صحيفة لا / حاوره/ عبدالرقيب المجيدي
إنه أحد المبدعين الذين قدموا عطاءات متميزة وإسهامات مؤثرة، ويعد هامة من هامات الشعر والأدب في اليمن، ونموذجاً للروح الوطنية الحقة.. امتلك قدرة إبداعية سواء وهو يكتب مقالاً تحليلياً أو نصاً شعرياً، كما أعاد للقصيدة قوتها ورصانتها ومكانتها، فساعدته طاقة شعرية استثنائية وثقافة عصرية واسعة ومتنوعة.
إنه الشاعر الذي امتلك المدد الشعري الذي ينسكب في عروق الإبداع دون مشقة.. تميز بتوسيع أفق القصيدة وإرهاف قدرتها التعبيرية عمقاً ونفاذاً وتوهجاً. كما أن لقصائده دوراً كبيراً لما تحدثه من تهذيب السلوك والذوق والارتقاء بالأحاسيس إلى مدارج عالية من التحضر والرقي، وفي قصائده أيضاً تجتمع كل سمات الشاعرية، وتكتمل لغة شعرية رائعة تأخذ بمجامع الحس.. عندما التقيت به أسرتني نغمة إنسانية بدت من خلال ألفاظه وتعبيراته العذبة، وأحسست أنني بإزاء ثر من المشاعر والأحاسيس المرهفة التي تصل إلى حد الشفافية.. إنه الشاعر والناقد علي جاحز.

لا مواصفات محددة
 ما هي مواصفات القصيدة الجيدة؟ وكيف تؤثر في سامعيها؟
أولاً اسمح لي أن أشكرك وأحيي صحيفة (لا) من خلالك. القصيدة مفهوم أوسع من أن تلخص بتعريف علمي، وأعمق من أن يرى قرارها، وأكثر نفوراً من أن نمسك بمحدداتها ومواصفاتها، ولهذا فإن الإجابة على سؤالك يمكن أن المناهج والمذاهب النقدية اختلفت حولها، وألفت كتب ودراسات متعددة، ولا أعتقد أن ثمة من توصل الى إجابة جيدة يمكنها أن تلخص مواصفات القصيدة الجيدة، غير أننا يمكن أن نقول إن القصيدة الجيدة هي التي تستطيع أن توصل الإحساس الذي عجنها به كاتبها الى المتلقي بسرعة ويسر وبدون كلفة، وأعتقد أن التأثير لا يقتصر على سامعها، بل على قارئها أيضاً.

دفاترنا اليوم فارغة من الشعر
 هل المشهد الشعري في بلادنا لا يزال على حيويته؟
المشهد الشعري بعد عقد التسعينيات وبداية الألفينات وقبلهما أيضاً، لا وجود له بالمعنى التفاعلي المؤثر والمتأثر إعلامياً واجتماعياً، وتستطيع أن تقول إن الشاعر والمؤسسة باتا منفصلين، وكلاهما والجمهور يفصل بينهما فجوة من دخان. لو عدت لتراجع دفاترنا في التسعينات قبل عصر الإنترنت والسرعة في النقل، وتقارنها بدفاترنا هذه الأيام، لوجدت أن دفاترنا اليوم فارغة من الشعر مقارنة بما كتبناه في التسعينيات من قصائد، وما رسمنا من مسارات واتجاهات، وما تبادلنا من مثاقفات ونقاشات، وما تركنا من أثر في الفضاء العام وفي داخل بنية القصيدة. ومن الطبيعي أن نقول اليوم إن المشهد الشعري يغط في نوم عميق، ولعدة عوامل، وتلك العوامل لا تتعلق بالشاعر مباشرة، بل بمحيط الشاعر، ابتداء من غياب المؤسسة، وانتهاء بانصراف الجمهور، وبينهما عوامل كثيرة، وما نشاهده اليوم من إنتاج شعري هو نوعي ومرحلي ومتخصص يحاكي الحدث ويتأثر به، ويحاول أن يؤثر فيه، مثل الشعر الثائر والشعر الشعبي التعبوي، وهما سيدا المرحلة، ولهما فرسانهما.

