قلاع أممية لم تغرقها الكوكاكولا
- تم النشر بواسطة صحيفة لا / طلال سفيان
كوبا - كوريا الديمقراطية - إيران - سوريا
الحياة ممكنة بلا ماكدونالدز
تمر الدول والأمم عبر تاريخها بأزمات مختلفة الأشكال والأسباب والأهداف، وحتى مختلفة المنشأ، فهناك أمم ودول عانت عبر تاريخها الطويل من مشاكل سياسية وإجتماعية واقتصادية وثقافية، وغيرها من الأزمات الأخرى التي كان لها تأثير سلبي في تقدمها وتطورها أو تأخرها، ومنها حسب المعادلة الشاذة في الحياة كانت سبباً في وعيها ونهضتها بالرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته في كافة المجالات وعلى كافة الصعد.
كوبا: صمود لا يتزعزع
عندما قام فيدل كاسترو بمحاولته الأولى غير الناجحة عام 1935 لتحرير الشعب الكوبي من طغمته العميلة والفاسدة، ودخل السجن على إثرها هو وأخوه راؤول وبقية الناجين من رفاقه، كان من المحتمل أن يعدل عن مشروعه الثوري, ولكن الفرسان لا يتراجعون بسهولة. فأعاد المحاولة مرة ثانية عام 1956، وإلى جانبه القائد الفذّ تشي غيفارا، وعندما تعرضت المجموعة التي كانا يقودانها الى ما يشبه الإبادة، على أيدي جلاوزة نظام باتيستا عميل الاستخبارات الأميركية، كان من المنتظر أن ينتصر اليأس هذه المرة، ولكن الذي انتصر هو الثقة بالشعب والإرادة الفولاذية, فأصرّ فيدل وتشي على تنفيذ مشروعهما الثوري بعزيمة لا تلين، فانسحبا مع رفاقهما الناجين الى جبال سييرا، وواصلا من هناك الكفاح المسلح الذي تكلل بالنجاح ليلة رأس سنة 1959 التي شهدت الهجوم المظفّر للثوار الكوبيين على العاصمة هافانا, لحظتها لم تتحمل الولايات المتحدة خسارة نظامها الدمية، فباشرت الإعداد للرد بالاعتماد على بعض أنصار النظام السابق، شركاء المافيات الأميركية في نهب الشعب الكوبي, ففي ليل الـ17 من أبريل 1961 نظمت الاستخبارات الأمريكية هجوماً على كوبا انطلاقاً من خليج الخنازير، ولكن القوات المسلحة الكوبية استطاعت بدعم الشعب صدّ العدوان وأسر المهاجمين بعد أن وقعت قوات المرتزقة المعروفة بـ(لواء 2506) في المستنقع, ومنذ ذلك التاريخ وحتى الأمس القريب، واصلت الولايات المتحدة حصارها الاقتصادي لكوبا، من أجل استبدال نظامها الوطني والثوري، بنظام يشبه أنظمة جمهوريات الموز التابعة لها، ولكن عبثاً تحاول, ولعل أزمة الصواريخ التي اندلعت عام 1962، وكادت تتسبب بمواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كانت أبرز نموذج لذروة التآمر الأميركي على الثورة الكوبية، ومع ذلك فشلت الغطرسة الامبريالية في زحزحة كوبا الثورة عن خياراتها الوطنية في التصدي والصمود.
بعد عملية خليج الخنازير وعملية النمس، قامت كوبا ببناء قواعد للصواريخ النووية السوفيتية على أراضيها، وبهذا أصبحت أمريكا في مرمى النار. كان الهدف الأساسي لنشر السوفييت لمنظومة صواريخه النووية في كوبا للرد على نشر الولايات المتحدة لصواريخها في تركيا، والتي تهدد موسكو، بالإضافة لنشرها لصواريخ في إيطاليا تهدد الأراضي الروسية, لتنتهي أخطر أزمة هددت العالم بحرب نووية باتفاق أمريكي سوفيتي على سحب الصواريخ السوفيتية من كوبا مقابل سحب الصواريخ الأمريكية من تركيا ورفع الحصار البحري عن كوبا.
