في إب..عاصمتان لليمن الموحد
- تم النشر بواسطة عبدالحليم الصلاحي/ لا
إب جغرافيا مفعمة بالدهشة وطبيعة باذخة الجمال، عندما تستدل على معنى اسمها (إب) في معاجم اللغة ستجده يدل على المكان الكثير المرعى والمكسو بالنباتات والحشائش التي تنمو اعتماداً على المطر، فجاءت التسمية مرادفاً للغنى الزراعي ووفرة الأمطار في تضاريس إب الطبيعية المتوزعة بين مرتفعات جبلية شاهقة دائمة الخضرة في الشمال الغربي والجنوب الغربي، وسهول منبسطة شديدة الخصوبة في الشمال والشمال الشرقي، وأودية عميقة تجري فيها المياه طوال العام، لتشكل مجتمعة جغرافيا مغرية، ولكنها أيضاً شديدة الوعورة لا تعطي دون أن تأخذ، ولا تمنح دون جهد بشري يعمل على تطويع عناصر ثرائها لخدمة الإنسان.
تآزر حنو الطبيعة وثراؤها مع شروط المناخ المعتدل خلال الفصول المختلفة، لتكون إب الى جانب مأرب والجوف وحضرموت وصنعاء وشبوة، أقدم المستقرات البشرية في جنوب شبه الجزيرة العربية، تسجل الدراسات الأثرية وجوداً بشرياً في المحافظة الخضراء يعود الى عصور ما قبل التاريخ، حيث عثر على الأدوات الحجرية التي استخدمها إنسان ذلك العصر في عدد من المواقع، وخاصة على ضفاف الأودية في وادي بنا وبعض مناطق العدين، على الرغم من أن تتبع أثر النشاط البشري للعصور القديمة في اليمن لم يكتشف منه سوى القليل حتى اللحظة.
بدايات يمانية
خلال الألف عام الأولى قبل ميلاد المسيح نمت حركة التبادل التجاري، وظهرت طرق التجارة كوسيلة اتصال بين التجمعات البشرية، وكان للتجمعات السكانية في جنوب غرب الجزيرة العربية دور محوري فيها سواء كمحطات تجارية أو مناطق لتصدير منتجات كاللبان والبخور، ومثل البحر الأحمر وباب المندب مفتاح هذا الدور، على وقع هذا التطور نشأت عدد من الممالك اليمنية القوية مثل سبأ وقتبان وحضرموت، وامتد نفوذ بعض تلك الممالك الى بعض المناطق في محافظة إب مثل منطقة العود التي تتبع مملكة قتبان، وهو ما جعلها تشهد ازدهاراً حضارياً تبعاً لازدهار تلك الممالك ونمو مواردها.
وفي القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد، ومع زوال الهيمنة اليمنية على البحر الأحمر، واحتدام الصراعات والحروب بين الممالك اليمنية المختلفة، زادت قوة الأقيال الإقطاعيين الذين عملوا على استبدال الحكم الاتحادي لمملكة سبأ وإضعاف دور السلطة المركزية لصالح تعزيز نفوذهم، وخاصة الأقيال الحميريين، ولكن أقيال القبائل الحميرية التي استوطنت ضفاف وادي بنا تمكنوا من لملمة شتات الفوضى الناجم عن ضعف مملكة سبأ، وكان العام 115 قبل الميلاد تاريخاً فاصلاً في تاريخ المنطقة الجغرافية المعروفة اليوم باسم محافظة إب واليمن عموماً، عندما ظهر الحميريون كقوة مهمة، وأسسوا مملكة سبأ وذي ريدان على يد شمر ذي ريدان، واتخذوا من ظفار يريم عاصمة لهم، ثم امتدت مملكتهم لتشمل مناطق أخرى في إب مثل يريم ومذيخرة وبعدان والشعر ووراف.
