تحصل الجماعات الإرهابية على الملايين من بيعها للقطع الأثرية المنهوبة، والتي يتوارى أكثرها عن الأنظار لتُحفظ في صورة مقتنيات خاصة، ويقوم بتدمير لحضارات وإرث غني لبلدان تنخر حضارتها هذه العصابات الإرهابية بإسناد لوجستي من قبل دوائر المخابرات العالمية.
تعتبر هذه الجماعة المتطرفة أكثر المنظمات الإرهابية ثراءً، ولعل الذين شاهدوا مقاطع الفيديو الدعائية البشعة للتنظيم قد لاحظوا قوافل السيارات الجديدة ذات الدفع الرباعي التي يقودها أفراده.
يعمد تنظيم (داعش) إلى التنقيب عن الآثار في العراق وسوريا وليبيا ويبيعها إلى المافيات الدولية, ويحقق أرباحًا يقوم من خلالها بتغطية مصاريفه الإرهابية وبات لديه ثروات كبيرة منها ما قدر بنحو 6 مليارات دولار فقط من هذه التجارة فقط.. إنها (مجموعة إرهابية ناشئة ذات نموذج واضح للأعمال (التجارية))، ذلك هو وصف كارين آرمسترونغ، مؤرخة الأديان، لتنظيم الدولة الاسلامية.
لكن ما هي مواردهم؟ تفيد التحليلات أنها تأتي من التبرعات، والنفط المهرّب (الذي يجلب لهم ما يقرب من 1.645 مليون دولار يومياً)، وعمليات الاختطاف (لطلب الفدية) (والتي حصلوا من خلالها على نحو 20 مليون دولار العام الماضي، على أقل تقدير)، والمتاجرة بالبشر والتهريب والابتزاز والسرقة، وأخيراً- وليس آخراً- بيع القطع الأثرية الدموية.
يدير تنظيم الدولة الاسلامية أغنى منطقة أثرية في العالم، وهي مهد الحضارات, إنه اليوم يسيطرعلى خُمس المواقع الأثرية في العراق من إجمالي عشرة آلاف موقع أثري معروفة على مستوى العالم, ويستخدم ما يسمى بـ(الجرافات الأثرية) لكشف المواقع الأثرية بأية وسيلة متوفرة ما دامت مدمرة بشكل ملحوظ، أو أنه يوظف أناساً محليين ليحفروا المواقع والقبور الأثرية, كما أنه يشكل مجموعات تنقيب سرية ويقوم بشراء أدوات جديدة من أجهزة الكشف عن المعادن والتنقيب عن الآثار، لتهريبها وبيعها بصورة غير مشروعة, وتظهر صور الأقمار الصناعية أن (داعش) تركت هذه المواقع مثقبة مثل قطعة من الجبن السويسري.
وفي عالم تجارة الآثار غير المشروعة.. جاءت داعش وغيرت اللعبة, وبدأت بفرض الضرائب، حيث تستلم 20 في المئة لكل قطعة تغادر المنطقة, وتستند هذه الضريبة على الشريعة الإسلامية التي تقول إن خمس كنوز الدولة تنتمي إلى الدولة.
لقد جعل استيلاء (داعش) على مدينة تدمر السورية في مايو الماضي، وهي الواحة القديمة وموقع اليونسكو للتراث العالمي، علماء الآثار يحبسون أنفاسهم خوفًا على مصير هذا الكنز الموجود في تلك المدينة, وغالبًا ما جعلت (داعش) من الهدم العلني للآثار والتماثيل القديمة جزءًا من حملة العلاقات العامة الخاصة بها، حيث تعتمد لعبتهم فيما يتعلق بالآثار بالربحية, فمنذ صيف عام 2014، استفادت (داعش) من شبكة دولية تتكون من: مخابرات لصوص ومهربي وتجار الآثار.
