اليمن وأمريكا اللاتينية.. طلقتان في جبهةٍ واحدة
الثورة المسلحة بين (فارك) كولومبيا وحركة أنصار الله
حين تُعد الولايات المتحدة الأميركية استراتيجيتها في العالم على أساس المصالح الاستعمارية التي تؤمن لها وضعاً رأسمالياً متقدماً في ميادين الاقتصاد والسياسة يجعلها تتربع على عرش العولمة، فإن الاهتمام الأمريكي في جزء كبير منه ينصرف إلى وضع الخليج العربي واليمن، وإلى أمريكا اللاتينية، إذ تعتبر أمريكا أَن هذهِ البلدان حدائق خلفية لها، وإقطاعيات بدون حدود وطنية تؤمن لها الخامات الزراعية والصناعية والنفطية.
وهذه السياسة (الإمبريالية) للولايات المتحدة تعكس وضعاً اجتماعياً مُتشابها بين مجتمع أمريكا اللاتينية وبين المُجتمع اليمني؛ فليست قوى ثورة 21 سبتمبر وحركة (أنصار الله) و(المسيرة القرآنية( هي التي تناهض الهيمنة الأمريكية، ففي الجانب الآخر من نفس الجبهة تقف منظمات اليسار الثوري اللاتيني وفي الوضع الكولومبي تقف منظمة (الفارك) و(المسيرة الوطنية) في صدارة مناهضة الهيمنة الأمريكية، وما أشبه المُفقرين الكولومبيين بالمُفقرين اليمنيين، يمتشقون نفس البنادق في صراعهم مع السُّلطة المحيلة المؤمركة، فتصيب المركز الامبريالي، في سبيل التحرر الوطني.
فاشية وكلاء أمريكا، وتضحيات القوى الوطنية
في 26 يناير من العام 2014م، اقتحمت قوات الأمن الكولومبية مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكولومبي الذي ينشط رسمياً بالعلن، ويُعتبر رافعة سياسية لقوى ثورية تزاول العمل السري والكفاح المُسلح كالفارك وجيش التحرير الوطني. مثل هذه الحادثة وقعت في اليمن من نفس العام حين اقتحمت قوات الأمن الداخلي في حقبة قحطان، المكتب السياسي لأنصار الله في العاصمة صنعاء، الذي كان يمثل مقر مكون سياسي ينشط رسمياً في المسار السياسي المتمثل بالحوار الوطني. كلتا الحادثتين تثبتان الاستراتيجية الواحدة للولايات المتحدة الأمريكية والحكومات الموالية لها، إذ تنتهجان مسارين: الحرب العسكرية على القوى الوطنية الشعبية الثورية، والقمع والاعتداءات الأمنية على الكوادر السياسية التي تنشط علناً. مثل هذه الحكومات العميلة ليست مشكلتها مع شكل نضال القوى الوطنية من مسلح الى سلمي، بل مع وجودها الأصيل، ونفس التهمة التي توجه لأنصار الله وجهت لأعضاء الحزب الشيوعي الكولومبي الذي يقود تحالف (المسيرة الوطنية) في كولومبيا ، التهمة هي التمرد والعلاقة بالقوات المسلحة الثورية (فارك).
ولا تقتصر الأعمال الفاشية والرجعية ضد القوى الوطنية على اقتحام المقرات الرسمية والتشهير الإعلامي باسم التمرد والحرب العسكرية على القواعد الثورية ، فهي كثيراً ما تلجأ الى الاغتيالات وتصفية كوادر القوى الوطنية، وإذا كان العام 2014م مر في اليمن وقد اغتالت هذه القوى الرجعية أربعة من أبرز كوادر القوى الوطنية اليمنية المؤثرة ومن كوادر أنصار الله الذين انخرطوا في العملية السياسية رسمياً في العام 2012؛ ففي كولومبيا اغتالت القوى الرجعية 28 عضواً من كوادر المسيرة الوطنية منذ تأسيسها في 12 نيسان 2012 حتى العام 2014م، لعلاقتهم السياسية بمنظمة الفارك الثورية، وبشكل أدق لرفضهم الهيمنة الأمريكية ونزوعهم إلى التحرر الوطني والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، التي تتعارض مع مصالح السُّلطة العميلة الحاكمة ومع المصالح الاستعمارية السائدة. ففي الوقت الذي تتم فيه العمليات القمعية الفاشية من اعتقالات واغتيالات ضد القوى الوطنية الكولومبية التي تنشط سياسياً، تخوض السلطة الكولومبية العميلة حرباً مسلحة مدعومة أمريكياً ضد ميليشيات الفارك، لتدعو الأخيرة إلى العمل السياسي والتخلي عن السلاح، وكأنها تدعوها لتلاقي حتفها! وما أشبه هذا بالواقع اليمني حين كانت سلطة العملاء تغتال الناشطين السياسيين لقوى ثورة 21سبتمبر، وتتقاتل مع الجماهير المسلحة لهذه الثورة لتنزع منها السلاح وتجبرها على الانخراط في العملية السياسية التي تجعلهم في مهب التصفية لأنهم مجردون من السلاح! وحين تقوم قواتنا المسلحة واللجان الشعبية بسحق المرتزقة الكولومبيين الذين زُجَّ بهم مع العدوان السعودي الأمريكي لغزو اليمن، إنما تقوم قواتنا الثورية بمساهمةٍ أُممية لإنجاح الثورة الكولومبية.