القصيدة الشعبية مادة دسمة في مواجهة العدوان
  كيف ترى تحولات الشعر اليمني وآفاقه عبر ما ينتج اليوم من شعر، خاصة لدى شعراء القصيدة الشعبية؟
يمكنك أن تلمس بنفسك واقع الشعر في اليمن وفي المنطقة عموماً، وبالتالي تستطيع أن تعود الى جذور التحولات منذ 2011م الى اليوم، وتخرج بنتيجة مفادها أن الشعر اليمني خصوصاً تعرض لأزمة غياب قاتلة، أنا مثلاً وصلاح الدكاك ومحمد المنصور وعبدالحفيظ الخزان وفؤاد العرشي وأمين أبو حيدر وعبدالمجيد التركي وجميل مفرح وعبدالكريم الوشلي و... الخ من الشعراء المعروفين، لو سألت عنهم متابعي الشعر هذه الأيام لما أفتاك إلا القلة القليلة عنهم، بل قد يتفاجأ البعض حين تقول له إنهم شعراء، وهذا يعود الى أسباب أهمها أن جمهور القصيدة اليوم مختلف، وتلك الأسماء انكفأت شعرياً، وأصبحت أسماء كتاب وصحفيين فقط، وبزغ ثمة شعراء جدد ثوريون امتلكوا الساحة والجمهور، وطغوا على كل الألوان الشعرية وكل الاتجاهات الأخرى، ولا نستثني القصيدة الشعبية من واقع الشعر في اليمن، غير أن الزوامل ومقتضيات المرحلة جعلت القصيدة الشعبية حاجة ملحة ومادة دسمة ضمن جبهة مواجهة العدوان، وبالفعل نجحت الى حد كبير في أن تكون حاضرة في المقدمة داخل المشهد الشعري، لكن مرتبطة بالزامل وغيره من الفنون الصوتية.

موهبة وملكة
 هناك رأي يقول بأن الشعر لغة بالدرجة الأولى، ما قولك في هذا الموضوع؟
الشعر مثل الموسيقى، لغة مستقلة في كل الثقافات والمجتمعات بمختلف لغاتها، لغة الشعر هي عجينة من التراكيب البنائية والتخييلية التصويرية ينفخ فيها الشاعر إحساسه ليكون روح القصيدة الإحساس، ولا أعتقد أن إتقان لغة الشعر ممكن من خلال صيرورتها مادة للتعلم، وإن طرحت كمادة فتظل مجرد إطارات نظرية، فالشعر موهبة وملكة تمنح في داخل الإنسان، فالشاعر يولد شاعراً، وإنما يتعلم فقط كيف يهذب موهبته ويطورها.

هجرت القصيدة من أجل الصحافة
 هل تحقق لك الكتابة عموماً والشعر خاصة حالة التوازن الداخلية؟
لا أخفيك أنك بسؤالك هذا أشعلت بداخلي حسرات وشجوناً، فأنا خلقت شاعراً وسأظل شاعراً، غير أن الكتابة السياسية والصحفية منذ عدة سنوات، سيطرت على اهتمامي، لدرجة أنني هجرت القصيدة هجراناً قاسياً، وفي كل الأحوال أنا بلا كتابة لا يمكن أن أشعر بأني موجود، فضلاً عن الشعور بالتوازن، أما حين أكتب قصيدة وأكملها وأتمكن من تعبئتها بما أحمله من شجون وإحساس وإسقاطات ورسائل، فإنني أشعر بأنني رزقت بمولود جميل.

علاقة متبادلة
 ماذا يضيف الأدب للإنسان؟ وماذا أضاف أي مبدع للأدب؟
الأدب يهذب الروح، ويجعلها تحلق في فضاءات لامتناهية، ومن يمارس الأدب يعيش حالة روحية، ولابد أن يضيف المبدع للأدب ولقيمة الأدب ولمفهوم الأدب، أو فإن من العبث تسميته مبدعاً.