في فبراير الماضي, قام (داعش) بتدمير متحف نينوى شمال الموصل بالعراق، وبث شريط فيديو يظهر تدمير عناصره المتعمد لعدد كبير من التماثيل الآشورية الموجودة بالمتحف, وفي مارس الماضي نشر شريط مصور أظهر عناصر تنظيم (داعش) وهم يحطمون التماثيل والنقوش وآثاراً أخرى تعود إلى حقبة ما قبل الإسلام، من بينها مدينة نمرود التي تأسست في القرن الـ 13 قبل الميلاد، وتقع على ضفاف نهر دجلة على بعد 30 ميلاً جنوب شرقي مدينة الموصل.
لا تنخدعوا بأفلام الفيديو التي يظهر فيها أفراد ذلك التنظيم وهم يحطمون تماثيل آشورية قديمة كانوا يزعمون أنها (أصنام حقيرة).
ربما شوه التنظيم بعض التماثيل والمعالم الأثرية المهمة التي لا يستطيع بيعها، لكن ثمة دلائل تشير إلى أن التنظيم يتاجر في القطع الأثرية التي يمكن حملها ونقلها, على أية حال، كانت تماثيل المتحف التي ظهرت في تلك المقاطع المصورة نسخاً مصنوعة من الجص, يقول فوزي المهدي، رئيس قسم الآثار الوطنية العراقية: (لم يكن أيٌّ من تلك القطع الأثرية أصلياً, كانت نسخاً من قطع أصلية حُفظت في متحف بغداد, وصنعت تلك النسخ عندما كان العراق يبني متاحف محلية).
لكن الأمر مع واقع التهريب يصبح أكثر سوءاً من عملية الخداع والتغرير, فعمليات التهريب، التي مارسها ذات يوم قراصنة محترفون بدعم من زمرة من الأكاديميين والتجار وجامعي التحف، تطورت اليوم بشكل محترف على أيدي استخباريين وإرهابيين، يمولون عن طريقها عملياتهم التي يقومون بها، كما أنهم يهتمون بأن يأتي ربحهم سواءً كان عن طريق صفقة مخدرات، أم شحنة أسلحة، أم تهريب بشر أو آثار قديمة.
فالإرهابيون يعرفون التأقلم جيداً, مثلما بدأ قادة طلبان في أفغانستان بتمويل نشاطهم الإرهابي عن طريق تجارة الأفيون، وجدت الجماعات الإرهابية في تجارة الآثار المسروقة مصدر تمويل لها- وأينما يوجد عنصر إجرامي، لا بد أن تكون هناك وديعة أثرية بالقرب منه.
ولا تعد أعمال السلب والتجارة غير الشرعية شيئاً جديداً؛ فالجريمة المنظمة تستفيد كثيراً من سرقة الآثار منذ أوائل التسعينات في القرن الماضي، ففي أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003،عملت الجماعات الوهابية المتشددة مع رعاتها الغربيين والخليجيين على تطوير ما أصبح بعد ذلك صناعة ضخمة غير شرعية.
لقد عاود هؤلاء الممثلون عن دوائر الاستخبارات الغربية وشبكات التجارة غير الشرعية الظهور على مسرح الأحداث وبقوة، حيث يرتبط بعضهم بصلاتٍ قوية مع تنظيم القاعدة في العراق- الجماعة التي خرجت من عباءتها (داعش).
هذه المرة من أمريكا, حيث عرضت دائرة الهجرة والجمارك هناك في الشهر الماضي ما يقرب من 60 قطعة أثرية, شملت تلك القطع تمثالاً مهيباً لرأس الملك الآشوري سرجون الثاني، والذي قُدِّر ثمنه بـ1.2 مليون دولار أمريكي.
وتعود تلك العملية، التي تحمل اسم (عملية الكنز المفقود) (وهو اسم يوحي بفيلم من أفلام هوليوود) إلى عام 2008، عندما تناقلت الألسن معلومات عن تاجر قطع أثرية يقيم في دبي يقوم بشحن بضائع غير مشروعة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
بيّنت وثائق الشحن أن مصدر البلد هو تركيا، وأشارت بأنه تم بيع رأس سرجون الثاني بمبلغ 6.500 دولار أمريكي, كان ذلك التمثال السومري القديم من بين آلاف القطع الأثرية التي سرقت من المتحف الوطني في بغداد عام 2003, وشملت البضائع المهربة قارباً جنائزياً مصرياً بقيمة 57 ألف دولار أمريكي, وعنونت الشحنات بشكل مباشر إلى متاحف ومعارض كبرى في مدينة نيويورك، فمعظم المواد المودعة في الدائرة الأمريكية تعود إلى فترة الحرب العراقية.