الكفاح المُسلح ومسارات الحوار السياسي
حالياً في كولومبيا تقيم الحكومة الرجعية حواراً مع منظمة الفارك في جمهورية كوبا، تطلب به أن تتحول المنظمة إلى حزب سياسي وتترك السلاح، وهذا يُعيدنا إلى تجربة حزب الاتحاد الوطني، الذي أنشئ في الثمانينيات بعد حوار مشابه بين الحكومة وبين الفارك، أعقبتهُ عملية تصفية لكوادر هذا الحزب الذي أصبح علنياً.
الفارك هو الاختصار لاسم (القوات المسلحة الثورية الكولومبية) التي تشكلت في العام 1964م كجناح عسكري للحزب الشيوعي الكولومبي، وتبنت هذه المنظمة النضال الثوري والكفاح المُسلح من أجل التغيير الجذري في كولومبيا والقارة اللاتينية، مِما جعل أمريكا والاتحاد الأوروبي يعتبرونها منظمة إرهابية! وكميليشيات شعبية مسلحة تجند هذه القوات الثورية ما بين 12 و18 ألف مقاتل، كما تسيطر على نحو 40 في المائة من الأراضي الكولومبية، في الغابات والأرياف، حيث تتبنى هذه القوات الثورية الدفاع عن المزارعين الفقراء والطبقات الكادحة، وتعتبر نفسها حركة سياسية عسكرية ماركسية لينينية، تحارب الهيمنة الأميركية في كولومبيا، والشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات، وخصخصة الموارد الطبيعية والاقتصاد الكولومبي، فيكون الريف موضوعياً هو حاضنها الاجتماعي الأول ورافدها العسكري الأول، مثلها مثل اللجان الشعبية اليمنية لثورة الحادي والعشرين من سبتمبر جماهير ريفية مفقرة في غالبها، فنفس نتائج الاحتكارات الرأسمالية التي تنعكس على الريف اللاتيني تنعكس على الريف اليمني وغيره، فالريف الأكثر عرضة للإفقار حين يُضرب إنتاجه الطبيعي ويُستنزف لصالح الاحتكارات الرأسمالية والمدن. ومثل قوى الثورة الكولومبية تناهض حركة أنصار الله الهيمنة الأمريكية التي تربطها بالفساد والاستعمار الاقتصادي. تبدو الحركتان الثوريتان طلقتين في جبهةٍ واحدة.
إلا أن انحراف هذه المنظمة في بعض الجوانب مثل المتاجرة بالمخدرات والاختطاف وطلب الفديات التي تمول أنشطة المنظمة، جعل من الحزب الشيوعي الكولومبي يتعارض معها ويقطع علاقته التنظيمية بها كجناح عسكري للحزب، رغم أنه مازال يقدم لها الدعم السياسي، وكذلك عديد من أعضاء الحزب الشيوعيين يناضلون في صفوفها باعتبارها الفصيل الثوري الأقوى المناهض للإمبريالية وللسياسات الاقتصادية والواقع الاجتماعي المتفسخ الذي تنتجه الحكومات الكولومبية العميلة المتعاقبة.
الأنظمة السائدة والأوضاع الاجتماعية
يعتمد الاقتصاد الكولومبي بشكل رئيسي على المجال الزراعي بما فيه زراعة المخدرات، وعلى الثروة المعدنية والبترول الذي يذهب إلى جيوب وكلاء الاحتكارات، فيما يظل الشعب بنفس الوضع الاقتصادي. وكمثيلاتها من دول أمريكا اللاتينية والدول التي كانت مستعمرات وأشباه مستعمرات، بعد الاستقلال من الاستعمار الإسباني، بقيت طبقة ثرية حاكمة، فتطورت كولومبيا كمجتمع متفاوت طبقياً بين العائلات الثرية ذات الأصول الإسبانية وغيرها من كبار المُلاك المحليين، والغالبية العظمى من الكولومبيين الفقراء، مما أدى إلى ظهور الحركات اليسارية الثورية المسلحة لتعبر عن مصالح الكادحين، وعلى الجانب الآخر ظهرت العديد من الحركات اليمينية الرجعية المسلحة، التي نشأت من المجموعات المالكة للأراضي والقوى النافذة لحماية مصالحها الطفيلية من نشاط الحركات الشعبية الثورية، وهذه الحركات الرجعية التي تتبع الطبقات المسيطرة في كولومبيا والتي مارست إجرامها تحت غطاء الأمن، هي شبيهة بميليشيات الإخوان التابعة للزنداني وبيت الأحمر وعلي محسن ومشائخ المؤتمر، حيث تتلقى هذه القوى العميلة دعماً أمريكياً مباشراً، أوعن طريق دول الخليج.