بعدها تابعت كوبا طريق البناء والتقدم، وسط ظروف سياسية واقتصادية صعبة، خفف الدعم السوفياتي، قبل الانهيار، من آثارها السلبية، ولكن لم يعطل تلك الآثار كلياً, ولم تكتفِ الثورة الكوبية، على رغم الصعوبات المشار إليها، بتحقيق الكثير من النجاحات على صعيد بناء جهاز عسكري قادر على الدفاع عن الثورة وعن الوطن، وبناء جهاز طبي يشهد له عالمياً، وجهاز تعليمي لا يقل كفاءة، وغيرها من الأجهزة الخدمية التي سمحت للشعب الكوبي بتوفير حاجاته في هذه المجالات كافة، وساهمت مرات عديدة في دعم شعوب أخرى، وتواصل نهجها الذي اختارته، بل توسع نشاطها فيه خارج حدودها متحدية جارتها المتغطرسة، فتقدم المساعدات الاقتصادية والخبرات لكثير من الدول، ولا تتردد في تقديم المعونة العسكرية مثلما فعلت في أنجولا
لقد ساهم المتطوعون الكوبيون في تقديم العون لعدد من حركات التحرير الوطني التي كانت تواجه تدخلات عدوانية، سواء من القوى الأطلسية مباشرة، أو من عملائها وأتباعها, ولم تكن مبادرات التضامن الأممي التي رافقت تاريخ الثورة الكوبية بعيدة عن العالم الحر, فقد تميزت السياسة الكوبية بنهج تضامني ثابت متعدد الأشكال مع نضال كل الشعوب, كان كل ذلك في مرحلة النهوض الثوري التقدمي الذي شمل العالم بأسره، ولكنه لم يتوقف بعد الانهيار السوفياتي على رغم ازدياد الصعوبات التي كانت تواجهها منذ انطلاقتها، فقد راهن الأميركيون وأتباعهم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، على إضعاف الدولة الكوبية وإنهاك ثورتها من خلال تشديد الحصار وزيادة الضغوط المختلفة عليها، ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل شديدة، فبدل تراجع وهج الثورة الكوبية ومواقعها، حصل العكس تماماً، حيث شهدت القارة الأميركية اللاتينية بأسرها، بفعل النموذج الكوبي، وبفعل تراكم التجارب الثورية لشعوبها، تصاعداً شديداً في العداء للامبريالية الأميركية وللأنظمة الخاضعة لها، وترجم هذا المشهد بسقوط عدد من الأنظمة العميلة، وانتصار قوى وطنية ديموقراطية ذات توجه إصلاحي واشتراكي، فإذا كان هذا الحصار قد فشل في ليّ ذراع الثورة الكوبية طوال تلك المدة، وقد كانت أقل رسوخاً، وأقل احتضاناً من محيطها الإقليمي والدولي، فإنه فشل اليوم في إرغامها على التراجع عن أهدافها وحقوقها المشروعة، فقد باتت محاطة بحلفاء أقوياء في أميركا اللاتينية وفي العالم, ناهيك عن صمود كوبا على عتبة الامبريالية الأميركية، وبقاء الثورة الكوبية ثابتة بتحديها في وجه الغطرسة الأمريكية ونهجها العدواني.. كانت كوبا جزيرة يقصدها المواطنون الأميركيون بكثرة، للسياحة وللاستثمار والتجارة، إلى حد أنها كانت توصف بالولاية الـ53 بعد الاتفاقية الشهيرة بين الولايات المتحدة الأميركية وإسبانيا في العام 1898، حيث تخلت إسبانيا عن سيادتها على الجزيرة لصالح النفوذ الأميركي, ومن حالة العداء إلى حالة الاستكانة، كسرت أسلاك العزلة, فبعد مفاوضات سرية جرت بين مسؤولي البلدين، أسفرت عن إطلاق سراح خمسة من السجناء الكوبيين في الولايات المتحدة الأميركية، مقابل تحرير الجاسوس الأميركي آلان غروس، المحكوم بالسجن 15 عاما من القضاء الكوبي, أعلنت الإدارة الأمريكية مع نهاية 2014 انتهاء القطيعة مع سلطات هافانا، ليسدل الستار عن فصول حقبة مليئة بالتوتر والصراع الذي وصل لحد التصادم العسكري مع كوبا الثورة، بالإضافة للكثير من مؤامرات الاغتيالات الأمريكية الفاشلة للقائد كاسترو.