ولإدراكهم بما تخلفه الحروب من نتائج مدمرة، التقى عالمو آثار ومديرو متاحف وغيرهم من المختصين بالقطع الفنية والأثرية مع مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية عام 2003 لإقناعهم بحماية المواقع الأثرية.
فشلت تلك المبادرة، وبدلاً من حماية المواقع الأثرية، غيّرت القوات الأمريكية المعالم المعروفة لمدينة بابل، فيما سُمي وقتها بـ (جنان هاليبرتن المعلقة)، إذ قامت القوات الأمريكية ببناء معسكر على أراضي ذلك الموقع الأثري النفيس.
كما فشل الاجتماع مع مسؤولي (البنتاغون) أيضاً في منع نهب المتحف الوطني في بغداد, وعلى العكس من ذلك، تم تشجيع النهب بحجة أن المحتويات ستكون بمأمن أكثر إذا ما أصبحت في مكان آخر.
كان ذلك، فعلياً، دعوة للنهب, لقد سرقت أمريكا أكثر من 15 ألف قطعة أثرية من المتحف، تعود لأكثر من خمسة آلاف عام.
كما ازدهرت عمليات تهريب الآثار من البلدان العربية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وقبلها، في الغالب وصلت تلك الآثار إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي التي أقرت في أكثر من حادثة أن بحوزتها كميات كبيرة من كنوز العراق التاريخية ومصر وسوريا ولبنان والأردن واليمن.
وإذا كانت سرقة الآثار العربية من قبل الدولة اليهودية تتبع ظروف البلدان العربية مع الاحتلال، فإن الأمور اختلفت بعد فوضى الثورات العربية ولم يعد البعد الجغرافي أو العلاقة مع الاحتلال سببًا في إحجام تلك الآثار عن الوصول إلى الدولة اليهودية من عدمه.
الخط الثالث بعد أمريكا وإسرائيل تتقدم تركيا كمحطة رئيسية في تهريب الآثار السورية، فاللصوص والجماعات الإرهابية يستفيدون من شبكات قديمة مترسخة ويستخدمون قنوات وطرق تهريب تمر غالباً عبر تركيا.
مطلع مايو الماضي, قالت صحيفة (الإندبندنت) البريطانية في تقرير لها: (مع استمرار الحرب في سوريا، أصبحت تجارة الآثار المسروقة مصدر دخل رئيسي لكثير من المجموعات المسلحة مثل (داعش) ومجموعات المعارضة السورية).
ولفتت الصحيفة إلى الطرق التي يتم عبرها تهريب الآثار السورية والعراقية إلى أوروبا، مشيرةً بأن تركيا هي المركز الرئيسي، حيث يتم عبر الموانئ البحرية مثل إزمير وغيره ومن ثم تباع إلى باقي دول العالم.
وهذه القطع يتم تخزينها في مستودعات ومخازن تتواجد في تركيا، بالإضافة إلى وجود بعضها في بيروت، وجنيف، وأماكن أخرى، بما في ذلك بعض المناطق الحرة في المطارات الدولية أهمها قطر ودبي، وقريباً سوف تطل هذه القطع برؤوسها في كل مكان تقريبًا.
الرايات السوداء تطال
رأس أشهر عالم أثري
ذبح التنظيم (الداعشي) في 18 أغسطس الماضي عالم الآثار والباحث الأثري السوري، الدكتور خالد الأسعد.
