اختلطت الألوان.. طمست ملامح الكلمات.. امتزج الممكن بالمستحيل.. تداخلت المفردات.. صار العدم هو الوجود.. عشوائية تمتص رحيق الحياة، وحرمة الممات.. سخرية الأشياء تمد خيوطها السوداء، تخنق الأجنة في أرحام الأمهات.. تقف الحجارة مخنوقة بالكلمات الدامعة.. تواسي الزهور الميتة في عز الربيع.. يرتعش القلم بين أناملي، يجف مداد القلب.. تنتابني الرجفة المخذولة بالحزن!
يقال تموت الأشجار واقفة، وبموتها يموت كل شيء.. يموت كل شيء.. ذهول مطلق يشل تفكيري، يسيطر على أجزائي.. تستبد بي الأحزان وأنا وحيد كآلهةٍ طاغية.. أكابر على ضعفي... ألملم أحشائي الممزقة.. أضغط على جرحي النازف.. أصرخ بكل صوتي:
هذه دماؤك نفحة شريدة بلا ضفاف.. أردت أن تغني لتكشف حياة من الزيف حقيقة، وتذكر حياة الحقيقة زيفاً.. غادرت وأنت تحمل النقاء والصفاء والود الصادق، حملت حلمك ورحلت.. حملت قلقك ورحلت.. حملت رفضك ورحلت.. وبهدوء كعادتك المستحبة، غافلتنا عند الغروب ورحلت.. والليل موقوف محيط بلا حراك.. ظلام سكن أعماقي وما يزال معتماً لم يتوارَ، داس على جسدي، حطم جمجمتي بين المكان والزمان ما توارى.
والظلمة عباءة مسمومة تلتف على جسدي، وعيوننا تراقب ببلاهة الحفار، تعربد العواصف الثائرة ملء ضلوعي المهشمة كأنما الرعود تهرول في سراديب المساء شامتة، ساخرة تطلق الضحكات المسعورة، والزمن موت الأزمان، نرثيك، بل نرثي زمناً يتيماً لأبناء مقهورين.
أيها العابرون فيَّ.. تعالوا إلي.. تعالوا قليلاً ولا تسلموني إلى قيدكم وتناموا.
ولأننا نحب الحياة، ونحب الأرض، نتعلق بهما أكثر. نغني.. نعشق.. ننجب الأطفال.. وبين الحياة والموت.. وبين الحياة والحياة نمارس رغباتنا وأحلامنا وموتنا المؤجل.. نتغزل.. نكتب الشعر في الوقت الذي نكتب فيه وصيتنا.. لا نأسف.. وإن كنا أكثر حزناً. أكبر الخسارات أن ترى قلبك وهو ينطفئ والوطن بعيد، يلف الزمان والمكان ظلام وحشي، ونعود بمصابيح شاحبة وحزنٍ طيب.
 الحالمة التي بها فتنت 
حزينة عليك 
تبكيك لوعة 
تكاد لا تصدق الأخبار
بأنك ارتحلت  
وأنها لن تقرأ الجديد من سطورك..!
لم يعودنا فؤاد حين يكون معنا.. يكون هناك حزن.. عهدناه باسم الوجه حتى في أحلك اللحظات مرارة.. قوي النبرات، واثقاً بالحياة والمستقبل العادل لكل أبناء هذه التربة الطاهرة.. لم يكن يجاهر بهمومه الذاتية سوى ذلك الهم الوحيد، والحلم الجميل الذي اغتاله في عز ربيعه، ونضجه الفكري، حلمه بألا يكون هناك مريض لا يتمكن من العلاج، وجائع لا يجد ما يملأ أمعاءه من الزاد. كان همه أن يقتل المرض في عقر داره، لكنه استطاع أن يفرغ حقده، وهو غريب وبعيد عن كل حبيب وقريب، يبحث عن العلاج والراحة ولا يجدهما.. كان يتجاهل ذلك المرض، ويعود إلى الكتاب صديق العمر المخلص، يفرغ فيه كل همومه وآلامه.. والقلم يبث منه أحلامه الجميلة وروعتها الإنسانية، لم يكن في حياته أثمن منهما يستند عليهما عند التعب ليواصل مشقة الطريق، ينير دروب الحائرين بالكلمة الصادقة، والحرف المضيء، لم يهدأ لحظة واحدة عن التفكير في ذلك العالم المتجسد أمامه، المليء بالحب الإنساني.. متساوٍ كالمشط لا فرق بين عجمي وعربي إلا بالتقوى والعمل الصالح.
تزامن ميلاد الناقد الأدبي والمسرحي فؤاد علي عبد العزيز، مع بداية الثورات الوطنية، والتحولات الاجتماعية، والمد التحرري في العالم عام 1950م.
في تلك الفترة الحاسمة والمنعطف التاريخي الخالد، لحظة الانعتاق، وألم المخاض، والولادة، والموت، اخترق فؤاد حاجز الظلام ليقف على أرضية بركانية تموج بالتحولات الاجتماعية الجذرية، لترسي قواعد جديدة، وتحقق إنجازات عميقة وعملاقة في كل مناحي الحياة، كان فؤاد عملاقاً وشامخاً بقدر تلك الإنجازات.
وفي ذكرى رحيله، بقدر المستطاع كان الاجتهاد وإعطاء صورة متكاملة عن المفكر الناقد الأدبي والمسرحي فؤاد علي عبد العزيز، بمرجعية مقالات وآراء الدكتور القدير أبو بكر السقاف أطال الله عمره.
الحديث عن الناقد فؤاد علي عبد العزيز، وعن إنتاجه الفكري والأدبي الذي خلفه، هو وحده يبرر هذه السطور التي أكتبها، وهي مزيج من الوفاء والمحبة والتقدير لحياة انطفأت قبل الأوان، ومحاولة سبرها، وتكوين صورة عن جهوده، ومن خلالها يمكن أن نقترب من مكان فؤاد في الصراع الفكري الذي دار تلك الأيام، ودوره فيه، ولنتذكر أن القضايا والإشكاليات التي نالت اهتمامه لاتزال قائمة، وإن خفت الاهتمام بها.
تنتمي لغة فؤاد بمصطلحاتها ولوازمها ونبراتها الى موجة العقد السادس في الثقافة العربية المعاصرة. كان الإيمان بالعقل والتقدم والحرية والوحدة والاشتراكية سائداً، وكانت هذه الكلمات المفاتيح خبز الحياة الثقافية، رغم أن كتابات فؤاد تقع في فترة تبدأ في العقد السابع، إلا أن تلك اللغة واضحة فيها.
إن الملمح الأساسي في المقالات والدراسات يدل على أن صاحبها يمثل الجديد تمثيلاً واعياً، فهو من جيل ارتبط بالجديد ارتباطاً كاملاً، ويمكن القول إنه من الذين أحدثوا قطيعة معرفية بدلالة جدلية لا بنيوية شكلية لهذا المصطلح، وذلك ماثل في دراسته عن الإمام زيد بن علي، وفي غير ذلك من الموضوعات.
كان فؤاد من ممثلي الجديد الملتزمين بالقضية الاجتماعية التي يضعونها داخل روح العصر، والعصرية عنده لم تكن ضرباً من الترف، بل واجباً نضالياً داخل التنظيم الذي اختاره لنفسه يرتبط به ويصعد الى سماء الوطن مع تجاربه وانتصاراته وهزائمه وخيباته.
هذا الاختيار السياسي عند فؤاد يتخذ من الثقافي مجالاً فيصبغ كل محاولاته بإلحاح شديد على التجديد والتحديث، ومن هنا اهتمامه المستمر بالمفهومات المعاصرة في النقد الأدبي والمصطلحات الجديدة وبالمسرح، وأحياناً بالفنون التشكيلية.
ولما كان المسرح جديداً كله على البيئة الثقافية، فإن متابعة فؤاد بدأب، والكتابة عنه تفصح عن هم (تنويري) في هذا المجال، فقد بدا له أن المسرح وسيلة لدخول العصر، وتحريك الخيال الاجتماعي في اتجاه نقد الواقع، لاسيما وفؤاد يفكر ويتحرك داخل الفكر اليساري. إن الفكر اليساري عند فؤاد يستند الى قاعدة فلسفية مكنته منها دراسة الفلسفة في جامعة دمشق، ونجد هذا الفكر عنده متجانساً في مكوناته وموضوعاته، سواء كان في علم الكلام أو تعليقاً على مسرحية أو نقداً لقصيدة.
المزاد النظري فلسفي الأساس من هذه الجهة يتصل بالمنهج، ويجعل صاحبه يذهب إلى الأشياء رأساً دون الإملال على امتداد صفحات في ثرثرة هي صورة الأسلوب القديم. أدرك فؤاد ضرورة الذهاب الى الأشياء رأساً، تشي بذلك عبارة أوردها عن الناقد الأمريكي أرشبالد ماكليش، تتحدث عن العلاقة بين الشاعر والأشياء، والتي تقول إن الشاعر يجلس على محاور الأشياء.
 إن تطبيقات فؤاد النقدية تتميز بالإيجاز واستخدام المصطلح في مكانه دون انسياق وراء النقد الانطباعي أو التحليلي اللغوي البسيط، اللذين يفقدان النقد قيمته الموضوعية باعتباره علماً وليس تمرينات بلاغية، تدور في نهاية المطاف في دائرتي الذم والمدح، فتعفي صاحبها من امتلاك مهارات الناقد وأدواته.
لقد أدرك فؤاد ملمحاً بل قضية أساسية في فكر المعتزلة: أنهم ظلوا داخل علم الكلام، وهو الإطار المناسب لعصرهم وثقافتهم، ولا يتعارض ذلك مع كونهم نخبة، بل يتفق معه قلة من المفكرين أشد الاتفاق، ولذلك لا معنى لنقد استعلائهم بما هم نخبة.
إن اتساق المعالجات المنهجية عند فؤاد واضح في الدراسات النقدية والكلامية، وحتى اهتمامه العابر بالفنون التشكيلية، وكل ذلك شاهد على أنه يتبنى منهجه باقتناع، وكذلك طريقه، وكانا يكملان بعضهما البعض دون تنافر أو تناقض يلحق الضرر بأحدهما أو بهما معاً. وقليلون هم الذين يتمتعون بهذه الصفة.

