عندما طَفِق اليساري والقومي يخصفان عليهما من ورق البترودولار
عاصفة العدوان تطيح بالأقنعة وأوراق التوت المحلية
رُبما كُنا بحاجة لصدمةٍ كهذا العدوان -السعودي الأمريكي- ليتميز الخبيث من الطيب، وتتم عملية التمحيص الاجتماعي، التي تأتي كضرورة لتخرج كل التناقضات المواربة كقيح اجتماعي لا يتعافى منهُ البلد إلا بنزيف يُطهر ما فسدَ منه. هَزةٌ كهذهِ أسقطت كُل الأقنعة والملامح المُستعارة، ولم تبق إلا الملامح الحقيقية في وجوهِ أصحابها؛ لأن مرحلة الخوض مع الخائضين وثورية الزحمة ووطنية الشعار واللافتة، انتهت.. الوطنية والثورية اليوم ليستا ادعاءً، بل مُمارسة المقاومة وموقف يدفع صاحبه الكلفة الأغلى، وهي الحياة، كُلفة الحُرية التي تحدث عنها أديب الثورة الفلسطينية غسان كنفاني.
في وقت قصير هو المحك تبدلت الكثير من المواقف الوطنية لأشخاص وأحزاب ومكونات ورموز وتيارات بعضها إلى النقيض التام، مما يطرحنا أمام سؤال: هل تغيرت مواقفهم؟ هل انقلبوا من الوطنية الى العمالة بقدرة (سلمان والعسيري)، أم أن مواقف كهذه ما هي إلا اتساقٌ مع تاريخهم اللا وطني المُستتر؟ وهل كانوا وطنيين أصلاً؟
لنأخذ عينة للدراسة، وهي نموذج مكتمل الأركان لتبدل المواقف من الوطنية الظاهرة الى العمالة الفاضحة.. شخصٌ كـ(ياسين سعيد نعمان) أمين عام سابق للحزب الاشتراكي- بدرجة دكتوراه وصورة مَهيبة مرموقة مرسومة في الذهن لرئيس مجلس النواب في دولة الوحدة، الذي غادر البلاد في 94 منفياً على ذمة قضية حرب ذلك الصيف، من ضمن المطلوبين لحكومة (صالح)، وعاد يزاول عملاً سياسياً في ظل نفس النظام، قبل أن تُحل القضية التي نُفي من أجلها، حضرتهُ برز كشخصية وطنية تحفهُ الأضواء وتحوم حوله الأحاديث، ورآه البعض زعيماً شعبياً عملاقاً ومخلصاً وطنياً، ينتهي به المطاف إلى قزم في البلاط السعودي منكسر الهامة كما بدا في الصورة وهوَ يحضر مؤتمراً عدوانياً على الوطن بجانب علي مُحسن والزنداني، الذي اتضح أنهُ زميلٌ لهم، يستلم من أموال اللجنة الاستخبارية الخاصة لأسرة سعود، رغم أن ياسين - وبئس المصير- اكتسب قيمتهُ كوطني وثوري لدى الشارع اليمني والنخبة المثقفة التقدمية، من تَمثله العداء لهؤلاء الأشخاص الذين حملوا المشروع النقيض: مشروع أعداء الشعب؛ فكيف باتَ هوَ النقيض؟ قريباً من علي محسن الأحمر وقاتل جار الله عمر، بعيداً عن (مقبل) علي صالح عباد، وعبد الفتاح إسماعيل، من اليسار إلى أقصى اليمين رجعيةً وتطرفاً، مِن تلبس صورة المُحرر إلى قواد للمستعمر!