التاريخ يحط رحاله في إب
المراحل التاريخية التي كانت فيها اليمن كياناً موحداً انعكس توحدها على شكل استقرار اجتماعي وسياسي ودرجة عالية من الحمائية ضد أطماع الخارج، وقد ساقت الأقدار وحركة التاريخ الى محافظة إب شرف أن تكون اثنتان من مدنها عاصمة لليمن الموحد الجغرافيا والإنسان مرتين في التاريخ، فكانت ظفار الواقعة اليوم في مديرية السدة عاصمة للحميريين الذين وحدوا اليمنيين للمرة الأولى في التاريخ، وفي سياق تاريخي آخر كانت مدينة جبلة عاصمة للدولة الصليحية التي وحدت اليمن أيضاً في بنية وكيان سياسي واحد.
ظفار عاصمة الموحدين الأوائل
الملوك الحميريون الذين يعرفهم المؤرخون باسم (ملوك سبأ وذي ريدان)، سجلوا من عاصمتهم ظفار عدداً من الإنجازات الحضارية، منها جهودهم في أول توحيد لليمن في كيان سياسي، حيث عمل عدد من ملوكها بهذا الاتجاه، منهم شمر يهحمد ويأسر يهنعم وشمر يهرعش، الى أن تحقق هدف التوحيد بالفعل عام 275 بعد الميلاد، في عهد الملك شرحبيل بن يعفر أبو كرب أسعد المشهور باسم (أسعد الكامل)، ليكون بعدها لقب الملوك الحميريين (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم طودا وتهامة)، ليمتد حكم الحميريين قرابة 600 عام من 115 قبل الميلاد حتى 527 بعد الميلاد.
ازدهرت ظفار كعاصمة للدولة اليمنية الموحدة، فشهدت نمواً عمرانياً وإنشائياً شمل بحسب الدراسات الأثرية والنقوش والسدود وقنوات الري والأسواق والقصور كقصر ذي ريدان وشوحطان وكوكبان ومعبد قصر ريدان وأسواراً محيطة بالمدينة ببوابات متعددة، إضافة الى الحصون كحصن العرافة وحصن (اليهودية)، وأيضاً العديد من المقابر الملكية ومآثر إنشائية أخرى بقيت جزئياً في مناطق أخرى من المحافظة مثل منطقة وراف الواقعة حالياً في مديرية جبلة.
كثير من تلك المعالم أتى عليها الدهر بفعل تقادم الزمن، ولم يبق منها سوى أجزاء متداعية في أنحاء المنطقة الواقعة في مديرية السدة من محافظة إب، ولكن جوف الأرض ما زال يموج بأوابد وشواهد دولة عظيمة، وبين الحين والآخر تصل فرق الآثار اليمنية أو الأجنبية الى اكتشافات أثرية جديدة مثل اكتشاف معامل خاصة لصناعة التماثيل عام 2006 في حصن العرافة، واكتشاف أجزاء من (معبد قصر ريدان) عام 2007، إضافة الى آلاف القطع الأثرية التي تحرز من قبل الهيئة العامة للآثار أو توجد في المتاحف اليمنية والعالمية قادمة من ظفار، فضلاً عما يعثر عليه بعض السكان المحليين بين فترة وأخرى أثناء أعمالهم اليومية في الزراعة أو البناء.
جبلة وأروى اسمان لا يفترقان
الدولة الصليحية التي تأسست عام 429هـ/1037م، وامتد حكمها حتى العام 492هـ/1098م، كانت أيضاً إحدى الدول أو الممالك اليمنية التي استطاعت توحيد اليمن في كيان سياسي واحد. الصليحيون الذين أسسوا دولتهم بعد سقوط دولة بني زياد، في فترة اتسمت بصراعاتها الشديدة بين عدد من الدويلات اليمنية التي كانت كل واحدة منها تبسط نفوذها على جزء من الجغرافيا اليمنية بحدودها الحالية، وبعضها كانت تمتد سلطتها شمالاً خارج الجغرافيا المعروفة اليوم بكونها جزءاً من الأراضي اليمنية، وقد استطاع ملوك بني صليح التغلب على خصومهم السياسيين في الدويلات اليمنية الأخرى، ووحدوها جميعاً تحت سلطتهم، وامتد نفوذهم شمالاً حتى وصل مدينة مكة.