نبذة عن الراحل
- أسهم الراحل بفاعلية برفد وتطوير الثقافة اليمنية، وعمل على ترسيخ قيم وقواعد أخلاقية حضارية في التعامل مع الأدباء والنصوص الأدبية
 - كتب العديد من المواضيع والدراسات والمقالات الأدبية والنقدية في مجالات المسرح والشعر والفن التشكيلي
بطاقة تعريفية
- تلقى فؤاد دراسته الابتدائية في المهجر، وسافر إلى مصر مع شقيقه الأكبر، لمتابعة دراسته الإعدادية، ورحل مع مجموعة من زملائه لأسباب سياسية إلى اليمن عام 1967، ليواصل دراسته الثانوية في مدرسة ناصر الثانوية في تعز.
-1970 سافر إلى دمشق للدراسة الجامعية (فلسفة)، ولم يكمل دراسته، ومنها عاد إلى اليمن.
- عام 1972 سافر إلى ليبيا ليستكمل دراسته الجامعية، لم يستوعبه النظام، ورحل إلى بغداد في 1974 آخر محطاته الدراسية.
- عمل في صحيفة (الثورة) محرراً، إضافة الى إعداده وإشرافه على الملحق الثقافي الأسبوعي.
- نقل إلى مركز الدراسات والبحوث الأدبية ضمن كوكبة من الصحفيين لإرساء دعائم أول مركز للدراسات والبحوث العلمية. 
- مثَّل اليمن في المهرجانات والندوات الأدبية - الثقافية في العديد من الأقطار العربية، وحاز على تقدير كبار الأدباء والنقاد العرب.
- سافر الى براغ للعلاج، وتوفي فيها عام 1984م.



الحلقة الثانية
هل هي صفة ملازمة للمبدعين هذا الرحيل المبكر.. وضريبة يدفعونها ثمن نبوغهم؟ أم هو رفض صامت، واحتجاج مؤدب لهذا الزمن الرديء، واقتناع مسبق بعبثية الحياة؟ لا علم لي يا سيد الكلمات الصادقة، وفارس الحرف المضيء.. سنوات مرت على رحيلك، ومازالت الرؤية غير ممكنة.. وحين هممت بالكتابة عنك في ذكراك، مازلت عتمة قاتلة تجتاح أعماقي، ومرارة ساحقة تخنقني.. ضباب كثيف يقف حاجزاً بيني وبين الأشياء ومسمياتها.. اختلطت الألوان.. طمست ملامح الكلمات.. امتزج الممكن بالمستحيل.. تداخلت المفردات.. صار العدم هو الوجود.. عشوائية تمتص رحيق الحياة، وحرمة الممات.. سخرية الأشياء تمد خيوطها السوداء، تخنق الأجنة في أرحام الأمهات.. تقف الحجارة مخنوقة بالكلمات الدامعة.. تواسي الزهور الميتة في عز الربيع.. يرتعش القلم بين أناملي، يجف مداد القلب.. تنتابني الرجفة المخذولة بالحزن!
وقامت أيام الحكم الأموي حركة شيعية ضد هذا الحكم، بقيادة الإمام زيد بن علي، وكانت هذه الحركة إحدى أكثر الحركات الشيعية فعالية ضد الأمويين، وامتازت عن باقي الفرق الشيعية المناهضة للأمويين بأن نظريتها المثلى (هي الإمامة النشيطة العاملة، وليست الإمامة السلبية التي تنتهي بهم إلى الإمام الخفي).
إن هذا المقدمة كانت ضرورية لمعرفة المناخ السياسي والفكري لنشأة الزيدية، وسوف أتكلم باختصار عن نشأة ظاهرة التشيع، وتبلورها، لأنها تشكل الخلفية التاريخية والأرضية الثقافية لآراء زيد بن علي، وسوف أتكلم أثناءها عن الخلاف بين السنة والشيعة حول الإمامة.