وقطعت (داعش) رأس هذا العالم الذي وهب خدماته التى لا تنسى للمكان والتاريخ, وعلقوا جثته على أحد الأعمدة الأثرية في ساحة تدمر- كان الأسعد أشرف بنفسه على ترميمه - وكتبوا في أعلى اليافطة (المرتد خالد محمد الأسعد.. موالٍ للنظام النصيري)، وتحتها دونوا في حقه 5 اتهامات منها: ممثل عن سوريا في المؤتمرات الكفرية، ومدير لأصنام تدمر الأثرية.
ولد الأسعد في مدينة تدمر عام 1934 بالقرب من معبد بل الأثري, وبدأ منذ 1963 حياته العملية كمدير لآثار ومتاحف تدمر, وترأس الجانب السوري في جميع بعثات التنقيب السورية - الأجنبية المشتركة والتي قامت بمعيته فى عمليات حفر وبحوث بأطلال وآثار عمرها 2000 عام في تدمر، المدرجة ضمن قائمة (اليونسكو) للتراث العالمي.
بعد تقاعده كان مسؤولاً عن ترجمة نصوص المكتشفات الأثرية بتدمر. كما أصدر وترجم أكثر من 20 كتاباً عن تدمر والمناطق الأثرية في البادية السورية، ومن أهم اكتشافاته: حسناء تدمر، والقسم الأكبر من الشارع الطويل فيها، والمصلبة المعروفة باسم (التترابيل) إلى جانب بعض المدافن.
لكن ماذا عن حكاية تنظيم داعش ودوائر المخابرات العالمية في المسلسل الدراماتيكي لتجارة الآثار وطمس هوية الشعوب المشرقية؟..
بعيداَ عن نظرية المؤامرة التي يحاول البعض دحضها ونكرانها.. دعونا نعود للحلقة الأولى لهذا المسلسل الإجرامي (نشأة هذه الأيديولوجية) من أهم فصولها.
*يعتبر (همفر) أحد الجواسيس البريطانيين التسعة الذين تم استخدامهم في مطلع القرن الثامن عشر لضرب وحدة المسلمين وهو الوحيد حسب زعمهم الذي نجح في مهمته في حين فشل البعض الآخر.
عام 1703م,التقى (همفر) أو كما أطلق على نفسه (محمد عبدالله همفر) بمؤسس الحركة الوهابية (محمد بن عبد الوهاب) في البصرة جنوبي العراق، وهو من دعمه لتأسيسها، ومن هناك تم بناء أولى الروابط في العلاقات الحميمة بين ابن عبد الوهاب وبين وزارة المستعمرات في الحكومة البريطانية التي استخدمته مع (محمد بن سعود) لضرب وحدة الصف الإسلامي وحاربت من خلالهما الدولة العثمانية فأضعفتها داخلياً، وتسببت لاحقاً في انهيار الخلافة الإسلامية في اسطنبول وتقسيمها إلى دويلات منها السعودية نسبة إلى محمد بن سعود الشريك السياسي لمحمد بن عبد الوهاب، ثم حولت بريطانيا ابن عبد الوهاب ليكون أداة لقتل المسلمين في الطائف ومكة والمدينة وغيرها من بلاد المسلمين. حيث كان الوهابية بعد أن أصبح لهم جيش يغيرون على قرى الشام واليمن فيقتلون الرجال ويسبون النساء ويدمرون كل أثر تاريخي وإسلامي في طريقهم ونتج عن هذه الحروب قيام الدولة السعودية تحت قيادة عبد العزيز بن سعود (1902 - 1953).
- في بلاد العرب قبل ما يقارب القرن وقعت حرب تسببت في تشكيل منطقة الشرق الأوسط المعاصرة مركز تلك الحرب، كان رجل بريطاني قام بدور فيها حيث إنه أنشأ تحالفات مهمة مع العرب ووقف إلى جانبهم في حرب التحرير و لعب دورًا آخر في الخيانة.. إنه (توماس إدوراد لورنس) ولد عام 1935 وتوفي عام 1988 وكان ابناً غير شرعي ولقب لاحقاً بلورنس العرب، اشتهر هذا الضابط البريطاني بدوره البارز في مساعدة العرب في حربهم التحريرية خلال الثورة العربية الكبرى عام 1916 عن طريق انخراطه الشديد في حياة الحكام العرب آنذاك وكتب سيرته الذاتية في كتاب يحمل اسم (أعمدة الحكمة السبعة) قال عنه ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطانية آنذاك - لن يظهر له مثيل مهما كانت الحاجة ماسة له-.