صمود أسطوري امتد لـ6 عقود, لم تعد كوبا قاعدة محتملة أو مركز انطلاق لمهاجمة الولايات المتحدة, الكوبيون يكرهون الحصار، ولكنهم لا يشغلون أنفسهم كثيراً به، فقد رتبوا حياتهم على أساس أن الحصار حقيقة قائمة ومستمرة, فقد نشأت نشاطات اقتصادية عديدة في هذه الجزيرة الصغيرة بسبب الحصار, تبدع الشعوب عندما تتعرض للتحدي، وتتوفر لها القيادة التاريخية، وكوبا نموذج لشعوب العالم الثالث التي استطاعت الصمود ومن ثم النهوض بالرغم من كل الصعوبات.
لقد أثبت الشعب الكوبي أنه قادر على حماية ثورته والانتصار لها, فـ57 سنة ليست فترة طويلة في عمر الشعوب, فثورة كوبا لا تزال شابة تزداد كل يوم قوة ومنعة ورسوخاً، فمن استطاع الصمود نصف قرن في وجه جبروت الامبريالية الأميركية التي تبعد عنه بمسافة 140 كم، يستطيع الانتصار أكثر.
قبضة الشمشون
إذا كان من حق كوريا الشمالية أن تحتفل بشيء واحد فقط, فعليها أن تحتفل بمناسبة 6عقود زمنية على قيامها كدولة صمدت في وجه التحديات، فربما يكون هذا هو استمرارها طيلة كل تلك السنوات.
لقد تمكنت كوريا الشمالية طيلة عقود من أن تهزم كل مراهنات خصومها على سقوطها كنظام سياسي، بينما تهاوت أنظمة شيوعية أخرى أو تغيرت تحت وطأة التاريخ, ظلت كوريا الشمالية أكثر الدول الشيوعية مقاومة للتغيير
كانت كوريا تحت الاحتلال الياباني لمدة 35 عاما، انتهى احتلال امبراطورية أبناء آلهة الشمس في 2 سبتمبر 1945، بعد أن هزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية.
في أعقاب الاحتلال الياباني لكوريا قسمت شبه الجزيرة الكورية إلى قسمين على خط عرض 38 شمالاً وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة، بإدارة الاتحاد السوفيتي في الشمال والولايات المتحدة في الجنوب.
يبدأ تاريخ كوريا الشمالية المستقل بتأسيس الجمهورية الشعبية عام 1948، بعد خروج القوات السوفيتية منها. كانت هناك جهود لتوحيد الكوريتين من كلا الطرفين، إلا أن الرئيس الكوري الجنوبي إي سنغ مان الذي كان يعمل مع الجانب الأمريكي، قام بقمع كل تلك الجهود.
وبعد الاستقلال بفترة قصيرة بدأت الحرب الكورية التي امتدت من عام 1950 حتى عام 1953، نشأ هذا الصراع بمحاولة كلا البلدين ضم الطرف الآخر إلى حكومته، وأدى ذلك إلى اندلاع حرب واسعة النطاق كلفت الجانبين أكثر من مليونين من مدنيين وعسكريين.
في فترة ما قبل الحرب تصاعدت النزاعات الحدودية بين البلدين، وكانت هناك محاولات للتفاوض من أجل إجراء انتخابات حول توحيد شبه الجزيرة الكورية, انتهت هذه المفاوضات حين قامت كوريا الجنوبية، بمساعدة حلفائها، بالهجوم المضاد على جارتها الشمالية، في يناير 1950، وبعد أن حققت القوات الجنوبية تقدما سريعا في هجومها المضاد، تدخلت القوات الصينية لصالح حليفتها كوريا الشمالية، فتعادلت موازين القوتين في هذه الحرب.