تعريف الشيعة:
يعرف ابن خلدون الشيعة بما يلي: (ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه رضي الله عنهم). ويعرفهم ابن حزم الأندلسي: (ومن وافق الشيعة في أن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحقهم بالإمامة وولده من بعده، فهو شيعي، إن خالفهم في ما عدا ذلك مما اختلف عليه المسلمون، فإن خالفهم في ما ذكرنا فليس شيعياً). ويعرفهم الأشعري: (وإنما قيل لهم الشيعة لأنهم شايعوا علياً رضوان الله عليه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله).
التشيع اصطلاح يطلق على أتباع علي وبنيه، الذين يعتقدون بأن علياً وذريته أفضل الناس وأحقهم بالخلافة. ولكن أهل السنة يرون الشيعة في أن علياً هو أفضل الصحابة، مع تبجيلهم له، إذ يرى أهل السنة أن الصديق والخطاب كذلك أفضل الصحابة، يقول الهيثمي: (أعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعظماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ثم عمر)، ويقول البغدادي: (قالوا بتفضيل أبي بكر وعمر وعلي من بعدهما، وإنما اختلفوا في التفاضل بين علي وعثمان رضي الله عنهما).
وعندما أتكلم عن الشيعة، أعني أنصار آل البيت الموالين والمفضلين لهم، لأني أرى كما يذهب إليه غود فروا. والشيعة كانوا في أول ظهورهم أقرب إلى الحزب السياسي منهم إلى فرقة كلامية، ثم بدأوا في صياغة أفكارهم على نسق فلسفي تبريراً لولائهم السياسي لآل البيت، وهذه الأفكار حددت هويتهم، وميزتهم عن سائر الفرق الإسلامية. (إن التشيع كمذهب فكري وسياسي لم يتكامل بنيانه إلا مع ظهور القول بنظرية النص والتعيين التي أعطت له من المميزات والملامح، ما جعله يتخصص ويتميز عن غيره من الاتجاهات والمذاهب).
بدأت بذور التشيع عند وفاة الرسول، إذ إنه بعد انتصار المهاجرين على الأنصار، ونجاح مرشحهم الصديق في تبوُّء مركز الخليفة، أظهر الهاشميون استياءهم مما آلت إليه الأمور، إذ كانوا يعتقدون أن علياً هو الأحق بهذا المنصب لقرابته من الرسول، وسايرهم في ذلك بعض الصحابة كسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري، لاعتقادهم أن علياً هو الأحق لأنه الأفضل، ليس لقرابته فحسب، ولكن لدوره التاريخي في توطيد أركان الإسلام (وهو لا يعدهم من جمهور الشيعة وروادهم الأوائل).
 ظهر التشيع خلال الفترة الأخيرة من خلافة عثمان، وبرز في نهاية عهده الذي انتهى بمقتله، وقام قتلته، وبايعوا علياً بن أبي طالب الذي أطلق لفظ شيعي في موقعة الجمل، ثم تبلور التشيع بعد موقعة صفين، وهناك من يقول إن أفكار الشيعة التي تميزهم لم تصغ إلا رداً على الخوارج الذين يذهبون إلى القول: (إن إقامة إمام ليس واجباً دينياً، بل هي واجبة وجوباً مصلحياً). وقول الشيعة بالعصمة كان رداً على الخوارج في تخطئتهم للقبول بالعهد والتحكيم، ولكن التشيع لم يتحول إلا بعد واقعة كربلاء ومقتل الحسين. (كان التشيع قبل مقتله رأياً سياسياً نظرياً لم يصل إلى قلوب الشيعة إلا في ما بعد قتل الحسين، امتزج التشيع بدمائهم وتغلغل في أعماق قلوبهم، وأصبح عقيدة راسخة في أنفسهم). وكان مقتل الحسين الإسفين الذي شق الوحدة الإسلامية، إذ (إن السيف الذي جزر به ابن علي- سبط النبي - قد شق معه وحدة المسلمين إلى اليوم)، وجعل من التشيع عقيدة حية في قلوب بعضهم. 
لكن ما هو موضوع الخلاف الأساسي بين الشيعة والسنة؟ الخلاف هو هل الدولة واجبة وجوباً دينياً أو مصلحياً؟ يرى أهل السنة أنها (وجبت بالعقل لما في طباع العقلاء من التسليم بزعيم يمنعهم عن التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم)، بينما يرى الشيعة أن (الإمام يقوم بأمور شرعية كان جائزاً في العقل ألا يراد التعبد بها فلم يكن العقل موجباً لها).
وترجع خلفية الخلاف إلى أن الإسلام اكتفى بتحديد الوظيفة الاجتماعية للدولة، ولم يحدد شكلها، كما أن طريقة انتخاب الخلفاء الأربعة كانت اجتهادية، ولم تخضع لنص ديني، كما أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يمارس السلطة الروحية والزمنية، وبعد موته صلى الله عليه وسلم اختلف المسلمون حول خليفته، هل يخلفه في سلطته الزمنية والروحية، أم الزمنية فقط؟ هل أحكام النبي السياسية كانت اجتهادية أو صادرة عن وحي؟ وسوف ألخص رأي السنة والشيعة باختصار حول هذا الموضوع، لأن الإمامة والسياسة هي سبب الخلاف، وهي حجر الزاوية، في نشأة التشيع. أما من الناحية الفكرية فلا تعدو أن تكون تبريراً أيديولوجياً للمواقف السياسية.
رأي السنة: إن الخليفة يخلف الرسول في السلطة الزمنية فقط. وأحكام الرسول السياسية كانت اجتهادية، والإمامة ليست أصلاً من أصول الدين، لأن الرسول لم يذكرها.
فالإمامة قضية مصلحية وشورى، وهي فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإمام، ينصب لهم القضاة والأمناء، ويضبط ثغورهم، ويغزو بجيوشهم، ويقسم الفيء بينهم، وينتصف لمظلومهم من ظالمهم.
والخليفة عند السنة تتركز في شخصه واجبات الجماعة الإسلامية، فهو يجمع السلطة القضائية والإدارية، ويتقلد منصبه بواسطة انتخاب (إن طريقة اختيار عقد الإمامة للإمام في هذه الأمة، الاختيار بالاجتهاد). وتنعقد الإمامة (بمن يعقدها لمن يصلح للإمامة إذا كان العاقد من أهل الاجتهاد والعدالة).
وشروط الإمامة عند السنة: (أ) النسب من قريش  (ب) العلم على مستوى المجتهدين في الأحكام الشرعية  (ج) العدل  (د) أن يكون مصلحاً لماله وحاله  (هـ) غير مرتكب كبيرة ولا مصر على صغيرة. ويرى أهل السنة أن الخليفة يجتهد، وليس معصوماً.