مرة أخرى كان التاريخ على موعد مع إب عام 458هـ/1066م، عندما اختط الأمير عبدالله بن أحمد الصليحي مدينة جبلة، وهي حالياً مركز مديرية جبلة في محافظة إب، فكانت هذه المدينة عاصمة لليمن الموحد عندما جعلها الملك المكرم أحمد بن علي الصليحي عاصمة لدولته، لتنتقل زوجته السيدة أروى بنت أحمد الصليحي، والمعروفة باسم (الملكة أروى)، بعد تفويض زوجها لها بإدارة شؤون الدولة، الى (دار العز) الذي شيد بأمر المكرم في مدينة جبلة.
مآثر صليحية
استطاعت السيدة أروى أن تكون اسماً فارقاً في التاريخ اليمني بطريقة حكمها وإدارتها للدولة، حيث أولت اهتماماً بالغاً للعلم وطلابه وللأنشطة الإنتاجية كالزراعة والرعي، وشهدت جبلة خلال عهدها توسعاً عمرانياً، وصارت مركزاً نشطاً للعلم، وأوقفت مساحات واسعة من الأرض للرعي وللمدارس وطلاب العلم في إب.
دار العز وتسمى أيضاً دار السلطنة، أرساها وشيدها الملك المكرم، وكانت مقراً للحكم وإدارة الدولة، وهي الآن عدة بنايات ومساجد، وإحدى بناياتها تحمل اسم دار العز، وتتكون من 5 طوابق مبنية من الحجارة المهندمة.
الجامع الكبير الذي تم بناؤه بأمر السيدة أروى، هو أيضاً أحد شواهد النمو والتطور العمراني الذي شهدته المدينة بفضل اتخاذها عاصمة للدولة، وقد بني على الطراز الهندسي والمعماري الإسلامي، ويضم ضريح السيدة أروى الذي أمرت ببنائه في الجامع، وأوصت بدفنها فيه، ويكسو الضريح نقش آيات قرآنية مكتوبة بخط النسخ والخط الكوفي، وزخارف نباتية مختلفة مشابهة لنمط الزخارف السائدة في العهد الفاطمي.
جبلة المدينة ومحيطها فيها عدد من السواقي وأنظمة الري العتيقة التي يعود معظمها الى عهد السيدة، وتعبر تصميماتها ومرورها بمناطق ذات ارتفاعات مختلفة عن إبداع هندسي بالنظر الى مستوى الإمكانات العلمية والهندسية لذلك العصر، والأدوات التي كانت متاحة أيام إنشائها.
شيد الصليحيون كذلك في مديرية جبلة حصن التعكر العسكري الذي مثل القبضة القوية للملكة والدولة للسيطرة على الجوار المحيط بجبلة وحمايتها كعاصمة، بالإضافة الى حماية الطرق التجارية المرتبطة بموانئ الساحل الغربي والجنوبي، ولم يبق من الحصن اليوم سوى أجزاء من السور تتخللها أبراج الحراسة، جميعها مبنية من البازلت، إضافة الى عدد من مدافن الحبوب والمؤن الغذائية التي نحتت في الصخر أسفل القلعة.
حماية ذاكرتنا التاريخية
في متحف ظفار الوطني الموجود في مديرية السدة يوجد 3000 قطعة أثرية معروضة و5000 قطعة أخرى تحتاج للترميم موجودة في مخازنه، وجمعت هذه القطع من خلال فرق الآثار أو من خلال إهداء السكان المحليين، وهي لا تمثل سوى جزء صغير من المخزون الأثري الموجود في المنطقة قياساً الى عمر الدولة الحميرية وامتدادها الجغرافي، ولم يتم استخراجها بالنظر للصعوبات الفنية والمهارية وغياب استراتيجية تنقيب أثرية تتكامل فيها جهود المؤسسات البحثية كالجامعات والهيئات الحكومية المعنية.