كانت عدة عوامل أخرى لاعباً في الحدث, فقد كانت الحرب الكورية أول مواجهة مسلحة تصارعت فيها قوى الحرب الباردة. وأثرت هذه الحرب في عدة صراعات تالية, واستحدثت فكرة الحرب بالوكالة, كانت القوى العظمى في حينها تتجنب الانزلاق في حرب مباشرة شاملة بينهما، فضلا عن استخدام أسلحتهما النووية.
لقد وسعت الحرب الكورية نطاق الحرب الباردة كذلك, وحتى اليوم لا تزال الأيديولوجية المعادية للشيوعية ولكوريا الشمالية، حاضرة في الجنوب.
منذ تاريخ وقف إطلاق النار بعد الحرب الكورية عام 1953، وحتى اليوم، والعلاقات بين كوريا الشمالية من جهة، وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان من جهة ثانية، في توتر شديد وعدم تفاهم.
توقف القتال وتوقف إطلاق النار. لكن الكوريتين لا تزالان في حرب غير معلنة وغير رسمية, ففي أواخر 1990 بدأت الدولتان بالدخول علناً للمرة الأولى ضمن سياسة الشمس المشرقة على شبه الجزيرة..لكن ظلت درجة فتيل النار لعبة تمارس بشكل مستفز من قبل الأمريكان, حالة خطر مستدامة, هنا يذهب الكثير في تفسيرهم للخطر الناشب إلى أن استمرار الوجود العسكري الأمريكي في كوريا الجنوبية لم يضعف نصفها الواقع في الشمال, بل أدى إلى تقوية نظامها، كما أن الشعور باحتمال الغزو الأمريكي للشمال، أدى إلى وقوف الشعب الكوري وراء نظامه، طيلة الوقت يتذكر الكوريون الشماليون أن وجودهم مهدد من العالم الخارجي المعادي، فقد أعلنت الحكومة قائلة: (إذا تجرأ الأعداء وأشعلوا الحرب، فسنعاقب الغزاة بقسوة، وسنحرك كل قواتنا بسرعة البرق، ونحقق النصر النهائي في حربنا ضد الولايات المتحدة).
هذه هي كوريا الذي يصنف جيشها في المرتبة الرابعة في العالم من حيث العدد بمليون و106 آلاف جندي، صمود مستفز للآخر المتربص، ومنحى مغاير في البقاء العادل.. وليست على حد وصف رئيس الولايات المتحدة جورج بوش، عام 2002، بكونها جزءا من محور الشر.
بعد مرور شهر على إعلان كوريا الشمالية إجراءها أول تجربة ناجحة لقنبلة هيدروجينية، وإثارتها لقلق عالمي واسع، قامت القبضة الشمشونية بخطوة جديدة (استفزازية لدوائر أعدائها) بإطلاقها في 7 فبراير الجاري، صاروخا بعيد المدى، يُعتقد أنه غطاء لاختبار صاروخ باليستي عابر للقارات.
فقصة النظام الكوري الشمالي مع تجارب الصواريخ تعود إلى عقود ماضية، فقد بدأت بيونغ يانغ تطوير برنامجها الصاروخي في سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، انطلاقا من النسخة السوفياتية لصاروخ (سكود بي) الذي يبلغ مداه نحو 300 كيلومتر.
يواصل الزعيم الابن كيم جونغ أون مسيرة الزعيم الأب كيم جونغ إيل الذي رحل في 17 ديسمبر 2011، كما تستمر كوريا الشمالية في خطف الأنظار إليها من وقت إلى آخر بتجارب صواريخها، كمناسبة لتذكر العالم بهذه الجمهورية الشيوعية التي تعيش في عزلة وتركز هدفها لتصبح دولة (صامدة وقوية ومزدهرة) في وجه العالم المتربص شراً بها.
في وجه الشيطان
شكلت الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، واحداً من أبرز الأحداث في العالم، فهي قلبت الموازين بما لها من أهمية استراتيجية هائلة، وأفرزت الثورة وعياً عميقاً لدى شعوب العالم والمستضعفين في الأرض، ومهدت الأرضية لوقوع تغييرات سياسية جذرية، ولولادة حركات التحرر في العالم والمنطقة استمدت قوتها من فكر الإمام وثورته.