 رأي الشيعة ومذهبهم جميعاً متفقون عليه (أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض في نظر الأمة، ويعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام). يرى الشيعة أن الإمام يجمع بين السلطة الزمنية والروحية.
الخلاصة: يرى أهل السنة أن الإمامة ليست أصلاً من أصول الدين، وأحكام الرسول السياسية اجتهادية، والخليفة يخلف الرسول في السلطة السياسية فقط، وهو مجتهد وغير معصوم، ويكون انتخابه بإجماع الأمة وأصحاب الحل والعقد، ولكن الشيعة يرون أن الإمامة أصل الدين. أدى هذا الاختلاف في الإمامة والسياسة بين السنة والشيعة، إلى تفريق وحدة كلمة المسلمين إلى يومنا هذا. يقول الشهرستاني: (وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة).
بجَّل الشيعة علي بن أبي طالب لعدة عوامل، منها أنه ابن عم الرسول وزوج ابنته فاطمة، ولدوره التاريخي في نشر الإسلام، إذ اشترك في كل الغزوات باستثناء غزوة تبوك بأمر الرسول، إضافة إلى كونه أعلى الصحابة علماً ومعرفة. قال الرسول: (أنا مدينة العلم وعلي بابها). وكان في خلافته نموذجاً للحاكم العادل الذي لم يستغل منصبه لتحقيق منافع مادية له ولأسرته، حتى إنه باع مرة سيفه، ولما سئل أجاب: (لو كان عندي أربعة دراهم ثمن إزار لم أبعه).. وكان يعيش حياة الزهد والتقشف، وصحح الأحوال الاجتماعية والسياسية التي سادها البعد عن المثل العليا الإسلامية في أواخر خلافة عثمان، إذ أعاد إلى بيت المال ما نهبه الولاة الأمويون، وعزل كثيراً منهم، وكان يحاسب ولاته حساباً دقيقاً، وساوى في العطاء بين المسلمين جميعاً، وأعاد الاعتبار للأنصار الذين ظلموا أيام عثمان بن عفان، وحَدَّ من تعاظم نفوذ الأرستقراطية القرشية التي أثرت في ذلك على سبقها في الإسلام وصحبة الرسول، وزاد من تبجيل أتباعه له اعتقادهم أنه ظلم في عدم تولي الخلافة بعد الرسول مباشرة، وكونه على حق في جميع حروبه (الجمل - صفين- الحروب ضد الخوارج). وازداد التبجيل له لهزيمته في معاركه المشروعة ضد الأمويين، بسبب تخاذل أنصاره، واستشهاده غدراً بيد أحد أتباعه السابقين، علاوة على صدق نبوءته من أن انتصار الأمويين يؤدي إلى سيادة الظلم. إن علياً كان في الحقيقة كما وصفه ابنه الحسن يوم استشهاده: (ألا إنه قد مضى في هذه الليلة رجل لم يدركه الأولون، ولن يرى مثله الآخرون). ولكن أهم سبب للتبجيل والغلو في ذلك عائد إلى أن الناس يبجلون المثل العليا مجسدة في شخص، وبعد موته ينسون المثل العليا ويبجلون الشخص.
بعد استشهاد علي تحولت الإمامة والزعامة الروحية إلى الحسن الذي تنازل عن حق الإمامة لمعاوية في عام الجماعة، ومات في خلال حكم معاوية، وجاء يزيد بن معاوية كخليفة للمسلمين بديلاً عن أبيه، وصدم المسلمون بتوريث معاوية الخلافة لابنه، متجاوزاً في ذلك مبدأ الشورى، وزاد من صدمتهم أن يزيداً كان فاسقاً وماجناً، ولكنه أخضع المتذمرين والساخطين بالعنف. وقد رفض الخضوع الحسين بن علي الذي نظر إليه الشيعة كإمام لهم بعد وفاة الحسن. رفض الحسين مبايعة يزيد، وأراد السفر إلى الكوفة، وكان شيعتها يطلبون مجيئه لمبايعته إماماً، ولكن انتهت آماله في القضاء على الحكام الأمويين الذين يصفهم (أنهم أظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء)، إلى سراب في كربلاء التي قتل فيها مع أنصاره الأوفياء، وكان سبب كارثة كربلاء يعود إلى تخاذل وتذبذب أنصاره الكوفيين، وحزم الوالي الأموي عبدالله بن زياد.
وكانت كارثة كربلاء أكبر مصاب لآل البيت في تاريخهم الدامي، وساد عند أئمة آل البيت بعد هذه الكارثة مبدأ التقية، واتجه الأئمة إلى مناهضة الدولة فكرياً وعقائدياً، وتفرغ الأئمة للتهيئة الأيديولوجية، وعملوا على استقطاب الأنصار سراً، واستعداداً للمواجهة العملية في الظروف الملائمة لهم، وتغير مبدأ التقية من موقف تكتيكي الى مبدأ عقائدي عند الأئمة المتأخرين، وأول من أخذ بالتقية من أئمة آل البيت هو علي زين العابدين بن الحسين - والد زيد- الذي نجا من كارثة كربلاء، فترك السياسة وبايع يزيد بن معاوية، وتفرغ للعلم، ولكن اعتبره الشيعة الإمام الرابع. 
 وكان زين العابدين زاهداً وعالماً جليلاً، وكان دائم الحزن والبكاء على قتلى آل البيت (وقد طبع زين العابدين التشيع عامة بالحزن المقيم). لقد اجتر الشيعة الذكريات الدائمة المؤلمة لآل البيت، وأضافوا إليها صوراً رائعة تهز الوجدان. يقول أحدهم العزيز بالله المتوفى في 286هـ.
عجيبــةٌ في الأيــام محنتُنـا
أولنـــا مبتـــلىً وآخــــرُنـــا
يفــــرح هــذا الــورى بعيــدِهمُ
جميعـــاً، وأعيــــادُنا مــآتمُنا
وأضحى البكاء على آل البيت، ولاسيما الحسين، تقليداً شيعياً حتى في العصر المعاصر.
يقول أحد الشيعة المعاصرين: (إن الحزن على الحسين لهو العلامة الدالة لقوة الاحتمال، ألا يذرف الشيعي الدموع لأنه جعل من قلبه قبراً حياً ومثوى حقيقياً للإمام الشهيد الذي اجتزت رأسه).
ونلاحظ أن الغلو لم يرتبط باسم زين العابدين، ولم يظهر في سلسلة الأئمة الغنوصيين، وكان يكره الغلو الذي أحيط به آل البيت، حتى إنه قال: (أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً).
وكان زين العابدين لا يؤمن بالعلم اللدني المتوارث، لأنه كان (يطلب العلم من كل شخص سواء أكان رفيعاً في أعين الناس، أم كان غير رفيع، مادام عنده علم ينتفع به).