مفتون بالنثر
 صرت ميالاً لقصيدة النثـر رغم أنك بدأت بالشعر العمودي، ماذا تمنحك قصيدة النثـر من إحساس مختلف عن سواها من الأشكال؟
نعم أنا مفتون بقصيدة النثر مؤخراً، أو تستطيع أن تقول منذ العام 2007م، وأجد نفسي فيها، لكن لا يعني ذلك أنني تخليت عن العمود، فأنا أكتب العمود بنفس الروح التي كنت أكتبه بها سابقاً، صحيح تخليت عن التفعيلة ولم أعد أجدها قالباً صالحاً للشعر، فقد وجدت في قصيدة النثر عالماً مستفزاً لي ولمشاعري وهواجسي، أستطيع عبره أن أرسل رسائل حداثية تلائم مزاج الواقع الذي نعيشه.

النخب الثقافية
 كثيرون من النخبة الثقافية التي كانت تجمعنا بهم منصات العمل الثقافي يقفون في صف العدوان، مع ذلك لا نرى أن العدوان قد ألهم المنحازين إليه أعمالاً شعرية تصطف أدبياً مع ذرائعه. أين تكمن الإشكالية في الكتابة خارج الرحم الوطني وبالضد له؟
الإشكالية تكمن في أن الشاعر إنسان شفاف، والشعر كائن نقي بريء وصادق، وبالتالي فإن من يخون حبيبته لا يمكن أن يكتب شعراً يتغزل بتلك التي خان معها.

لا علاقة لأنصار الله
  تصنيفك خلال السنوات الأخيرة على حركة أنصار الله جعل نطاق انتشارك أضيق من السابق، هذا ما يراه البعض، كيف تعلق؟
ليس صحيحاً على الإطلاق. أنا من توقف شعرياً، بدليل أن لدي انتشاراً صحفياً، وأراسل أكثر من صحيفة عربية، واسمي صحفياً موجود. انتمائي لأنصار الله قديم، وكنت مصنفاً من أنصار الله حين كنت قبل 2011م أكتب وأشارك في مهرجانات عربية، وأنشر في مجلات وصحف عربية.

بين الورق وسلة المهملات
 ما هي المسافة التي ينبغي أن يأخذها العمل السياسي؟
العمل السياسي مصيدة تعزل الإنسان عن محيطه، وتجعله يعيش في دائرة ضيقة، وبالتالي فلا مسافة يمكن أن يقطعها العمل السياسي، عدا المسافة بين الورق وسلة المهملات.

رؤية أنانية
 جان بول سارتر يقول: الآخرون هم الجحيم، هل تقول ذلك أيضاً؟
تلك وجهة نظر لا يجوز أن تكون حكماً، غير أني شخصياً أرى من يشبهني من الآخرين بأنهم (أنا)، ولذا لا أسميهم (الآخرون)، الآخرون هم من لا يشبهونني ولا ألمس فيهم تطابقاً مع ذاتي وتفكيري وشعوري، وهناك فلسفات واصطلاحات مختلفة لمفهوم (الآخرون)، ربما يكون سارتر واحداً ممن يرون الآخر هو النقيض أو المقابل الضد، وبطبيعته الإنسان في موقعه يرى نفسه وذاته الحق، ونقيضه الباطل، ولعل سارتر يقرأها من هذه الزاوية، وهي رؤية أنانية، أنا برغم رؤيتي لمن يشبهني بأنه أنا، إلا أنني لا أرى الآخرين هم الجحيم إطلاقاً.

