علي نعمان المقطري / لا ميديا -

أسلوب المحاربة الجديد
لم تستطع القوى والأمم الوطنية الثورية الاستقلالية أن تواجه القوى العاتية الإمبريالية الاستعمارية الاستبدادية العدوانية بالطرق الحربية القديمة التقليدية. وبعد أن تعلمت المحاربة بطريقة جديدة مختلفة، وهذا يشمل العالم كله، فلم تستطع أي أمة واقعة تحت الاحتلال والاستضعاف أن تنهض وتحقق حريتها إلا بعد أن تعلمت أن تحارب بطريقة جديدة مختلفة، وسمتها أسماء عديدة مختلفة حسب ثقافة كل أمة، لكنها كلها كانت متفقة من حيث الجوهر والمضمون، فكلها تصب في محتوى حرب واحدة، هي حرب المستضعفين في الأرض، فالمعتدي كان ومازال واحدا من حيث الجوهر وإن تغير في الأشكال والأسماء والأزمان والجهات، أما الجوهر فواحد، وهو الإنسان المقهور فوق الكوكب كله الممتد عبر القارات الست، فهو ذلك الذي كان في الأول والأخير ومازال هو فقراء الأرض وكادحيها وأخيارها ومساكينها.
وإذا أوغلنا في تاريخ الحروب الإنسانية نتتبع نشوء الحرب الجديدة وأين وكيف، فإننا سنغرق طويلا في الأعماق، لأن تاريخ الحروب هو تاريخ الإنسانية الذي يمتد ملايين السنين، ولكننا نكتفي بالإمساك بلحظات تاريخية معينه تلقي الضوء على موضوعنا وتضيء جوانبه.
فقد اكتشف الإنسان القديم القبلي المحارب كيف يواجه عدواً قوياً يفوقه قوة وقدرات، ويهزمه أو يتفادى الهزيمة أمامه. وقد عُرف هذا الأسلوب عند العرب القدامى وقبائلهم بـ»حروب الكر والفر»، وعند الصينيين القدامى وكذا الغربيين والأوروبيين بـ»حرب العصابات» وعند الأمريكيين الأصليين الهنود الحمر بـ»حرب المناوشات» وعُرف بـ»حرب المغاورة» في مناطق أخرى، وكلها تقدم معنى مشتركا واحدا، وإن تغيرت أشكاله واختلفت صيغه، وهو يتضمن حقيقة اختلال القوى بين الطرفين: الطرف المتغلب الغازي، والطرف المدافع المعتدى عليه في بلاده وأرضه، ويتضمن الاعتراف بحقيقة سيطرة وقوة الغازي وهيمنته على جزء من الأرض. وعُرف هذا النوع من الحرب بـ»حرب المستضعفين» أو المقهورين، أي أن المدافع يلجأ إلى حرب جديدة تقوم على الإغارات السريعة الخاطفة ضد العدو الأقوى والانسحاب السريع من أرض المعركة قبل أن يفيق العدو القوي من الضربة الغوارية التي تلقاها مباغتة وينتقل إلى الهجوم المضاد.
ومهمة الانسحاب السريع الذي يتم بعد الإغارة الخاطفة هي أن تحرم العدو من هذا الانتقال إلى الهجوم المضاد، أي تمنعه من أن يفيق من الصدمة التي واجهها، فإذا استمرت العمليات على هذا النمط فإن العدو لا يستطيع أن يتحكم بمسار العمليات وبالحرب عامة، فيقع تحت طائلة الاستنزاف المتواصل المستمر.