الحلقة الثالثة

الآراء الكلامية والسياسية للإمام (زيد بن علي)
فؤاد علي عبد العزيز الزريقي

هل هي صفة ملازمة للمبدعين هذا الرحيل المبكر.. وضريبة يدفعونها ثمن نبوغهم؟ أم هو رفض صامت، واحتجاج مؤدب لهذا الزمن الرديء، واقتناع مسبق بعبثية الحياة؟ لا علم لي يا سيد الكلمات الصادقة، وفارس الحرف المضيء.. سنوات مرت على رحيلك، ومازالت الرؤية غير ممكنة.. وحين هممت بالكتابة عنك في ذكراك، مازلت عتمة قاتلة تجتاح أعماقي، ومرارة ساحقة تخنقني.. ضباب كثيف يقف حاجزاً بيني وبين الأشياء ومسمياتها.. اختلطت الألوان.. طمست ملامح الكلمات.. امتزج الممكن بالمستحيل.. تداخلت المفردات.. صار العدم هو الوجود.. عشوائية تمتص رحيق الحياة، وحرمة الممات.. سخرية الأشياء تمد خيوطها السوداء، تخنق الأجنة في أرحام الأمهات.. تقف الحجارة مخنوقة بالكلمات الدامعة.. تواسي الزهور الميتة في عز الربيع.. يرتعش القلم بين أناملي، يجف مداد القلب.. تنتابني الرجفة المخذولة بالحزن!
وفي الحلقة الثالثة تواصل صحيفة (لا) نشر دراسة أعدها الراحل.
وتولى الزعامة الروحية للشيعة بعد وفاة زين العابدين، ابنه محمد الباقر، المتوفى عام 119هـ. وكان الباقر أعظم عالم في آل البيت بعد علي بن أبي طالب، وأخذ كوالده بسياسة التقية، ولكنه كان عدو الغلو والغنوصيات، ورغم ابتعاده عن السياسة، مدح المختار لانتقامه من قتلة الحسين في كربلاء، وقد أدان الباقر كل الفرق الشيعية المتطرفة التي ظهرت في أيامه، حتى الكيسانية التي قادها المختار.
ولم يعرف عن الباقر طعنه في الشيخين، إذ يقول عن أبي بكر الصديق: (نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله له قولاً في الدنيا والآخرة).
إن آراء زيد بن علي هي تطوير لآراء زين العابدين والباقر، فآراء زين العابدين والباقر وطموحاتهما ورغباتهما وحقدهما على بني أمية، هي الخلفية الثقافية والنفسية لزيد بن علي، فحياة زيد في الوسط الشيعي بوصفه من آل البيت، هي التي حددت آراءه في السياسة والإمامة (إنه ليس الوعي الذي يحدد الحياة، وإنما الحياة هي التي تحدد الوعي). وآراء زيد بن علي أكثر اعتدالاً عن آراء غيره من آل البيت، لتأثره بالمعتزلة، وقد صاغ آراءه كرد فعل للآراء التي تسللت الى الشيعة، ولا يمكن فهم آراء زيد بن علي حول (العصمة المهدية والرجعية البداء - العلم اللدني) إلا بعد معرفة إحدى الفرق الشيعية المغالية المتأثرة بالغنوصيات، ولهذا سوف أتكلم عن الكيسانية باختصار، قبل دخولي في مناقشة حياة زيد، تمهيداً لمناقشة آرائه السياسية.
الكيسانية قاد حركتها ضد قتلة الحسين، المختار الثقفي الذي (قيل إنه أخذ مقالته عن مولى لعلي رضي الله عنه، وكان اسمه كيسان). وكانت الحركة في بدايتها عسكرية تسعى للقصاص من قتلة الحسين، ونجحت في ذلك.
 وقد تبنت الحركة محمد بن الحنفية إماماً، وباركها، ولكنه أدانها بعد ما صبغت بالصبغة الغنوصية.
ولقد اكتسبت الفرق الشيعية، ولاسيما الكيسانية، بعداً طبقياً، لأن قاعدتها العريضة، كانت من المستضعفين في الأرض، كما تجاوزت النزعة القومية الضيقة، يقول م. غودفروا: (فلما ارتبطت الشيعة بالعناصر المضطهدة تخلت عن تربة القومية العربية، وكانت حلقة الارتباط هي الإسلام). فالكيسانية كانت في الحقيقة أهم الفرق الشيعية تجسيداً لأفكار الغنوصية المتسللة إلى الشيعة على الصعيد الأيديولوجي، كما كانت أكثر الفرق الشيعية التي كان لها مضمون طبقي بتعبيرها عن طموح من المستضعفين على الصعيد الحركي. وتعتقد الكيسانية أن الأئمة أربعة: علي، والحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية. يقول الشاعر: 
ألا إن الأئمة من قريش
ولاة الحق أربعة سواءُ
عليٌّ والثلاثة من بنيه
 وهم أسباطُهُ والأوصياءُ
واعتقدت الكيسانية أن الإمام الرابع محمد بن الحنفية لم يمت، وهو المهدي الذي يرجع ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً، ويقول شاعرهم في هذا: 
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يتبعه اللواءُ
تَغَيَّبَ لايرى عنهم زمانـــاً
برضوى عنده عسل ومـــاءُ 
 ولكن مع هذا كانت الكيسانية ذات محتوى تقدمي بتعبيرها كحركة عن مصالح المستضعفين الكادحين اقتصادياً والمضطهدين قومياً. إن الكيسانية لم تكن فرقة شيعية ذات آراء غنوصية فقط، ولكنها كانت حركة ثورية ذات أبعاد طبقية ناضلت ضد النظام الأموي الأرستقراطي، وضد أشراف الكوفة معاً، تعبيراً عن مصالح الموالي، وكانت رافد الحركات الثورية التي أتت بعدها. وكان قائد الكيسانية زعيماً يتحسس آلام الموالي، وقد (كانت العناية بالمستضعفين نقطة رئيسة في برنامجه). وكان من أهم عوامل فشل هذه الحركة، هو تخلي أشراف الكوفة وقادة العصبية فيها عنها بسبب أخذها البعد الطبقي، إذ جعل المختار الموالي يشاركون سادتهم في الفيء، وقد خان أشراف الكوفة عقيدتهم الشيعية حفاظاً على مصالحهم الطبقية، واتحدوا مع آل الزبير المناهض لآل البيت، وقد قام الأشراف بحملة ديماغوجية تثير النزعة العرقية الشوفينية والسلالية، مما أدى ـ كما يقول فلهاوزن ـ إلى تخلي كثير (من الشيعة العرب الذين كانوا حتى في ذلك الوقت في صف المختار، إذ انفصلوا عنه وانحازوا إلى صفوف الأشراف).

زيد بن علي
ولد في سنة 80هـ من أم سندية، توفي والده زين العابدين وعمره 14 سنة، فكفله أخوه محمد الباقر. تلقى العلم، فقهاً، سيرة، تفسيراً، قرآناً وحديثاً، على يد والده وأخيه الباقر، وغيرهما من كبار آل البيت الذين اتجهوا الى العلم وبعدوا عن السياسة بعد كارثة كربلاء، وبعد أن أخذ زيد من هؤلاء الأولويات من علوم ذلك العصر، لم يرضَ بالحياة الرتيبة المملة في المدينة، فزار الكوفة والبصرة، واحتك بعلمائهما ومفكريهما، وكانت البصرة آنذاك موطناً لتيارات فكرية جهمية، قدرية، شيعية، معتزلة، ودرس زيد الآراء المختلفة لهذه الفرق، مما جعله أحد كبار علماء عصره، يقول أبو حنيفة: (شاهدت زيداً بن علي فما رأيت في زمانه أفقه منه).