الحفر العشوائي من قبل سكان محليين أو لصوص الآثار لعب دوراً في اختطاف الذاكرة التاريخية للمنطقة واليمن عموماً، حيث إن الآثار هي المادة الخام التي يستحثها الباحثون والدارسون والمؤرخون لمعرفة الطريقة التي عاش بها البشر في عصور بائدة، لتغدو الآثار كتاباً مفتوحاً تطل صفحاته على ملامح وتفاصيل حياة أجيال اليمنيين الأوائل وتجربتهم السياسية والاقتصادية، وسرقة الآثار أو تهريبها لا يعدو كونه اقتطاع صفحة من كتاب يؤرخ لأمة بكاملها.
يمكن لزائر المنطقة أن يرى بوضوح آثار الحفر العشوائي هنا أو هناك، ومنها حادثة أو جريمة النهب التي حدثت عام 2008 عندما نهبت مقبرة ملكية تم التنقيب عنها من قبل فريق تابع للهيئة العامة للآثار، وكذلك جريمة سرقة متحف العود الوطني في 2006، التي أتت على أكثر من 40 قطعة أثرية، في العام 2011 بالتزامن مع الأزمة التي شهدتها البلاد، تزايدت وتيرة الحفر العشوائي من قبل بعض السكان الذين يعتبرون أية لقية أثرية يجدونها في أراضيهم ملكاً خاصاً أو كنزاً ذهبياً يباع بثمن بخس للصوص الآثار أو لتجار الذهب.
تشديد الإجراءات الأمنية حول المواقع الأثرية، وتضمين مكافحة وملاحقة مهربي الآثار في الإجراءات الأمنية في المنافذ والموانئ والخطوط الرئيسية بين المحافظات، يزداد أهمية في الفترة الحالية، حيث تتعرض اليمن لأعنف وأسوأ عدوان خارجي في تاريخها، ويجدها اللصوص وعصابات نهب ذاكرة الشعوب فرصة للإيغال في سرقة الآثار أو تخريبها وتشويهها، فالغزو الأمريكي للعراق تزامن مع إفراغ أرض الرافدين من تاريخها، حيث سرقت أكثر من 400 ألف قطعة أثرية، وهربت الى الخارج في تجربة تستقى دروسها في أي بلد يتعرض لظروف مشابهة.
تآزر حنو الطبيعة وثراؤها مع شروط المناخ المعتدل خلال الفصول المختلفة، لتكون إب الى جانب مأرب والجوف وحضرموت وصنعاء وشبوة، أقدم المستقرات البشرية في جنوب شبه الجزيرة العربية، تسجل الدراسات الأثرية وجوداً بشرياً في المحافظة الخضراء يعود الى عصور ما قبل التاريخ، حيث عثر على الأدوات الحجرية التي استخدمها إنسان ذلك العصر في عدد من المواقع، وخاصة على ضفاف الأودية في وادي بنا وبعض مناطق العدين، على الرغم من أن تتبع أثر النشاط البشري للعصور القديمة في اليمن لم يكتشف منه سوى القليل حتى اللحظة.
بدايات يمانية
خلال الألف عام الأولى قبل ميلاد المسيح نمت حركة التبادل التجاري، وظهرت طرق التجارة كوسيلة اتصال بين التجمعات البشرية، وكان للتجمعات السكانية في جنوب غرب الجزيرة العربية دور محوري فيها سواء كمحطات تجارية أو مناطق لتصدير منتجات كاللبان والبخور، ومثل البحر الأحمر وباب المندب مفتاح هذا الدور، على وقع هذا التطور نشأت عدد من الممالك اليمنية القوية مثل سبأ وقتبان وحضرموت، وامتد نفوذ بعض تلك الممالك الى بعض المناطق في محافظة إب مثل منطقة العود التي تتبع مملكة قتبان، وهو ما جعلها تشهد ازدهاراً حضارياً تبعاً لازدهار تلك الممالك ونمو مواردها.