في الأول من فبراير عام 1979 وصل الخميني الى إيران قادماً من فرنسا، عاد الإمام إلى أرض الوطن بعد سنوات من النفي، فشهدت إيران أعظم استقبال في التاريخ لنصير المستضعفين وأملهم في الحياة.
تحمل الثورة الإسلامية بالمقارنة مع الثورات الأخرى التي وقعت في العالم، مجموعة من الخصائص والميزات التي تحتل في نظرية الثورات، مرتبة عليا في الظواهر السياسية والثورات الكبرى في العالم, فقد استطاعت أن تخطف الأضواء التي كانت مسلطة على الثورات الأخرى، كالثورة الروسية والثورة الفرنسية وغيرهما، وبدون أدنى شك فإن البعد الفكري والقيادي والشعبي في الثورة الإسلامية، أعطاها هذه القيمة والخصائص التي تميزت بها وما تزال. لكن الشيء الذي أذهل العدو والصديق هو أن الثورة وبنفس الإرادة التي استطاعت بها أن تسقط أعتى الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة والمدعومة بشكل مباشر من قبل الولايات المتحدة والغرب، تمكنت من القضاء على الفتن الداخلية التي كانت تسعى لتشويه صورة الثورة وإفشالها.
كل عام يحيي الإيرانيون وأحرار العالم ذكرى انتصار الثورة أو المعروفة بعشرة الفجر من 1 إلى 10 فبراير 1979، يوم انتصار الثورة الإسلامية في إيران، لتتواصل فصول الثورة والصمود في إيران، ولعل ما وصلت إليه اليوم من قوة عسكرية واقتصادية، وبات له دور ريادي في المنطقة والعالم، ما هو إلا تأكيد على أن الثورة حققت ولا زالت تحقق الأهداف والشعارات التي رفعت منذ 37 سنة مضت.. لعل مواقف بعض القوى الدولية والإقليمية تجاه إيران، منذ انتصار الثورة في العاشر من فبراير 1979 وحتى الآن، كانت وما زالت سلبية وعدوانية، وبعيدة كل البعد عن الإنصاف والموضوعية، فقد استخدمت الولايات المتحدة الأميركية وعدد من القوى الدولية والإقليمية كل الوسائل السياسية والاقتصادية والإعلامية والمخابراتية، لتحجيم إيران وإضعافها، ثم إسقاط وإفشال ثورتها، وقد كانت الكثير من تلك الوسائل رخيصة ومبتذلة، وبعيدة كل البعد عن القيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية السليمة، واستندت الى المنهج الميكيافيلي السيئ، الذي لا يقيم وزنا ولا اعتبارا إلا للمصالح الخاصة بصرف النظر عن النتائج والآثار السلبية المترتبة عليها. ولعل ما شهدته المنطقة خلال العقود الأربعة الأخيرة من مآسٍ وويلات، يكفي دليلا على ذلك.
لا يختلف اثنان في أن انتصار الثورة الإسلامية أفقد القوى الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأميركية، أحد أهم وأبرز حلفائها - أو قل أدواتها - في المنطقة، ألا وهو الشاه محمد رضا بهلوي، ما جعلها تجنّد وتعبئ كل إمكانياتها وطاقاتها لمحاربة الثورة الفتية وإفشالها وقتلها في المهد، لذلك لم يكن غريبا أن تتلقى الثورة بقياداتها ورموزها وجماهيرها، السهام من كل حدب وصوب.
ولعل شن الحرب عليها (1980-1988) من قبل نظام بغداد حينذاك، بتخطيط ودعم وتمويل وتوجيه من عدد كبير من القوى الدولية والإقليمية، مثل الخطوة الأولى في مسيرة العدوان والتآمر على الثورة الإسلامية الإيرانية.