 شخصيته: 
كان زيد، كما وصفه الفخر الرازي، من عظماء أهل البيت علماً وزهداً وورعاً وشجاعة وديناً وكرماً. 
قال أبو الجارود: (قدمت المدينة، فجعلت كلما سألت عن زيد بن علي قيل لي ذاك حليف القرآن).
وقال الأصفهاني: (كانت المرجئة وأهل النسك لايعدلون بزيد أحداً).
لقد تأثر زيد بن علي بالمعتزلة وآرائهم، لأنه كان تلميذاً لواصل بن عطاء. يقول الشهرستاني: (أراد أن يحصل الأصول والفروع حتى يتحلى بالعلم، فتتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء الغزل الألثغ رأس المعتزلة ورئيسهم).
وقال الكتبي: (قال ابن أبي الدم في الفرق الإسلامية، كان زيد قد آثر تحصيل علم الأصول، فتتلمذ لواصل بن عطاء رأس المعتزلة، فقرأ عليه، واقتبس منه علم الاعتزال، وصار زيد وجميع أصحابه معتزلة في المذهب والاعتقاد).
ولكن هناك من كتاب الشيعة الذين يرفضون أخذ أحد آل البيت علماً من خارج البيت العلوي (لأنهم علماء بالفطرة، وهم أساس العلوم). ولا يدعي هذا قدماء الشيعة فحسب، ولكن حتى المعاصرون منهم لايخلون من هذا الادعاء، إذ يقول أحد مفكري الشيعة المعاصرين إن (الشيعة هم الذين أسسوا علم الكلام، وعلى أئمتهم تتلمذ علماء المعتزلة وغيرهم من الفرق الإسلامية). ولكن مؤرخي الفرق القدماء والباحثين المعاصرين - النشار، صبحي، عرفان عبد الحميد - يرون أن زيداً كان تلميذاً لواصل بن عطاء، ولكن يرى أبو زهرة أن التقاء زيد بواصل (كان التقاء المذاكرة عليه، وليس التقاء تلميذ يتلقى عن أستاذ، فإن السن متقاربة). ولكن التقارب في السن لاينفي التأثر، والحقيقة أن أخذ الزيدية لأفكار المعتزلة هو الذي صبغ الزيدية بصبغة عقلية، وحصنها ضد الأفكار الغنوصية التي تأثرت بها كل الفرق الشيعية الأخرى.
وتعرض زيد لغضب الباقر وابنه الصادق لأخذه العلم عمن يجوز الخطأ منه على جده علي بن أبي طالب، في خلافه مع خصومه، ووقوف زيد بن علي إلى جانب واصل بن عطاء في خصومته الفكرية مع جعفر الصادق، دليل قاطع على تأثر زيد بواصل بن عطاء، لقد حدث أن ذهب الصادق مع أتباعه إلى واصل عند مجيئه إلى المدينة، وقال له: (إنك يا واصل أتيت بأمر يفرق الكلمة، وتطعن به على الأئمة، وأنا أدعوكم الى التوبة)، فرد عليه واصل: (وإنك يا جعفر وابن الأئمة شغلك حب الدنيا فأصبحت بها كلفاً). وتدخل زيد وقال لجعفر: (ما منعك من اتباعه إلا الحمد).
 خروج زيد بن علي واستشهاده: 
كان زيد يرى (أن الإمامة مسألة عملية لا سلبية، فيجب أن يقود الإمام شيعته في الكفاح دون إخفاء أو كتمان)، ويرفض منهج أبيه وأخيه الباقر اللذين يأخذان بسياسة التقية، ويكتفيان بالنقد للأمويين عند خاصة شيعتهم (ليس النقد هو القوة المحركة للتاريخ، للدين، للفلسفة، ولكل نظرية أخرى، بل الثورة). ويحث القرآن على الخروج لمحاربة الظالمين (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية...)، فالخروج يعد من المبادئ الأساسية عند الزيدية، يقول الأشعري: (والزيدية بأجمعها ترى السيف والعرض على أئمة الجور وإزالة الظلم وإقامة الحق)، ويقول ابن خلدون إن الزيدية (تشترط أن يكون الإمام منهم عالماً زاهداً، ورعاً، شجاعاً، داعياً الى إمامته). واعتناق الزيدية لمبدأ الخروج يظهر لنا تأثر زيد بالمعتزلة، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة يترتب على معتنقه الخروج.
ومع اعتناق زيد لمبدأ الخروج فقد أخطأ في تحديد الظروف الموضوعية الملائمة لخروجه، ولكن يرى أبو زهرة (أن زيداً لم يخرج لأنه كان يريد الخروج في ذلك الوقت، ويقصد إليه قصداً له فيه الإرادة الكاملة، ولكنه أحرج وأوذي في كرامته ومروءته). لقد ادعى والي الكوفة يوسف الثقفي بتحريض من الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان، أن عند زيد أموالاً للدولة أخذها من الوالي السابق للمدينة، واستدعي زيد إلى دمشق ومنها إلى الكوفة، وعرف الكوفيون كذب الادعاء والهدف منه، إذ كان يهدف الإساءة الأدبية لسمعة زيد، بوصفه أكبر شخصيات البيت العلوي بعد موت الباقر. ولما رأى والي الكوفة التفاف الشيعة حول زيد، طلب منه مغادرة الكوفة، فتظاهر زيد بالخروج من الكوفة، وسافر إلى خارجها، ولكنه عاد إليها سراً (ونما خبره إلى يوسف بن عمر الثقفي عامل الكوفة من قبل هشام بن عبد الملك، وخاف أهل الكوفة فاحتالوا في مناظرته ليتخلصوا بذلك عن بيعته). ولم يقف مع زيد إلا 218 رجلاً، مع أن عدد من بايعوه كان يربو على 15,000، والسبب في موقف الشيعة من زيد وتخاذلهم عنه بعد مبايعتهم له، يعود إلى أن حركة زيد أخذت طابع الثورة الإسلامية ضد الظلم والدفاع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء، ورد المظالم وأفعال الخير ونصرة أهل البيت، كما أنه رفض تكفير الشيخين، والطعن فيهما، إذ قال لشيعة الكوفة عندما طلبوا منه التبرؤ من الشيخين: (وغاية ما أقول أنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس، فدفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك الكفر، وقد عدلوا في الناس، وعملوا بالكتاب والسنة). وقد أدى ذلك إلى تبرؤ الشيعة منه، فسماهم الرافضة، يقول الشهرستاني: (ولما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة منه، وعرفوا أنه لايتبرأ من الشيخين، رفضوه حتى أتى قدره عليه فسميت الرافضة)، ولكن زيداً رغم انفضاض شيعة الكوفة عنه، أصر على القتال، إذ قال: (أخاف أن يكونوا قد فعلوها حينية، والله لأقاتلن حتى أموت)، فقاتل بشجاعة مع قلة من المخلصين له، إلى أن أصيب بسهم فتوفي متأثراً بجراحه، ودفنه ابنه يحيى في ساقية، وردمها، ووضع عليها النبات، لكي لا يعلم أحد بمكانه، ولكن (علم به يوسف بن عمر فنبشه وصلبه)، فقال في ذلك أحد الشعراء الأمويين متشفياً: 
صـلبـنا لـكم زيداً على جـذع نــخــلــةٍ
 ولم أرَ مهــدياً على الجــذع يصلــبُ
وبعد أن استمر صلبه في كناسة الكوفة (كتب هشام يأمر بأن يحرق، فحرق ونسف رماده في الفرات).
وإذا لخصنا بموضوعية أسباب فشل حركة زيد، فهي كما يلي: 
1) عدم وقوف غلاة الشيعة معه.
2) انفضاض شيعة الصادق عنه لجعله الخروج شرطاً لاستحقاق الإمامة.
وهناك عامل مهم، وهو أن زيداً خرج على الدولة الأموية في وقت كانت الفتوحات الإسلامية في أوجها، وكان هناك من ثم رضا عامة الناس على هشام (وكانت الدولة الأموية موطدة الأركان).




الحلقة الأخيرة

الآراء الكلامية والسياسية للإمام (زيد بن علي)