وفي القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد، ومع زوال الهيمنة اليمنية على البحر الأحمر، واحتدام الصراعات والحروب بين الممالك اليمنية المختلفة، زادت قوة الأقيال الإقطاعيين الذين عملوا على استبدال الحكم الاتحادي لمملكة سبأ وإضعاف دور السلطة المركزية لصالح تعزيز نفوذهم، وخاصة الأقيال الحميريين، ولكن أقيال القبائل الحميرية التي استوطنت ضفاف وادي بنا تمكنوا من لملمة شتات الفوضى الناجم عن ضعف مملكة سبأ، وكان العام 115 قبل الميلاد تاريخاً فاصلاً في تاريخ المنطقة الجغرافية المعروفة اليوم باسم محافظة إب واليمن عموماً، عندما ظهر الحميريون كقوة مهمة، وأسسوا مملكة سبأ وذي ريدان على يد شمر ذي ريدان، واتخذوا من ظفار يريم عاصمة لهم، ثم امتدت مملكتهم لتشمل مناطق أخرى في إب مثل يريم ومذيخرة وبعدان والشعر ووراف.
التاريخ يحط رحاله في إب
المراحل التاريخية التي كانت فيها اليمن كياناً موحداً انعكس توحدها على شكل استقرار اجتماعي وسياسي ودرجة عالية من الحمائية ضد أطماع الخارج، وقد ساقت الأقدار وحركة التاريخ الى محافظة إب شرف أن تكون اثنتان من مدنها عاصمة لليمن الموحد الجغرافيا والإنسان مرتين في التاريخ، فكانت ظفار الواقعة اليوم في مديرية السدة عاصمة للحميريين الذين وحدوا اليمنيين للمرة الأولى في التاريخ، وفي سياق تاريخي آخر كانت مدينة جبلة عاصمة للدولة الصليحية التي وحدت اليمن أيضاً في بنية وكيان سياسي واحد.
ظفار عاصمة الموحدين الأوائل
الملوك الحميريون الذين يعرفهم المؤرخون باسم (ملوك سبأ وذي ريدان)، سجلوا من عاصمتهم ظفار عدداً من الإنجازات الحضارية، منها جهودهم في أول توحيد لليمن في كيان سياسي، حيث عمل عدد من ملوكها بهذا الاتجاه، منهم شمر يهحمد ويأسر يهنعم وشمر يهرعش، الى أن تحقق هدف التوحيد بالفعل عام 275 بعد الميلاد، في عهد الملك شرحبيل بن يعفر أبو كرب أسعد المشهور باسم (أسعد الكامل)، ليكون بعدها لقب الملوك الحميريين (ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم طودا وتهامة)، ليمتد حكم الحميريين قرابة 600 عام من 115 قبل الميلاد حتى 527 بعد الميلاد.
ازدهرت ظفار كعاصمة للدولة اليمنية الموحدة، فشهدت نمواً عمرانياً وإنشائياً شمل بحسب الدراسات الأثرية والنقوش والسدود وقنوات الري والأسواق والقصور كقصر ذي ريدان وشوحطان وكوكبان ومعبد قصر ريدان وأسواراً محيطة بالمدينة ببوابات متعددة، إضافة الى الحصون كحصن العرافة وحصن (اليهودية)، وأيضاً العديد من المقابر الملكية ومآثر إنشائية أخرى بقيت جزئياً في مناطق أخرى من المحافظة مثل منطقة وراف الواقعة حالياً في مديرية جبلة.