شمرت أمريكا عن سواعدها لصب الزيت على النار المشتعلة بين الدولتين، وراهنت القوى المساهمة في إذكاء فتيل الحرب على أن أسابيع قلائل ستكون كافية لإسقاط النظام الجديد في إيران، وبالتالي إعادة الأمور الى ما كانت عليه قبل فبراير 1979، وبعد حين من الزمن اتضح أن تلك المراهنات خاسرة، فالحرب لم تنتهِ خلال أسابيع، وإيران التي تراجعت خلال المرحلة الأولى من الحرب، نجحت في استعادة زمام المبادرة، وشرعت بتحقيق انتصارات ميدانية مهمة جعلت خصومها وأعداءها في حالة تخبط.. وإلى جانب الحرب المفروضة، راحت القوى الغربية تعمل على إثارة الاضطرابات في الساحة السياسية والشارع الإيراني، من خلال التفجيرات وعمليات الاغتيال للرموز الدينية والسياسية والفكرية للثورة.
كما لاحت محاولات لإقحام وتوريط إيران بطريقة أو بأخرى في حرب يقودها حنق وحقد أمريكا وإسرائيل وقوى دولية وإقليمية أخرى عليها، حيث انطلقت مسيرة الضغوط والعقوبات الاقتصادية الأميركية ضد إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، بوقت قصير جدا، ففي ذلك العام أعلن الرئيس الأميركي جيمي كارتر، حالة طوارئ تقتضي تجميد كل الأصول الإيرانية في المصارف الأميركية، وفي 1992 اتخذت واشنطن خطوة أخرى في هذا السياق، حينما فرضت عقوبات على الأشخاص والشركات التي تساعد إيران في تطوير برامجها التسليحية، ثم أصدر الرئيس الأميركي بيل كلنتون، عام 1995، أوامر تنفيذية تمنع الشركات الأميركية من الاستثمار في قطاعي النفط والغاز الإيرانيين. وفي 2008 منعت واشنطن المصارف الأميركية من أن تكون وسيطاً في تحويل الأموال من وإلى إيران، وفي ما بعد، وتحديدا عام 2010، وضعت واشنطن قيوداً أخرى على إمدادات الوقود الإيراني، وفي 2012 جمدت أرصدة مؤسسات مالية أجنبية كانت لها علاقات تجارية مع البنك المركزي الإيراني.
الى جانب ذلك، فقد أصدر مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة في الفترة ما بين عامي 2006 و2010، ستة قرارات فرض بموجبها عقوبات اقتصادية أريد من ورائها محاصرة إيران اقتصاديا، ومنعها من مواصلة بناء برنامجها النووي السلمي.
أتاح مشروع إسقاط نظام صدام واحتلال الولايات المتحدة الأميركية للعراق في ربيع عام 2003، لواشنطن الاقتراب الى طهران من جهة الغرب، بعد أن اقتربت إليها من جهة الشرق حينما غزت أفغانستان في 2001، تحت ذريعة مواجهة نظام طالبان هناك.
وكانت واشنطن تأمل من خلال ذلك تطويق إيران ومحاصرتها من جانب، ومن جانب آخر اختراق منظوماتها الأمنية، وبالتالي إخلال الأمن فيها، ولعل ذلك كان أحد أبرز الأهداف من وراء فسح المجال للجماعات الإرهابية التكفيرية لكي تتواجد وتنشط في الساحة العراقية.
لكن ماذا حصل بعد كل هذه المعارك؟.. صمدت إيران أمام العالم، ونجحت ثورتها على امتداد ثلاثة عقود ونصف، في تجاوز الكثير من التحديات والتهديدات والمؤامرات التي أرادت إسقاطها، وهذا النجاح ما كان له أن يتحقق لولا حكمة القيادة الإيرانية وشجاعة وتضحية الشعب الإيراني بشتى فئاته وشرائحه الاجتماعية.