هل هي صفة ملازمة للمبدعين هذا الرحيل المبكر.. وضريبة يدفعونها ثمن نبوغهم؟ أم هو رفض صامت، واحتجاج مؤدب لهذا الزمن الرديء، واقتناع مسبق بعبثية الحياة؟ لا علم لي يا سيد الكلمات الصادقة، وفارس الحرف المضيء.. سنوات مرت على رحيلك، ومازالت الرؤية غير ممكنة.. وحين هممت بالكتابة عنك في ذكراك، مازلت عتمة قاتلة تجتاح أعماقي، ومرارة ساحقة تخنقني.. ضباب كثيف يقف حاجزاً بيني وبين الأشياء ومسمياتها.. اختلطت الألوان.. طمست ملامح الكلمات.. امتزج الممكن بالمستحيل.. تداخلت المفردات.. صار العدم هو الوجود.. عشوائية تمتص رحيق الحياة، وحرمة الممات.. سخرية الأشياء تمد خيوطها السوداء، تخنق الأجنة في أرحام الأمهات.. تقف الحجارة مخنوقة بالكلمات الدامعة.. تواسي الزهور الميتة في عز الربيع.. يرتعش القلم بين أناملي، يجف مداد القلب.. تنتابني الرجفة المخذولة بالحزن!
صحيفة (لا) تنشر آخر حلقات الراحل.
1) جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل: 
يرى زيد بن علي أن علي بن أبي طالب كان أفضل الصحابة بعد الرسول (إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها وقاعدة دينية راعوها من تسكين فائرة الفتنة وتطبيب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً، وسيف أمير المؤمنين علي عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فيما كانت القلوب تميل إليه كل الميل، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتؤدة والتقدم بالسن والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم). ومع اعتقاد زيد أن علياً أفضل الصحابة، إلا أنه لم يعتبرهما مغتصبين للخلافة، لأن الخلافة فوضت لهما لمصلحة المسلمين. ويفسر موقف زيد هذا الدكتور النشار بأنه (لتبرير موقف جده علي من خلافة أبي بكر وعمر تبريراً واقعياً).
المهم أن زيداً يرى أن المصلحة هي أساس الأفضلية في تولي الخلافة، فالأفضلية ليست ملازمة للخلافة، لأن الخلافة اختيار للأقدر على تحمل العبء، والذي لاتؤدي خلافته الى فتنة، والاختيار يكون بالشورى، تجوز للأصلح، واشتراط زيد أن يكون الإمام فاطمياً هو شرط أفضلية، إذ يرى أنه يجوز لأهل الحل والعقد أن يختاروا إماماً غير فاطمي منهم، بشرط أن تستدعي مصلحة المسلمين ذلك، ولكن يجب اختيار الفاطمي إذا لم تستدعِ المصلحة غيره، لأنه أفضل. ويرى الشيخ أبو زهرة (أن أهل السنة الذين أخذوا بإمامة المفضول مع وجود الأفضل، لم يروا رأي الشيعة في أن أبناء علي من فاطمة أفضل دائماً، ولكنهم قالوا ذلك فقط كقاعدة عامة في التولية من قريش، الذي هو مذهب أهل السنة).
وهكذا نرى أن زيد بن علي أعاد أمر المسلمين إليهم، ونلاحظ أن زيداً مع تولية الشيخين لم يتطرق إلى خلافة عثمان، إذ إنه لم يقل بشرعيتها، ولم يدنها في نفس الوقت.
2) الخروج: 
يعتبر الخروج أهم مبادئ زيد بن علي في الإمامة والسياسة، وشرطاً أساسياً لاستحقاق الإمامة، وقد تمسكت كل الفرق الزيدية بهذا المبدأ، يقول الشهرستاني: (جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون إماماً واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين). فزيد بن علي يرى أن خروج الإمام شاهراً سيفه على الدولة الظالمة، شرط لاستحقاقه الإمامة، وفي حالة السلم يرى زيد أن من يرى بنفسه الكفاءة من البيت الفاطمي لشغل منصب الإمامة، أن يظهر نفسه، ويعلن رغبته حتى يرى أهل الحل والعقد إذا ما كان صالحاً للإمامة بعد مقارنته بالمرشحين الآخرين.
 ولكن لماذا اشترط زيد أن الإمامة في أولاد فاطمة، ولا يجوز إمام من غيرهم؟ لأن (أبناء فاطمة هم أقرب الناس بنسبهم الطاهر إلى العدالة والسخاء والشجاعة، وأنهم بنسبهم إلى فاطمة الزهراء سيصبحون أكثر من غيرهم عمود الدين وسند الإسلام). ويرى د. صبحي أن اشتراط زيد كون الإمام فاطمياً ليس بدافع من (عصبية لأبناء فاطمة الزهراء، وإنما لكي لايتصدر لقيادة الثورات أفراد يسبون علياً ويكفرونه كالخوارج، أو يذمونه ويلعنونه كابن الزبير، فضلاً عن أن يظل لواء مقاومة الظلم معقوداً لآل البيت).

جواز خروج إمامين في قطرين في وقت واحد: 
يرى زيد جواز خروج إمامين في قطرين في وقت واحد (ويكون كل منهما واجب الطاعة في بلده، على أن يكون الأمر لأكفئهما وأولاهما بالإمامة بعد تقويض دولة الظلم). ويرى د. صبحي أن زيداً قرر هذا المبدأ قاصداً (أن تتعدد الثورات في الأقاليم، فتعجز السلطات الغاشمة القائمة عن مواجهتها معاً، فيكون ذلك أدعى إلى انتصارها).
ولكن يرى الشيخ أبو زهرة أن ما دفع زيداً لإقرار هذا المبدأ هو (ما لاحظه في عهده من اتساع رقعة الدولة الإسلامية، فقد امتدت من سمرقند إلى الأندلس وإلى جنوب فرنسا، وأن المصلحة في تجزئة الحكم، على أن يكون الولاء كاملاً والتعاون شاملاً). ويذهب د. النشار إلى أن المبدأ (وضعته الزيدية الذين تابعوا الإمامين محمداً وإبراهيم ابني عبدالله بن الحسن، في ثورتهما على المنصور)، ولكن لم يورد الدكتور النشار ما يؤكد ما ذهب إليه. ويلاحظ أن أهل السنة يرون أنه (لاتصح الإمامة إلا لواحد في جميع أرض الإسلام، إلا أن يكون بين الصفين حاجز من بحر أو عدو لايطاق، ولم يقدر أهل كل واحد من الصفين على نصرة أهل الصف الآخر). ويشترط علماء المذهب الزيدي لتطبيق هذا المبدأ، ألا يكون هناك إمام مختار من أهل الحل والعقد، شملت ولايته الأقاليم، لأنه إذا سبق بالولاية إمام مستوفٍ للشروط يكون الثاني الخارج باغياً، ويحل دمه تطبيقاً لقول الرسول (من جاءكم وأمركم على رجل واحد فاقتلوه).

الفرق الزيدية
استمرت آراء زيد بن علي السياسية بعد استشهاده، وتبلورت في الفرق الزيدية (وهي أصناف ثلاثة: جارودية وسليمانية وبترية، والصالحية منهم والبترية على مذهب واحد).. يقول جولد تسهير: (ونلاحظ أن الفرق الزيدية على الأخص هي في تفصيلات مذهبها أوثق صلة بتعاليم المعتزلة بدرجة أعظم من الفرق الإسلامية). والحقيقة أن التشيع الزيدي يمثل اتجاهاً وسطاً بين أهل السنة، وفرق الشيعة، لاسيما الاثني عشرية والإسماعيلية. وسوف أناقش هذه الفرق الزيدية الثلاث: الصالحية والسليمانية والجارودية، باختصار شديد.

أولاً: الصالحية: 
تنسب إلى الحسين بن صالح الهمداني المتوفى عام 168هـ، وكان فقيهاً متكلماً، كما أنه شخصية موثوقة من قبل أهل السنة، إذ أخرج له مسلم والبخاري. خرج مع زيد، وبعد استشهاده رافق ابنه عيسى. كما أن هناك شخصية أخرى تنسب إليها الفرقة، هو إسماعيل بن نافع النواء الملقب بالأبتر، ولهذا تسمى الصالحية أحياناً البترية، وتعتبر هذه الفرقة من أكثر الفرق الزيدية تأثراً بالاعتزال. يقول الشهرستاني عنها: (أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالغدة)، ويصفهم الملطي بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقولون بالعدل والتوحيد، كما أنهم (أحسن حالاً عند أهل السنة من أصحاب سليمان بن جرير). والصالحية في الحقيقة تعتبر أكثر الفرق الزيدية اعتدالاً وقرباً من آراء أهل السنة، وهي تعتبر حلقة وصل بين السنة والشيعة.

مبادئ الصالحية
1) إمامة المفضول مع وجود الأفضل إذا كان راضياً: 
ترى الصالحية أن علياً هو أفضل الناس بعد الرسول، ولكنه سلم بالأمر راضياً عند انتخاب المسلمين للصديق خليفة الرسول، ويقولون: (ولو لم يرضَ علي بذلك لكان أبو بكر هالكاً)، ولهذا، فالصالحية يقولون إنهم راضون ومسلمون بخلافة الشيخيين، ولكن موقفهم من عثمان كان مرجئياً، إذ يقولون إنهم حائرون بين مواقفه العظيمة في الإسلام وأخطائه في مدة خلافته، لهذا قالوا: (تحيرنا في أمره وترفقنا في حاله ووكلناه إلى أحكم الحاكمين). ويرى أبو زهرة أنهم يخالفون زيداً في مبدئهم إمامة المفضول مع وجود الأفضل إذا كان راضياً، لأن زيداً يرى أن (المصلحة العامة للمسلمين هي شرط جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، وليس رضا الأفضل).