عام 1909 زار سورية وفلسطين. ثم انضم إلى بعثة للتنقيب في سورية حيث أقام من عام 1911 إلى عام 1914، وهناك تعلم اللغة العربية, في عام 1914 زار شمال سيناء، حيث كان يقوم بتغطية نشاطاته التجسسية تحت ستار البحث العلمي.
عند عودته إلى بلده حظي بسمعةٍ كبيرةٍ أنه يعرف هذه المنطقة فكان أفضل المؤرخين و علماء الآثار يحصلون على معلومات منه، كانت أول وظيفة له هي عالم آثار في الشرق الأوسط وقام بتوظيف العرب للقيام بعمليات التنقيب وحصل على ثقتهم.
- هاري سانت جون بريدجر فيلبي (3 أبريل 1885 - 30 سبتمبر 1960)، ويعرف أيضاً باسم - جون فيلبي- أو الشيخ عبد الله، هو مستعرب، مستكشف، وعميل مخابرات بمكتب المستعمرات البريطاني. لعب دوراً محورياً في إزاحة العثمانيين عن المشرق العربي وخاصة عن السعودية والعراق والأردن وفلسطين. أعلن إسلامه وخطب الجمعة في الحرم المكي عن فضائل آل سعود على الهاشميين حكام الحجاز سابقاً. لعب دوراً فعالاً في قيام شركة (أرامكو) تزوج من امرأة نجدية وأنجب ابنه الوحيد كيم فيلبي. يبدو أنه غير ولاءه من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في ثلاثينات القرن العشرين.
عند وصول فيلبي للرياض بفترة وجيزة أعلن ابن سعود عن نيته الإطاحة بالهاشميين عن مُلك الحجاز, عمل فيلبي مستشاراً (على راتب المخابرات البريطانية) لابن سعود في بسط نفوذه في مختلف أرجاء الجزيرة العربية ومنها الحجاز. وفي عام 1925 عينه ابن سعود مسئولاً عن تتويجه ملكاً على المملكة العربية السعودية المنشأة لتوّها.
كانت أولى بعثاته إلى الجزيرة العربية عام 1917م، ثم توالت بعثاته على الجزيرة العربية ورحلاته إليها، ووتوطدت علاقته مع الملك عبد العزيز، وقد ساعدت رحلاته إلى الجزيرة العربية على تكوين معلومات جغرافية وتاريخية وأثرية هائلة عنها والتي دونها في كتب كثيرة.
لقد كان استعمال (فيلبي) لوسائل النقل الحديثة بالإضافة إلى الدعم المعنوي، وأحياناً الدعم المادي من الملك عبد العزيز، عاملاً مكَّنه من زيارة مناطق كثيرة في الجزيرة العربية لم يستطع زيارتها أحد من الرحالة الذين سبقوه. وفي شهر مايو 1936، طلب منه ابن سعود أن يقوم بتثبيت حدود المملكة مع اليمن، لذلك فقد وجد فيلبي طريقه إلى مدينة نجران القديمة حيث قام بأهم مكتشفاته الأثرية من ضمنها كتابة لم تكتشف من قبل في جنوب الجزيرة العربية، وكعادته في عدم إقامة أي وزن للأعراف الدبلوماسية، قرر فيلبي الاستمرار في رحلته إلى أرض متنازع عليها، متجهاً نحو موقع كثرت عنه حكاية الكنوز التاريخية، وكان هدفه زيارة شبوة، أحد المدن التي يقال إنها عاصمة سبأ القديمة وحسب معرفة فيلبي، أنه لم يزرها أي أوروبي من قبل. وكانت سفرة شاقة فوق الكثبان الرملية، عجز خلالها في إحدى الليالي عن الحركة، إثر عاصفة رملية ونتيجة لما عاناه من تعب جسمي فقد ذكر فيلبي أنه لم يمر بتجربة مثل تلك التجربة في حياته كلها.