سوريا.. صمود أسطوري
لم يكن المشهد السوري برمته عادياً أبداً، ولم يذكر التاريخ أن حدث لدولة من الدول ما حدث لسورية، فسورية لم تعانِ من أزمة منفردة أو مزدوجة أو حتى أزمة جماعية، وإنما أزمة تاريخية كان لها بعض المسببات كالأطماع والخيانات الداخلية، والتربص والمؤامرات الخارجية، والتي نشأت وتطورت بسبب الضغوط والظروف الإقليمية المحيطة بها، والتي كان لها علاقة مباشرة بها. سورية منذ استقلالها لم تعش عاماً هانئاً واحداً، وكانت الدولة الأولى في المنطقة التي وقفت في مواجهة جميع المخططات والخطط التي أرادت الدول الراعية لها النيل من سورية، حتى عام 2011 ومع بداية ما يسمى الربيع العربي الذي امتد الى دول كثيرة في المنطقة، حتى وصل الى سورية، ومنذ 2011/03/15 وإعلان ما يسمى الثورة، دخلت سورية في مواجهات عنيفة للدفاع عن سيادتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، وبدأت المجموعات الإرهابية المسلحة تدخل سورية من كل حدب وصوب، هذا عدا عن الهجمة الإعلامية الشرسة ضد سورية وقيادتها، والحصار الاقتصادي، ومنع المساعدات عن الشعب السوري، ومحاولات إسقاط الليرة السورية، والتضييق والخناق في كل مناحي الحياة من قبل الدول الراعية لما يسمى الثورة، دخلت سورية في كتلة هائلة من الأزمات التي لا يمكن أن تتحملها أية دولة في العالم، وعلى مدى خمس سنوات متتالية من الاستنزاف في مختلف مجالات الحياة، ومع ذلك صمدت سورية حتى اللحظة، واستطاعت أن تعيد البوصلة العالمية الى الوجهة الصحيحة بدعم الحلفاء وصمود الشعب وقوة الجيش الى حد كبير.
سنعود بالتاريخ بضعة عقود في محاولة لتقريب صورة ما يجري في الحاضر، سنستعيد أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا عام ١٩٦٢، والتي هددت بالتحول من الحرب الباردة الى حرب عالمية ثالثة.. جاء فشل الولايات المتحدة في يوليو الماضي، بدعم جهود جماعة سورية تعرف باسم (الفرقة 30)، كحلقة ضمن سلسلة الفشل التي تذكرنا، إلى حد ما، بالفشل الذي مني به الجيش الأميركي عبر (الفرقة 2506) في خليج الخنازير عام 1961.
يمكن استخلاص بعض الدروس الواضحة من الفشل الكارثي لـ(الفرقة 30)، بعدم استعداد هؤلاء المرتزقة لمهمتهم بالشكل الكافي، ونقص المعلومات الاستخباراتية الكافية عن الأعداء المحتملين داخل سوريا، واعتماد الولايات المتحدة بشكل زائد على تركيا، ونقص الخطط الواضحة حول كيفية الرد الأميركي في حال تعرض المتمردون لهجوم، وأخيرًا تأخر الولايات المتحدة في إرسال الدعم الجوي.. تعتبر (الفرقة 30) أول دفعة تم تدريبها بمقتضى خطة (التدريب والتسليح) الأميركية، بميزانية بلغت 500 مليون دولار، والتي اعتمدها الكونغرس عام 2013. وتعتبر الخطة برنامجًا معلنًا تديره قوات (العمليات الخاصة) بالجيش الأميركي، وهو برنامج مستقل عن برنامج آخر تديره وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ويهدف إلى تدريب أكثر من 5000 مقاتل سنويا.
رحب بالفكرة كثير من حلفاء الحرب على سوريا، فمن خلال إيجاد منطقة آمنة في شمال سوريا، بمقدورها تسهيل وصول الإمدادات الحربية للإرهابيين..
اتضح أن (الفرقة 30) وقعت في الفخ بمجرد وصول الفريق المكون من 54 مقاتلاً، والذين تلقوا تدريباتهم في الولايات المتحدة، ودخلوا سوريا في 12 يوليو الماضي للانضمام إلى زملائهم في منطقة عزاز، جنوب بلدة كيليس الحدودية التركية. حضر عناصر من جبهة النصرة المتطرفة، إحدى أذرع تنظيم القاعدة في سوريا، بالقرب من تلك المنطقة، ولم تتوقع قوات الكوماندوز القريبة هجومًا من جبهة النصرة كحليف في المعركة, غير أن توقعهم خاب، إذ قام متطرفو النصرة (عملاء للولايات المتحدة)، باختطاف سبعة مقاتلين من (الفرقة 30) في 29 يوليو، وهاجمت مقراته في 31 يوليو، وبعدها بأيام قليلة اختطفت خمسة مقاتلين آخرين على الأقل، وشنت الولايات المتحدة غارات جوية لم تسفر عن أي شيء.