كثير من تلك المعالم أتى عليها الدهر بفعل تقادم الزمن، ولم يبق منها سوى أجزاء متداعية في أنحاء المنطقة الواقعة في مديرية السدة من محافظة إب، ولكن جوف الأرض ما زال يموج بأوابد وشواهد دولة عظيمة، وبين الحين والآخر تصل فرق الآثار اليمنية أو الأجنبية الى اكتشافات أثرية جديدة مثل اكتشاف معامل خاصة لصناعة التماثيل عام 2006 في حصن العرافة، واكتشاف أجزاء من (معبد قصر ريدان) عام 2007، إضافة الى آلاف القطع الأثرية التي تحرز من قبل الهيئة العامة للآثار أو توجد في المتاحف اليمنية والعالمية قادمة من ظفار، فضلاً عما يعثر عليه بعض السكان المحليين بين فترة وأخرى أثناء أعمالهم اليومية في الزراعة أو البناء.
جبلة وأروى اسمان لا يفترقان
الدولة الصليحية التي تأسست عام 429هـ/1037م، وامتد حكمها حتى العام 492هـ/1098م، كانت أيضاً إحدى الدول أو الممالك اليمنية التي استطاعت توحيد اليمن في كيان سياسي واحد. الصليحيون الذين أسسوا دولتهم بعد سقوط دولة بني زياد، في فترة اتسمت بصراعاتها الشديدة بين عدد من الدويلات اليمنية التي كانت كل واحدة منها تبسط نفوذها على جزء من الجغرافيا اليمنية بحدودها الحالية، وبعضها كانت تمتد سلطتها شمالاً خارج الجغرافيا المعروفة اليوم بكونها جزءاً من الأراضي اليمنية، وقد استطاع ملوك بني صليح التغلب على خصومهم السياسيين في الدويلات اليمنية الأخرى، ووحدوها جميعاً تحت سلطتهم، وامتد نفوذهم شمالاً حتى وصل مدينة مكة.
مرة أخرى كان التاريخ على موعد مع إب عام 458هـ/1066م، عندما اختط الأمير عبدالله بن أحمد الصليحي مدينة جبلة، وهي حالياً مركز مديرية جبلة في محافظة إب، فكانت هذه المدينة عاصمة لليمن الموحد عندما جعلها الملك المكرم أحمد بن علي الصليحي عاصمة لدولته، لتنتقل زوجته السيدة أروى بنت أحمد الصليحي، والمعروفة باسم (الملكة أروى)، بعد تفويض زوجها لها بإدارة شؤون الدولة، الى (دار العز) الذي شيد بأمر المكرم في مدينة جبلة.
مآثر صليحية
استطاعت السيدة أروى أن تكون اسماً فارقاً في التاريخ اليمني بطريقة حكمها وإدارتها للدولة، حيث أولت اهتماماً بالغاً للعلم وطلابه وللأنشطة الإنتاجية كالزراعة والرعي، وشهدت جبلة خلال عهدها توسعاً عمرانياً، وصارت مركزاً نشطاً للعلم، وأوقفت مساحات واسعة من الأرض للرعي وللمدارس وطلاب العلم في إب.
دار العز وتسمى أيضاً دار السلطنة، أرساها وشيدها الملك المكرم، وكانت مقراً للحكم وإدارة الدولة، وهي الآن عدة بنايات ومساجد، وإحدى بناياتها تحمل اسم دار العز، وتتكون من 5 طوابق مبنية من الحجارة المهندمة.
الجامع الكبير الذي تم بناؤه بأمر السيدة أروى، هو أيضاً أحد شواهد النمو والتطور العمراني الذي شهدته المدينة بفضل اتخاذها عاصمة للدولة، وقد بني على الطراز الهندسي والمعماري الإسلامي، ويضم ضريح السيدة أروى الذي أمرت ببنائه في الجامع، وأوصت بدفنها فيه، ويكسو الضريح نقش آيات قرآنية مكتوبة بخط النسخ والخط الكوفي، وزخارف نباتية مختلفة مشابهة لنمط الزخارف السائدة في العهد الفاطمي.