تغيرات المواقف تبعاً لتغيرات المواقع
(وطنية اضطرارية حتى تسنح الفرصة للخيانة)
لدينا الكثير من الشخصيات التي تبدلت مواقفها لا يسعنا حصرها كشخوص، إنما تناولها كنماذج وذهنيات، والسؤال هوَ إلى أي مدى مضوا في الثورة الوطنية حتى نراهم انقلبوا عليها؟ فمواقف كهذه تمس القيمة الأعلى، القيمة الوطنية لا تتبدل حسب إرادة غيبية من خارج واقعه الاجتماعي التاريخي كأن يمسي الإنسان وطنياً ويُصبح عميلاً لأنهُ يسمع في المنام نداء ما يغير قناعاتهِ، إن في الأمر اتساقاً تاريخياً لموقف هذا الإنسان ومصالحه الشخصية المُباشرة في الغالب، أو تطلع هذا الشخص لهذهِ المصلحة الطُفيلية مستقبلاً، فيربطها ببقاء الهيمنة الاستعمارية، ويضطر إلى الدفاع، فشخص كـ(علي البخيتي) - مثلاً - كان في بداية العدوان يُهاجم من ذهبوا إلى الرياض، ويعتبرهم عملاء مجرمين و(عيالاً لسلمان)، حينها ظننا موقفه مبدئياً، واتضح أنهُ فقط يَحسدهم على ما يتدفق عليهم من مال العمالة، حتى لَحِقَ بهم، مثله سام الغُباري الكاتب بصحيفة (اليمن اليوم)، فرغم أن كتابه الذي يمتدح بهِ الرئيس السابق صالح مازال يُباع في الأسواق، إلا انهُ انقلب مع السعودية ويُهاجم أنصار الله وصالح، كافراً بالوطن، مؤمناً بأسرة سعود مردخاي، لأنهُ وجد فرصة أفضل في الالتحاق بركبهم، وغيرهم الكثير مِمَّن هُم مستعدون لتغيير مواقفهم، إنما لم يجدوا الفرصة لكي يلتحقوا بركب العدوان، لتتغير مواقعهم!
البرجوازية الصغيرة
(وطنيون ولكن)!
عادةً ما يتخذ المُترفون من طبقة (البرجوازية الصغيرة) مواقف وطنية وثورية، ويمضون مع الشعب كالذين مضوا مع ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر، ولكنها مع الثورة في القضاء على مراكز نفوذ معينة تراها تعيق مستقبل تقدمها الرأسمالي، فوطنية هؤلاء هي مثلاً أن يُزاح علي محسن وحميد الأحمر ليحلوا محلهم، فهم ليسوا مع تقدم الثورة وتوجهها للقضاء على كل أشكال الاستغلال والنفوذ والفساد والربح الطُفيلي، وهم مع هيبة الدولة وسيادتها على كل محافظاتها بما يقوي مركزهم المالي ويدخلهم على مناطق جديدة كانت مغلقة، تابعة لاحتكاريين معينين، ولكنهم في نفس الوقت ليسوا مع سيادة هذه الدولة في مواجهة السعودية أو الإمارات أو أمريكا، فهم يطمحون إلى أن يكبروا ويصبحوا وكلاء لهذه الشركات السعودية والأمريكية أو غيرها، فحين تأتي أحداث كهذهِ تعبر مواقفهم السياسية عن مصالحهم الطبقية السائدة، وعن تطلعاتهم الطبقية، ومستقبل تطورهم الرأسمالي الذي يتطور بشكل معادٍ للاقتصاد الوطني والشعب لتبعيته للاحتكارات العالمية. ومن هذه الأشكال نجد الكثير مِمَّن يُقيمون اليوم في منتجعات لبنان والقاهرة، كانوا ثوريين ووطنيين في لحظة معينة، ولكن ليس إلى حد مواجهة العدوان، فهو وكما يُحاولون تبرير مواقفهم (عنف ومأساة)، وهم أمام هذا العدوان يتشدقون بالسلام، ويدعون هذه الأطراف للتعقل!
الوعي الاجتماعي والموروث الثقافي السلبي
في حالاتٍ أُخرى تتبدل المواقف بتأثير مخلفات الوعي الرجعي السابق الذي يُهيج بالإشاعات المعادية والدعاية الإعلامية الطائفية والمناطقة المرافقة للضغط النفسي والاجتماعي في أوقات الأزمات، فتجد من قد قطع شوطاً في تجاوز الهويات المناطقة والمذهبية يعود إليها في ظروف مُعينة، ويؤثر على مواقفه، فيقع بين رفضه للعدوان وتأييده للجيش واللجان وتصديهم للعدوان على الحدود، وبين رفضه للجيش واللجان حينما يتصدون لأعداء الداخل في مدينته وقريته، وهذا الشعور العصبوي والقروي يؤثر عليه، ويقلب موقفه من الوطنية والأممية إلى المناطقية والمذهبية.