الموسيقى صناعة كونية
 الاستماع الى الموسيقى الراقية جزء من تكوين المثقف الشامل، ماذا تقول في هذا الجانب؟
بكل تأكيد الموسيقى هي مبدأ كوني انطلق منه كل هذا التناغم الدقيق في حركة الكائنات، ولم تكن الموسيقى أبداً صناعة بشرية، بل هي مخلوقة داخل النظام الكوني، والإنسان يحتاج للموسيقى كضرورة في حياته كلها، وليست ترفاً وحسب، كما يعتقد البعض، ولو على الأقل في التخاطب اليومي مع الآخرين يحتاج أن يسمع كلاماً مموسقاً يحمل أحاسيس وتعابير معينة، وعطفاً على كون صوت المغني والمنشد والمزومل موسيقى، فإن الموسيقى بمفهومها المتداول باتت حاجة أساسية في مناحٍ كثيرة في الأغنية والأناشيد والزامل، وصولاً الى الموسيقى التصويرية في الدراما والمسرح والسينما، وأيضاً في فواصل الإذاعات وشارات النشرات والبرامج... الخ.. العصر الذي نعيشه ضاج بالموسيقى، وجزء أساسي من ثقافة الإنسان، وليس فقط المثقف.

للقحوم الفضل في تأسيس فن الزامل
 قبل عدة أيام كانت الذكرى الأولى لرحيل الحنجرة الباليستية الشهيد المنشد لطف القحوم، وقد رأينا ضموراً وخفوتاً للزامل، برأيك هل رحل الزامل برحيل لطف القحوم؟ وهل يستطيع الزامل أن يخاطب العالم؟
من المهم أن نكون منصفين، ونعترف للشهيد العظيم لطف القحوم بالفضل في تأسيس فن جديد في تاريخ الفن الشفاهي اليمني، وإثرائه للمكتبة الشفاهية بالقيمة واللحن والأداء غير المألوف لفن الزامل، وفضلاً على كونه صاحب حنجرة ذهبية، ويمتلك صوتاً معبأً بالموسيقى والشجن والإحساس النابض بالحياة من داخل المعركة أو من داخل المجتمع، فإنه تمكن من ترك بصمة مهمة واضحة وخالدة في وعي الناس، لكن من الظلم لمن خاض مضمار الزامل بالتزامن معه أو بعده أن ننسف ما يقومون به من جهود وما ينتجونه، يكفيهم أن يستمروا.
ليس مهماً أن يخاطب الزامل العالم حالياً، لكن سيأتي الوقت الذي يسمع العالم الزامل، ويدرسه كقيمة فنية وتاريخية يمنية خاصة باليمن.

الأمانة أسمى مجد للكاتب
 ما هو أسمى مجد يمكن للكاتب أن يحظى به من الكتابة؟
الكاتب يوثق اللحظة ويؤرشف الحدث، وينقل للأجيال القادمة تفاصيل اللحظة بإحساسها، وبما تحمله من دلالات، وكلنا يلمس في كتابات السابقين التي نقرأها اليوم، ما يجعلنا نعيش لحظاتهم، وبأمانة النقل والتوثيق يمكن أن يكسب الكاتب مجد الحفاظ على الأمانة ونقل الأجيال القادمة الى الماضي وربطهم به.

صدمني علوان الجيلاني
 من الشخصية الأدبية التي صدمتك بانحيازها للعدوان؟
علوان الجيلاني..

 إلى أي حد استغرقتك الصحافة على حساب الشعر؟
قد شكوت لك في إجاباتي السابقة عما صنعته الصحافة بي وبالشعر، سامح الله الصحافة.

لم أتنهد مرة أخرى
  هل لك نهدات جديدة؟
(النهدات) هو ديواني الثاني، ولم أتنهد مرة أخرى، لكن لي ديوانين جاهزين للطبع هما (ساعة متأخرة من الحزن - ألف يتمرد على الأبجدية)، وعندي نصوص متفرقة كتبتها خلال السنوات الماضية، وقصيدة طويلة في رثاء المرحومة زوجتي تصلح عملاً مستقلاً.

لست راضياً عن نفسي
 أخيراً.. بعد هذه الرحلة المتوسطة بين الأوراق، هل أنت راضٍ بما تحقق من مشروعك الشعري؟
إن كنت تسألني عما حققته فأنا راضٍ وفخور بما طبعت من دواوين، وما لم أطبعه، ما جمعته، وما لم أجمعه بعد، لكني لست راضياً حالياً عن الشاعر علي جاحز الذي أوقف مشروعه الشعري لصالح الكتابة الصحفية والسياسية، لكن أعدك أن أعود لإكمال مشروعي الشعري.