آخر التوترات الفارك، كولومبيا، فنزويلا، كوبا
مؤخراً في شهر أغسطس من هذا العام حدث توتر بين فنزويلا وكولومبيا على خلفية وجود ميليشيات مسلحة كولومبية رجعية معادية للنظام السياسي الفنزويلي الثوري داخل فنزويلا، وفي المنافذ الحدودية والمناطق المُحاذية اعتدت على رجال الأمن الفنزويليين، وأدت هذه المشكلة إلى طرد فنزويلا لـ 179 مواطناً كولومبياً من أراضيها حيث المناطق المتوترة، وإغلاق المنفذ بين البلدين، وفي هذه الأزمة أعلنت الفارك تأييدها لفنزويلا وقال (سوسيس باوسيفاس هرنانديز)أحد أعضاء المنظمة في تصريحه قبل انطلاق جلسة جديدة من محادثات السلام بين الحكومة الكولومبية، والمنظمة بالعاصمة الكوبية هافانا: (إننا ندعم فنزويلا في مواجهة التوتر الحاصل على الحدود، والذي تحول إلى أزمة إنسانية، وفنزويلا أساس للسلام في كولومبيا مستقبلا، كما هي الآن). وتعتبر فنزولا ملتجأ مفتوحاً أمام الكولومبيين الذين تدفقوا الى البلاد منذ السبعينيات بسبب الحرب، وكان الرئيس الفنزولي الراحل (هوغو تشافيز) قد منحهم حق الإقامة، والاستفادة من الرعاية الاجتماعية التي تُعطى للمجتمع الفنزولي، كما أعلن، في عام 2004م، الأخوة البوليفارية بين بلدان أمريكا اللاتينية ليمنحهم حق التصويت في الانتخابات.
المفاوضات، والبندقية
ومازالت الحكومة الكولومبية، ومنظمة (فارك)، تجريان مفاوضات في كوبا منذ نوفمبر 2012، توصلت إلى اتفاقيات نظرية معينة حول إزالة الألغام، وإجراءات إصلاح زراعي ترفع معاناة الفلاحين، وعن انخراط فارك في الحياة السياسية كأي حزب علني سلمي، لكن أياً من هذه الإجراءات لم تنفذ، مِما يجعل من القوات المسلحة الثورية (فارك) تنفذ عمليات من وقتٍ لآخر للضغط على الحكومة، وتحتفظ بسلاحها وقواتها المسلحة الثورية، لتواصل الكِفاح المسلح، في حالة لم تثمر المحادثات السياسية، التي تدعمها كل من فنزويلا وكوبا، وتدعمها علناً الولايات المتحدة الأمريكية إذا كانت ستثني القوات الثورية عن مناهضة الهيمنة الأمريكية، كما دعمت أمريكا مؤتمر الحوار الوطني في اليمن وتدخلت فيه عبر هادي لتحييد قوى الثورة الوطنية وحركة أنصار الله.
المراجع:
ويكيبيديا الموسوعة الحرة
موقع الحزب الشيوعي العراقي
موقع BBC
الهوامش :
الفاشية :
هي النزعات الإجرامية والعمليات القمعية العسكرية التي تقوم بها الحكومات العميلة ضد الشعوب والحركات الوطنية، وهي تعبر عن مصالح السُّلطة الاحتكارية السائدة (التابعة للاحتكارات العابرة للأوطان) التي تسعى لتصفية القوى الوطنية من حقل النضال السياسي الديمقراطي، انعكاساً لتصفية الاقتصادات الوطنية والإنتاج الوطني وأي شكل من التنافس الاقتصادي الحر في هذه البلدان، واحتكار السوق لطغمة مالية واحدة.
الإمبريالية:
هي أعلى مراحل الرأسمالية حيث تسيطر شركات متعددة الجنسيات على الموارد والرساميل في العالم، عبر صناديق الإقراض وغيرها، انطلاقاً من مركز إمبريالي، وتتطور بشكل رجعي استعماري لفرض هيمنتها الاقتصادية بالقوة المسلحة، كما تدعم الأنظمة الرجعية والجماعات الإرهابية لتذل الشعوب وتعيق نضالاتها الثورية والديمقراطية التي تسعى إلى التحرر والسيادة الوطنية، وتعتبر أمريكا الدولة الامبريالية الأولى في هذا العصر.
المصدر صحيفة لا / أنس القاضي