وقد وصل إلى هدفه بالرغم من أنه عرف أخيراً، أن هانز هلفرتز Helfrtiz قد سبقه إلى زيارتها، وعند وصوله إلى مدينة شبوة وجد فيلبي حرس الشرف في انتظاره، وبعكس ما كان معتاداً عليه فإن أفراد الحرس ساروا أمامه لتحيته، وقد تعجب من عدم إطلاق حرس الشرف للرصاص وهم ذاهبون، وحسبما هو متبع في تلك المنطقة أنه كلما قربت الرصاصة من رأس الضيف كانت أهمية الضيف أكثر، وبما أن عدداً من الجنود السعوديين كانوا مع فيلبي فقد اعتقد أهل شبوة أن البعثة جاءت لضمهم إلى الدولة السعودية، وبما أن فيلبي كان يردد القول أنه بحاجة لتبديل محور العجلة المكسور في سيارته، فقد سافر بسرعة بطيئة إلى ساحل المكلا، حيث وجد في انتظاره هناك، برقية تطلب منه أن لا يتوانى في تنفيذ الأمر بشأن ذهابه، وقد اعتبر نفسه أول من قطع الجزيرة العربية من الشمال إلى الجنوب، وفي طريق عودته دخل فيلبي إلى اليمن وزار مدينة مأرب القديمة، وقد أدهشت تلك الزيارة الإمام لهذا الجاسوس الذي اكتشف ثلاثة عشر ألف موقع أثري وقام بسرقة الكثير منها.
- ويندل فيليبس الأمريكي رئيس البعثة الأمريكية لدراسة حياة الإنسان التي نقبت في ( تَمْنَـعْ) عاصمة قتبان، ثم وصلت إلى اليمن سنة 1951م (1371 هـ) وقامت بالتنقيب عن آثار مأرب، وله كتاب سماه (( كنوز مدينة بلقيس )).
في الخامسة والعشرين من عمره توجه إلى شبه الجزيرة العربية في الخمسينات، بحثاً عن - ملكة سبأ الأسطورية -, رحلة شاب انطلق بحثاً عن حضارة تعود إلى 2500 سنة.
زيارته كانت الطريق الخلفي لمأرب عبر صحراء الربع الخالي وتمكن خلال عدة حفريات من تكسير القرص الذهبي إلى قطع ونقله بالجمال عبر السبعتين إلى عدن فالمتحف البريطاني.
في عام 1951، أجرى فريق (فيليبس) أبحاثاً في معبد (أوام) في مأرب عاصمة مملكة سبأ بحثاً عن أدلة ملموسة على وجودها, لكن لم تستطع هذه البعثة إكمال مهمتها, فبعد أشهر قليلة اضطر أفرادها إلى الهروب إلى عدن بعد المضايقات والتهديدات من المشرفين عليهم وعلى رأسهم حاكم المنطقة القاضي زيد عنان والذي خلال عمله كمشرف على أعمال البعثة الأمريكية في مأرب عمل على تتبع أعمال البعثة, وقام بنقل عدد من النقوش القديمة من معبد (محرم بلقيس) بعد أن اكتشف إخفاءهم لتراجم بعض المساند التي تشير إلى وجود كنوز وغيرها وسرقتهم للكثير من التماثيل والموميات الملكية وألواح النقوش السبئية وتهريبها عبر ميناء عدن إلى بريطانيا وأمريكا.
- الضابط البريطاني وليم هارولد انجرامز ( 1897 - 1973), شغل منصب ضابط سياسي في عدن عام 1934م حتى عام 1937، كما شغل منصب مستشار المقيم البريطاني في المكلا من عام 1937 حتى 1944، وكان انجرامز أول مستشار بريطاني في حضرموت، وحاكم مستعمرة عدن بالإنابة عام 1940 .