إن تعبير «الكر والفر» لدى العرب كان يرتبط تاريخيا بأساليب الفروسية العربية في الحروب، وهو يقصد بالكر هجوم الخيل والفرسان المفاجئ على العدو وإنزال الضربات بقواته ثم الانسحاب السريع من الميدان قبل أن يستعيد العدو المبادرة، وبعد أن يكون قد أثخنه بالجراح وبالقتل وتخريب قدراته والاستدارة مجددا والإغارة على العدو من مكان آخر وموقع آخر، فالانسحاب لا يتضمن إلا تراجعا محدودا من مكان معين غير ملائم والاستدارة ومبادرة الهجوم والإغارة على العدو من مكان آخر لا يتوقعه ولا ينتظره، أي مفاجأته مجددا، فالمحاربة الجديدة تقوم دوما على المفاجأة الاستراتيجية والمباغتة في التوقيت والمكان والأسلوب والحجم والمسار والوسائل.
وقد عُرف هذا الأسلوب الحربي الخاص في حروب المقاومة العربية ضد الاحتلال التركي والأوروبي، ففي المغرب العربي (الجزائر والمغرب وليبيا)، وفي الشام (سورية ولبنان)، وفي اليمن ضد الاحتلال التركي والبريطاني، كانت معارك المقاومة هي معارك فرسان في الغالب وتشبه معارك الروس والإسبان ضد الفرنسيين ومعارك الهنود الحمر ضد البيض الأوروبيين المحتلين.
وكلها معارك فرسان محليين خفيفي الحركة، وهي حرب متطوعين اختيارية تقوم على الإيمان المشترك بعقيدة مشتركة وقضية عادلة، وهي وطنية قومية تمثل جميع عناصر الأمة ولا تمثل جماعة بعينها، لأنها تمثل مصالح الوطن الجامعة، وإن كانت المبادرة قد جاءت من طرف في الأمة، فالطرف القادر على الفعل لا ينتظر الإذن والموافقة من أحد، وعليه أن يبادر إلى مقاومة الأجنبي الدخيل، فالفئات الأخرى ستلحق بهم حتماً، لأن مقاومة الأجنبي واجب ثابت على كل مواطن تعرضت أرضه وبلاده وأجزاء من الوطن للاحتلال والسيطرة، فلا بد أن يشارك منفردا أو جماعيا في الكفاح المسلح والسياسي ضد تلك السيطرة والاحتلال بكل سبل المقاومة الممكنة والمتوفرة والفعالة، وهي واجب على كل إنسان وحسب طاقته.
وهي في الدين فرض عين، أي واجب لا يسقط بقيام آخرين بالدور، بل هي واجب عام على القادرين جميعا، ويتم توجيه الجهاد بدعوة من إمام الزمان أو قيادة الثورة أو الدعوة الدينية أو الزعامة الوطنية القائمة، حسب الظروف التاريخية، والمهم هو اجتماع كلمة المقاومة على قيادة وطنية واحدة تقود المواجهة والقتال والكفاح ضد المحتل.
ففي القرون الماضية كانت قيادات المقاومة هي شخصيات تكونت دينيا وعقيديا وسياسيا على أساس المبادئ الإسلامية الثورية والإصلاحية، كالسنوسية في ليبيا والشاذلية والصوفية في الجزائر والمغرب العربي والأزهرية في مصر والزيتونة في تونس والعلوية في اليمن والعراق وإيران والبحرين والهاشمية في الجزيرة العربية.
وفي الظروف الجديدة تطورت عقائد الكفاح الوطني والإسلامي، فقد امتزجت العقائد الدينية بالوطنية والقومية واليسارية نتيجة حداثة الثقافات الوافدة إلى المنطقة، وتأثر أطراف من أبنائها بتلك الثقافات والفلسفات الحديثة، وتعرض الوعي الإسلامي الأصيل للاختراق والسيطرة والتزوير من قبل وكلاء الغرب وعملائه وسيطرتهم بدعم الاحتلال على المؤسسات الدينية الرسمية ومراكز العبادة والإفتاء، وتوظيفها لصالح الاحتلال الأجنبي، وبإبعاد الناس عن الجهاد والكفاح والدعوة إلى الأعمال الصالحة... والابتعاد عن الصراعات والكفاح الوطني هو ما خلق هوة بين الشعب الوطني الثائر وبين فقهاء السلاطين والاحتلال، وخاصة في البلاد العربية المحتلة، مما أدى إلى إنبات العقائد الثورية الإسلامية خارج البواتق الرسمية والمؤسسات ونشوئها داخل البنيات الشعبية الجهادية غير الرسمية وغير المعترف بها.