أظهرت أزمة (الفرقة 30) المشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة وتركيا, فقد شملت (الفرقة 30) مجموعة من المعارضين السوريين التركمان تم تجنيدهم من منطقة شمال حلب. وكانت الولايات المتحدة فضلت خطة لإشراك مقاتلين أكراد وغيرهم من السنة القريبين من مدينة الرقة، التي اتخذها تنظيم داعش عاصمة لدولته المزعومة، بيد أن الأتراك اعترضوا على القرار.
ربما تباهى المقاتلون في «الفرقة 30» بصلتهم بالولايات المتحدة، إذ عرض حساب للفرقة على موقع «تويتر» صورة للنسر الأصلع الأميركي محاطًا بألوان علم المقاتلين الإرهابيين.
بعد أكثر قليلا من نصف قرن، يكاد التاريخ يعيد نفسه، نسبياً، ولكن مع تغيرات جوهرية، تم إعادة النظر بقواعد الاشتباك الميدانية والسياسية لتواكب تطورات في الخارطة السياسية الدولية التي باتت أكثر تعقيداً، ورغم عبرة التاريخ ودلالته، وموجات النزوح والهجرة لإفراغ سوريا من تكويناتها السكانية، تخوض سورية مواجهة كبيرة تتمثل في التصدي للحصار الاقتصادي المفروض عليها منذ أكثر من خمس سنوات، حيث تسعى للاستمرار بتسيير عجلة الاقتصاد وتأمين الموارد الماليّة وإيصال الخدمات للمواطنين.
إنها الحضارة تتجذر من جديد، وكمثال تزيده التجارب بريقاً ولمعاناً، وكنموذج فريد في احترام التنوع والتعايش. وقفت سوريا اليوم بعد أن اجتازت امتحانها الصعب، تنتظر بثقة الصابرين خلاصها القريب.
لقد اقتربت اللحظة التي ستتحول فيها الانتصارات التكتيكية المتراكمة التي يحققها الجيش العربي السوري في وجه تلك التنظيمات الإرهابية على الأرض، إلى انتصار استراتيجي، يليه انهيار شامل للحالة الإرهابية في سورية بمختلف تسمياتها, بعد أن أطاحت ضربات المقاتلات والصواريخ الجوالة الروسية بكل الخطوط الحمراء التي حاول داعمو الإرهاب في سورية أن يرسموها في وجهها، سواء من ناحية التمييز بين التنظيمات المسلحة بمسمياتها المختلفة والمتعددة، أو من ناحية التمييز بين المناطق الجغرافية التي تمارس تلك التنظيمات فيها توحشها وتجاربها الظلامية في الحكم والتسلط والإرهاب.
صمود لا نظير له، بعد سنوات من الحرب التي فرضتها أمريكا والغرب والرجعية العربية والصهيونية، على الشعب السوري، تحت عنوان نصرة (الثورة السورية)، عبر تجنيدها مئات الآلاف من التكفيريين من مختلف أنحاء العالم، وتسليحهم ومدهم بالمال، وإرسالهم عبر تركيا والأردن الى سورية ليعيثوا فيها فسادا ودمارا.
خمسة أعوام من الصمود هزّت العالم. صمود أسطوريّ أدى إلى تغيير جذريّ في مسار الحرب شبه الكونية على سورية، وتحقيق سورية إنجازات ديبلوماسية وعسكرية مميّزة، ويعود ذلك إلى صلابة مواقف القيادة السورية، وإيمانها بأنها تقاتل لأجل قضية محقّة تساوي الوجود، وتعني كل سوري مؤمن بأمّته وحقّها في الحياة.
المصدر صحيفة لا / طلال سفيان