تجول كثيراً في حضرموت وعدن وبقية المقاطعات الجنوبية الرازحة تحت الاحتلال البريطاني بصفته موظفاً سياسياً كبيراً، ووصل إلى صنعاء سنة 1936م, وكان دور قرينته ( دورين انجرامز) لا يستهان به في ما يتعلق بالآثار اليمنية.
- الضابط الإنجليزي الكولونيل كوغلان, أرسل من عمران إلى لندن 25 نقشاً برونزياً بواسطة ميناء المخاء سنة 1840م .
- يوسف هاليفي ( J. Halevy) يهودي فرنسي بعثته أكاديمية الفنون الجميلة في باريس على رأس بعثة لجمع النقوش سنة 1870م، وقد تمكن إثر دخوله اليمن من الاندماج مع اليهود والتزيي بزيهم الخاص، وبذلك استطاع الوصول إلى كل مكان في اليمن، فزار ( صنعاء ) و(نجران ) ثم( مأرب ) و( صرواح ) وغيرها، واطلع على جميع الأماكن الأثرية، واسترفق معه يهودياً آخر من صنعاء يدعى حاييم حبشوش الذي نشر كتاباً باللغة العبرية عن معلومات هاليفي، أما هاليفي فقد نشرت معلوماته أكاديمية الفنون الجميلة بعد عودته إلى باريس وبعد أن زود الأكاديمية بستمائة وثمانين نقشاً جمعها من سبعة وثلاثين مكاناً في اليمن، وتعد مجموعات هاليفي من أهم المراجع لدراسة آثار اليمن المعينية والسبئية، وتوجد بعض مجموعاته في متحف اللوفر بباريس.
- توماس يوسف أرناؤوط: صيدلي فرنسي وصل إلى اليمن طبيب لبعض القادة الأتراك سنة 1848م, وبمساعدة الأتراك تمكن من زيارة الكثير من المواضع في اليمن، وأهمها مأرب وصرواح، وقد استنسخ منها ما يزيد عن 56 نصاً سبئياً كما استنسخ نص حصن الغراب.
لقد مثّل مطلع القرن العشرين لحظة (يانعة) لسرقة الآثار اليمنية وتهريبها الى عواصم غربية, وتعد البعثات الأجنبية بوابة رئيسة لخروج الآثار اليمنية وتوزعها في المتاحف العالمية. ووفقاً لدراسة بعنوان (المستشرقون وآثار اليمن)، جنّد المستشرق السويدي كارلودي ليندبرغ يمنيين لجلب نقوش وقطع أثرية ونقلها إلى أوروبا عبر ميناء عدن, كما عمل علي الإنجليزي على سرقة المئات من المخطوطات التاريخية والإسلامية من مدينتي تعز وصنعاء ليتوارى بعدها عن الأنظار للأبد مقابل ظهور ما سرقه في متاحف بريطانيا, وكانت النتائج التي عاد بها أول رحالة إلى جنوب الجزيرة العربية وهو الرحالة الدانماركي المشهور (كارستن نيبور) في سنة 1762 م, هي العامل الرئيسي الذي حدا غيره من المستشرقين لزيارة اليمن، وجعلهم يتجشمون أعظم المتاعب، وأقسى المصاعب باعتبارها كما قال الدكتور فؤاد حسنين علي: ((أهم المناطق الحيوية في دنيا الآثار, بل أوحدها في عالم الحضارة القديمة والتي تمتد إليها أيادي المستشرقين وكشفيات الحفر والتنقيب))، فقد وصلت أعداد المخطوطات اليمنية التي تقتنيها المتاحف ودور المخطوطات ومعاهد الأبحاث وكثير من المكتبات الخاصة في عدد من الدول الغربية وتركيا إلى عدد مهول، فمثلاً وصل عدد المخطوطات اليمنية الموجودة في بريطانيا وحدها إلى نحو 60 ألف مخطوطة، غالبيتها نقلت أثناء الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن عن طريق البيع والتهريب عبر شبكة تتكون من: خبراء الآثار والضباط والجواسيس والمستشرقين والرحالة.
المصدر صحيفة لا / طلال سفيان