حرب المدافعة الهجومية الحركية
عندما يكون المُدافع المعتدى عليه صاحب الأرض، وهو صاحب القضية العادلة، فهو الأقوى معنوياً وعزماً وإصراراً، وهو ما يفتقر إليه العدو المعتدي الأجنبي ووكيله. والمُدافع يعرف نقاط ضعف العدو ويتجه إليها لاستهدافها بالهجوم، ويعرف نقاط قوة العدو فيتجنبها، وهذا يعتمد على تفوق صاحب الأرض في المعلومات والاستطلاع الجيد والبيئة الحاضنة التي تتطوع لتوفير المعلومات عن تحركات العدو بشكل شامل.
العدو دوماً يكون مكشوفاً في تحركاته؛ لأنه يتحرك في أرض غريبة عنه ومعادية له، ولو كان من مرتزقة العدو المحليين، فهو بحكم العدو نفسه، ومصيره مصير العدو الأساسي، وهو لا يستطيع كتمان خططه العامة واتجاهاته، لأنه لا يعرف الأرض والمكان ولا الناس، ومن ثم يكون مضطراً دوماً إلى السؤال عما يجهله، وهو يجهل كل شيء، ففي أسئلته التي لا تتوقف تكمن المعلومات الضرورية وتحركاته القادمة واتجاهاته واهتماماته وتحددها وسلم أولوياته ونواياه الحقيقية.
وهذا كله يصب في بوتقة القيادة الثورية، ومن ثم تكون أساس تحركاتها القادمة وخططها. وهذا أحد أهم أسرار قوتها وانتصاراتها وتقدمها في المبادرة والميدان والخطة والحركة واستباق تحركات العدو واستغلالها في استهدافه، فالكمين الناجح لا يكون إلا إذا توفرت المعلومات الدقيقة عن حركات العدو واتجاهاته ومواعيده مسبقاً، وبدون تلك المعلومات لا يفيد الكمين سوى إهدار الوقت والطاقات بلا جدوى.

أشكال المحاربة والقتال
الكمين والإغارة هما أهم أشكال المحاربة الجديدة، والفارق بينهما هو أن الإغارة تتم من الحركة الدائمة خلال الهجوم المتحرك أو الدفاع المتحرك، فالإغارة حركة دائمة وسريعة. أما الكمين فيتم بثبات نسبي، في الكمون والاختفاء في المكان المعد للهجوم على العدو والإغارة عليه. فالكمين شكل من أشكال الإغارة على العدو في نهاية المطاف، طريقة نوعية لتحقيقها. وفي الإغارة يختفي عدد من الأشكال، منها الاستهداف بالصواريخ والمفخخات والمتفجرات والرمي والقنص والتصفية المباشرة والتلغيم والتفخيخ والتدمير، ومتابعة الحركة لتجنب الرصد المعادي القادم، والانتقال إلى اتجاه آخر ملائم، ونصب الكمين الجديد للعدو خلال حركته الجديدة واستهدافه مجددا.
فالكمين هو حالة انتظار وتربص يقوم بها المحاربون الوطنيون توقعا لمرور العدو من المكان المحدد المستهدف بالكمين، فإذا مر بهم طوقوه وأغاروا عليه وهاجموه بطرق وأدوات ووسائل مختفة، ثم سارعوا إلى الانسحاب من المكان، لأن المكان سيصبح هدفا للقصف الجوي والصاروخي والمدفعي والمسيري.