جبلة المدينة ومحيطها فيها عدد من السواقي وأنظمة الري العتيقة التي يعود معظمها الى عهد السيدة، وتعبر تصميماتها ومرورها بمناطق ذات ارتفاعات مختلفة عن إبداع هندسي بالنظر الى مستوى الإمكانات العلمية والهندسية لذلك العصر، والأدوات التي كانت متاحة أيام إنشائها.
شيد الصليحيون كذلك في مديرية جبلة حصن التعكر العسكري الذي مثل القبضة القوية للملكة والدولة للسيطرة على الجوار المحيط بجبلة وحمايتها كعاصمة، بالإضافة الى حماية الطرق التجارية المرتبطة بموانئ الساحل الغربي والجنوبي، ولم يبق من الحصن اليوم سوى أجزاء من السور تتخللها أبراج الحراسة، جميعها مبنية من البازلت، إضافة الى عدد من مدافن الحبوب والمؤن الغذائية التي نحتت في الصخر أسفل القلعة.
حماية ذاكرتنا التاريخية
في متحف ظفار الوطني الموجود في مديرية السدة يوجد 3000 قطعة أثرية معروضة و5000 قطعة أخرى تحتاج للترميم موجودة في مخازنه، وجمعت هذه القطع من خلال فرق الآثار أو من خلال إهداء السكان المحليين، وهي لا تمثل سوى جزء صغير من المخزون الأثري الموجود في المنطقة قياساً الى عمر الدولة الحميرية وامتدادها الجغرافي، ولم يتم استخراجها بالنظر للصعوبات الفنية والمهارية وغياب استراتيجية تنقيب أثرية تتكامل فيها جهود المؤسسات البحثية كالجامعات والهيئات الحكومية المعنية.
الحفر العشوائي من قبل سكان محليين أو لصوص الآثار لعب دوراً في اختطاف الذاكرة التاريخية للمنطقة واليمن عموماً، حيث إن الآثار هي المادة الخام التي يستحثها الباحثون والدارسون والمؤرخون لمعرفة الطريقة التي عاش بها البشر في عصور بائدة، لتغدو الآثار كتاباً مفتوحاً تطل صفحاته على ملامح وتفاصيل حياة أجيال اليمنيين الأوائل وتجربتهم السياسية والاقتصادية، وسرقة الآثار أو تهريبها لا يعدو كونه اقتطاع صفحة من كتاب يؤرخ لأمة بكاملها.
يمكن لزائر المنطقة أن يرى بوضوح آثار الحفر العشوائي هنا أو هناك، ومنها حادثة أو جريمة النهب التي حدثت عام 2008 عندما نهبت مقبرة ملكية تم التنقيب عنها من قبل فريق تابع للهيئة العامة للآثار، وكذلك جريمة سرقة متحف العود الوطني في 2006، التي أتت على أكثر من 40 قطعة أثرية، في العام 2011 بالتزامن مع الأزمة التي شهدتها البلاد، تزايدت وتيرة الحفر العشوائي من قبل بعض السكان الذين يعتبرون أية لقية أثرية يجدونها في أراضيهم ملكاً خاصاً أو كنزاً ذهبياً يباع بثمن بخس للصوص الآثار أو لتجار الذهب.
تشديد الإجراءات الأمنية حول المواقع الأثرية، وتضمين مكافحة وملاحقة مهربي الآثار في الإجراءات الأمنية في المنافذ والموانئ والخطوط الرئيسية بين المحافظات، يزداد أهمية في الفترة الحالية، حيث تتعرض اليمن لأعنف وأسوأ عدوان خارجي في تاريخها، ويجدها اللصوص وعصابات نهب ذاكرة الشعوب فرصة للإيغال في سرقة الآثار أو تخريبها وتشويهها، فالغزو الأمريكي للعراق تزامن مع إفراغ أرض الرافدين من تاريخها، حيث سرقت أكثر من 400 ألف قطعة أثرية، وهربت الى الخارج في تجربة تستقى دروسها في أي بلد يتعرض لظروف مشابهة.
المصدر عبدالحليم الصلاحي/ لا