تحديات العولمة
(الكافرون بالشعب الكادح المؤمنون بالشُّقر والويسكي)
في قراءة مواقف مكونات كالحزب الاشتراكي مثلاً، فإن جزءاً من تغير مواقفه المعادية للرجعية الخليجية وللامبريالية الأمريكية - بجانب عوامل أخرى- يعود إلى الانكسارات والضعف الذي يحكم قياداته المترهلة التي شهدت مجزرة 86، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وحرب 94، هذه القيادات انكسرت وخنعت ولم تعد تؤمن بمواجهة الامبريالية العالمية والاستعمار، والدفاع عن سيادة الوطن وعن سُلطة الكادحين والمُستضعفين، وكما يرى الأمين العام الحالي عبد الرحمن عمر السقاف -المُطبع مع العولمة - فإن السيادة الوطنية أصبحت شيئاً من الماضي تجاوزه العصر، وأن الحديث عنها عبثي، فكيف بالدفاع عنها! وكثيرون من المثقفين العاجيين المؤمنين بالعولمة والليبرالية والمبهورين بالنموذج الأمريكي الأوروبي الذين يسخرون من مسحوقي وكادحي الشعب، يجدون في الحديث عن السيادة والدفاع عنها شيئاً هزلياً، سواء في مواجهة أسرة سعود أو الأمريكان أو غيرهم، فكل من له مركز مالي له حق استباحة الأوطان، وهذا تطور مريع للقانون الليبرالي (دعه يعمل دعه يمر). فلم يعد ينطبق على البرجوازية واستغلال العمال، إنما على الهيمنة وغزو البلدان، تقول لهُ العدوان الخارجي؛ فيقول في نفسهِ دعهُ يمر! وكذلك شريحة أُخرى من غير قيادات الأحزاب تتكون من الليبراليين والناشطين المدنيين ومُريدي منظمات المجتمع المدني، مِمَّن لا يؤمنون بالشعب وقدرته على تقرير مصيره، وعلى التغيير الثوري، كالقيادات الحزبية المترهلة وغير الثورية، المُسلِّمين بالهيمنة الأمريكية، وبأفضلية الاتحاد الأوروبي على أوطانهم، يجدون أنفسهم بحرج، فلا يدينون عدواناً تتجاهله أو تدعمه من هذه الدول وهذه المنظمات التي يتبعونها مالياً وسياسياً، ومع استمرار العدوان ينتقلون من الصمت إلى تأييد هذا العدوان بشكل علني.
إخضاع النُّخب..
نمط الحياة الاستهلاكي وأضواء (العالم المتمدن)
خلال السنين الخمس الماضية، وبوتيرة سريعة، نشط الملحق الثقافي للسفارة السعودية والمعهد الديمقراطي الأمريكي ومنطمة فريدريش إيبرت الألمانية -التي استهدفت اليساريين بشكل خاص- في أوساط الإعلاميين والكتاب والصحفيين والسياسيين والنشطاء الحزبيين، عزلتهم عن المجتمع إلى فضاء خراف من الندوات والمؤتمرات والجوائز، وعوَّدتهم على نمط حياة استهلاكي مُعين، هؤلاء يُصبحون مضطرين أن يخرجوا من دائرة الصمت؛ إما ليدافعوا عن مال ريع النفط الذي تصلهم فضلاته، فيدعي فلان الديمقراطية الليبرالية أو اليسارية، ويرى بالسعودية نموذجاً رجعياً ومتخلفاً، وتكون هذه قناعاته عن المملكة السعودية وبفضلاتها النفطية، ويظل مدافعاً عن فضلاتها، والشريحة الأُخرى يتخندقون بهذه المواقف اتساقا مع هذه المنظمات العملاقة الاوروبية والأمريكية، فلا يرونَ إلا ما ترى هذه المنظمات وحكومات هذه المنظمات التي تتجاهل هذا العدوان وهذه الجرائم.. كيف لا وقد صنعت هذه المنظمات شخصياتهم ولمعتها بالجوائز والمحافل، وربطت مصيرهم السياسي والمالي والنفسي بها..!
المصدر صحيفة لا / أنس القاضي