إذن، لا تعارض بين الكمين والإغارة، وإنما أحدهما شكل للآخر فقط، يتداخلان بعضها مع بعض، إنهما وجهان لعملية واحدة، فالكمين يؤدي إلى الإغارة، والإغارة قد تؤدي إلى كمين في نهايتها أو وسطها، فهما تكتيكان مترابطان يستخدمهما المحارب حسب مقتضيات الظروف والاشتباك.
هناك كمائن صغيرة ومتوسطة، وهناك كمائن كبيرة وكبيرة جداً، حسب حجم القوات المستهدفة والمستخدمة في الكمين والأهداف المحققة من الكمين.
وهناك كمائن ضخمة حدثت خلال المعارك في التاريخ والحروب البعيدة والقريبة والراهنة وخلفت خسائر كبرى وحاسمة للعدو، فأصبحت في محتواها وتقييمها أكبر من الإغارة والمعركة، وإنما أصبحت بمثابة معركة كبرى غيرت مجرى الحرب كلها وغيرت التوازنات الاستراتيجية بين المتحاربين. ولا يشترط أن يكون الكمين في مكان واحد، بل يمكن أن يقسم إلى عدة أنساق متقاربة، حسب الظروف والمتطلبات الحربية، ويمكن أن يحتوي على كمائن أخرى احتياطية محتملة أيضاً في أماكن أخرى أبعد من المكان الأساسي للكمين الرئيسي، وقد يتضمن كمائن خداعية هيكلية أو ثانوية احتياطية أو حمائية له.

كمين حزب الله في حرب تموز
يعتبر الكمين اللبناني الذي نصبه حزب الله للقوات الصهيونية الغازية، في وادي الحجير، نموذجاً حديثاً وراقياً وقوياً لهذ النوع من المحاربة، وهو كمين صار بمثابة معركة حاسمة للحرب العدوانية كلها في تموز 2006، فقد كان نتيجته المباشرة هي تدمير وإعطاب وشل أهم قوات العدو المدرعة الضاربة التي وقعت في الكمين المعد بإحكام واقتدار.
إن الإغارة على العدو، التي حدثت خلال الكمين، قد توجهت إلى القوات الرئيسية للعدو: المدرعات والدبابات والمَدافع، فأصابته في مقتل خلال دقيقة واحدة أو ثوانٍ معدودة، فدمّرت عليه فوراً فرقة مدرعة كاملة تجاوزت المائة دبابة «ميركافا» هي الأفضل والأضخم والأحدث عالمياً. لقد وقعت في الفخ زبدة قوات العدو الرئيسية الضاربة، فلم تفده الطائرات ولا البوارج البحرية ولا المسيّرات. ومعنى ذلك أن الجيش الصهيوني كله كان قد وقع في الحصار من الوجهة الاستراتيجية العامة للحرب.
فقد عجز الكيان الصهيوني عن إرسال أية قوات جديدة إلى ميدان المعركة الرئيسية، وعن إخراج القوات المحاصرة الباقية، ولم يعد أمامه سوى التنازل للحصول من المقاومة الإسلامية الغالبة على صفقة سياسية تسمح للقوات المحاصرة بالخروج من لبنان وعدم العودة مرة أخرى، وتحققت مكاسب أمنية واستراتيجية للبنان وللمقاومة والفلسطينيين والعرب، والاعتراف بالمقاومة الإسلامية نداً استراتيجياً يتفاوضون معه متوسلين جثامين رجالهم وإطلاق أعداد من السجناء المقاومين في سجونهم.

كمين وادي أبو جبارة في صعدة
كما يعتبر الكمين اليمني ضد قوات العدوان السعودي الأمريكي، في وادي أبو جبارة بصعدة عام 2019، الذي خلف آلاف القتلى والجرحى والأسرى وانهياراً كاملاً لقوات العدو وقلب ميزان القوى الاستراتيجي جذرياً لصالح الطرف اليمني المقاوم، نموذجاً للكمائن الكبرى التي يسفر عنها تحولات جذرية في مسار الحرب. وهناك كمائن أخرى تاريخية يمكن استخراجها لاستخلاص دلالاتها الحيوية.