2) أفكار التقية: 
ترى الصالحية أنه لايكون إماماً من يفتي بالباطل، وميزوا ذلك بالخوف من الظالمين، فالإمام يجب عليه أن يفتي دائماً بالحق، لأنه إذا كان يفتي أحياناً عن تقية، فهذا يؤدي إلى البلبلة عند الناس لعدم تمييزهم بين الرأي الصادق والرأي الصادر عن تقية، فهم يرفضون الإمام المنغلق على نفسه. وقد تعرض الصالحية لإنكارهم التقية لهجوم أشياع الصادق الذين يتبعون إمامهم القائل بالتقية، ويقول النشار إن الصادق برر التقية وقال: (التقية ديني ودين آبائي).
ترى الصالحية أن (من شهر سيفه من أولاد الحسن بن علي رضي الله عنهما، وكان عالماً، زاهداً، شجاعاً، فهو الإمام. وشرط بعضهم صباحة الوجه). وإن خرج منها إمامان وجدت فيهما الشروط، ينظر إلى الأفضل والأزهد، فإن تساويا ينظر إلى الأمتن رأياً والأحزم أمراً، وإذا خرج إمامان في قطرين (انفرد كل واحد منهما بقطره، ويكون واجب الطاعة في قومه، ولو أفتى أحدهما بخلاف ما يفتي الآخر، كان كل واحد منهما مصيباً. وإن أفتى باستحلال دم الإمام الآخر)، وهذا مبدأ غيب لأنه سوف يؤدي إلى أن يستحل كل فريق من المسلمين دم الآخر لمجرد اختلاف أئمتهم، وقد وصف الشهرستاني مبدأهم هذا على (أنه خبط عظيم).

ثانياً: السليمانية
تنسب إلى سليمان بن جرير. ظهر أيام أبي جعفر المنصور، وكان من أتباع جعفر الصادق، ولكنه انفصل عنه لتمسك الصادق بالتقية وقوله بالبداء. ويقول البغدادي: (وأهل السنة يكفرون سليمان بن جرير من أجل أنه كفر عثمان رضي الله عنه).

مبادئ السليمانية
1) جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل: 
ترى السليمانية أن الإمامة شورى (وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها قد تصلح في المفضول، وإن كان الفاضل أفضل في كل حال). وترى السليمانية أن الأمة أخطأت في البيعة للصديق والخطاب مع وجود علي بن أبي طالب الأفضل، ولكن هذا الرأي اجتهادي ولا يصل الى درجة الفسق. وهذا الرأي قريب من رأي إحدى الفرق الزيدية الصغيرة، وهي النعيمية نسبة الى نعيم بن اليمان (الذي ذهب إلى أن الأمة ليست بمخطئة خطأ إثم في أن ولت أبا بكر وعمر رضوان الله عنهما، ولكنها مخطئة خطأ بيناً في ترك الأفضل). ولكن سليمان بن جرير طعن في عثمان رضي الله عنه، للأحداث التي أحدثها.

2) إنكار التقية:
طعن سليمان في الإمامية لاعتناق أئمتهم مبدأ التقية، إذ إن هؤلاء الأئمة، ولاسيما الصادق، كانوا يجيبون شيعتهم في مسائل جوهرية في الدين عن تقية خشية الحكام.
ولاحظ شيعتهم أن هناك تناقضات في أجوبة الأئمة على المسألة الواحدة. كما لاحظوا الجواب الواحد على مسائل متعددة ومتناقضة، ولما استفسروا أئمتهم أجابوا أن جوابهم يكون في أكثرها عن تقية، وأن هذا حق لهم. ولكن سليمان أنكر هذا عليهم، لأنه يجعل شيعتهم لا يعرفون متى يكون أئمتهم يفتون عن صدق، ومتى يفتون عن تقية، ويجعل هذا من الأئمة أشخاصاً لا يعرفون لهم حقاً عن باطل، فانشق عن الإمامية، وأصبح زيدياً لرفض الزيدية لمبدأ التقية.

ثالثاً: الجارودية:
تنسب إلى أبي النجم زياد بن المنذر الملقب بالجارود، المتوفى عام 150هـ تقريباً. كان من الشيعة الإمامية قبل انفصاله عنها، ولهذا، حملت آراؤه رواسب كثيرة من أفكار الشيعة الإمامية.

مبادئ الجارودية
1) الخروج:
 يرى الجارود أن كل إمام فاطمي شجاع خرج وقام بالدعوة لنفسه، فهو الإمام، ولا تكون الإمامة إلا في أولاد فاطمة (وهم كلهم فيها شرع سواء من قام منهم ودعا لنفسه، فهو الإمام المفروض الطاعة بمنزلة علي بن أبي طالب، واجبة إمامته من الله عز وجل على أهل بيته وسائر الناس كلهم). واعترض على الباقر والصادق لعدم خروجهما، وانعزالهما عن الناس (ومن ادعى منهم الإمامة وهو قاعد في بيته مرخى عليه ستره، فهو باطل، وكل من اتبعه على ذلك ومن قال بإمامته). ولعنه الباقر وسماه سرحوب (أي شيطان أعمى يسكن البحر). كما لعنه الصادق وقال إنه (أعمى القلب والبصيرة). وقد ساق أبو الجارود الإمامة من علي، إلى الحسن ثم الحسين ثم زين العابدين، ومنه إلى زيد بن علي، ومنه الى محمد أبي النفس الزكية، متجاوزاً الباقر والصادق لعدم خروجهما.

2) النص على علي بن أبي طالب بالوصف دون التسمية:
يرى أبو الجارود أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نصَّ على علي رضي الله عنه (بالوصف دون التسمية، وهو الإمام بعده، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف ولم يطلبوا الموصوف، وإنما نسبوا أبا بكر باختيارهم، فاختلفوا بذلك). ولم يشر زيد بن علي إلى فكرة نص النبي (صلى الله عليه وسلم) على إمامة علي بعده، وفكرة النص الذي أورده الجارود هي نتاج تأثره بالشيعة الإمامية قبل اعتناقه الزيدية.. يقول د. صبحي: (إن فكرة النص الخفي بالوصف دون التسمية، هي أكثر أفكار الجارودية قبولاً لدى كثير من الزيدية). وقد رفضت الشيعة الإمامية القائلة بالنص الجلي، فكرة النص الخفي (الجارودية)، كما رفضها السنة الذين يرفضون فكرة النص، الإيصاء جملة وتفصيلاً. يقول الهيثمي: (ولقد سأله العباس أن يبايعه - أي عم علي - فلم يقبل، ولو علم نصاً عليه لقبل). ويذهب الجارود إلى (أن الناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف، ولم يطلبوا الموصوف).

3) العلم السري:
نسبت الجارودية العلوم السرية إلى أئمة آل البيت، وأن علمهم (كعلم النبي، فيحصل لهم العلم قبل التعليم فطرة وضرورة، بل فهم متساوون فيه من المهد)، وأنه (لايحتاج إلى تعليم أحد منهم ولا من غيرهم). وجعل الإمام عنصراً أبستمولوجياً يدل على تخلي الفرق الزيدية المتأخرة عن النسق الفكري لزيد بن علي ذي الطابع العقلاني، ولذا اتهم الملطي الجارودية في الفترة الأخيرة بأنها قالت بالمهدية، بل ذهب إلى أنها قالت بالثنوية والزرادشتية، كما يقول د. النشار، ولكن النشار يرى أنه (من المحتمل أن الجارودية قد انصهرت في الإمامية).