كمين واترلو
مثّل كمين «معركة واترلو» البريطاني ضد القوات النابوليونية ووقوع قوات «الخيالة» الفرنسية المهاجمة دون حماية المشاة، نهاية المعركة التي كانت ظاهرياً تسير في صالح الفرنسيين، حيث بدأ البريطانيون وخيالتهم يتراجعون أمام الخيالة الفرنسية المتقدمة القوية المشهورة بأنها زبدة الجيش الفرنسي؛ لكن هذه الأخيرة وقعت فجأة في فخ أُعد بإحكام واقتدار قادتهم إليه الخيالة البريطانية المتراجعة تكتيكياً في لحظة محسوبة بدقة شديدة.
في «معركة وترلو»، وبعد إبلاغ نابليون أن الخيالة البريطانية تتراجع وبدأت تنهزم وأن النصر أصبح وشيكاً، ثاب إلى الراحة والنوم وسط المعركة وسلم القيادة لوزير حربيته الماركيز بافو، الذي راح يلاحق الخيالة الهاربة ويطاردها حتى لا تتجمع من جديد، دون أن يأخذ في صحبته قوات مشاة تحميه من الأفخاخ والكمائن المحتملة، وأخيراً وقع في الفخ.
كان البريطانيون قد خططوا جيداً للكمين والفخ، عبر التظاهر بالانهزام والتراجع نحو منطقة الكمين خلف التبة التي كانت تفصل السهل وتخفي الكمين المعد من قبل المعركة، وكانت قوات كتائب قناصة ضد الخيول والفرسان قد عبأت وكدست في حفر مربعات متخندقة محمية جيدا مهمتها استهداف القوات الفرنسية المهاجمة (60,000 فارس وحصان)، وتم قتلهم جميعا تقريبا، وهم كانوا زبدة ونخبة القوات الفرنسية وقوتها الهجومية الضاربة، وهكذا حانت على الفرنسيين الهزيمة الكاملة في الميدان خلال وقت قصير جداً، فلم يصحُ نابليون من نعسته المستريحة إلا على أخبار ووقائع الهزيمة وهي تحيط به من كل جانب.
كانت الخديعة الاستراتيجية البريطانية قد تمثلت في إقناع وإيهام الفرنسيين من خلال تحركات مخادعة أجادتها في التدريبات السابقة للمعركة وفي حشد هائل للقوات الأوروبية المتحالفة التي ضمت القوات البريطانية والروسية والألمانية والنمساوية والاسكتلندية وغيرها، بحيث حققوا تفوقا عدديا هائلا على نابليون وقواته التي كانت لا تزيد عن 350 ألف جندي، وأنهم كانوا قد توغلوا عبر الغابات وسيطروا على طريق عودته وقطعوا خطوط إمداداته، وكانوا قد وحدوا قواتهم وقيادتهم تحت القيادة البريطانية برئاسة الجنرال البريطاني ويلسون.
وكانت القوات البريطانية المتراجعة تكتيكيا قد أغرت الفرنسيين بمواصلة الهجوم خلفها دون معرفة بوجود الكمين القاتل المدمر المفاجئ بعيدا في عمق وسط مؤخرة البريطانيين، فقد تمكن آلاف الرماة والقناصين الكامنين جيدا في حفر أرضية من إبادة قوات الخيالة الفرنسية بكاملها، ما أدى إلى انهيار بقية القوات الفرنسية وهزيمتها ووقوع نابليون في الأسر للمرة الأخيرة وإلى نهاية الحروب النابليونية وتم نفيه إلى جزيرة سانت هيلانة، غرب المحيط الأطلسي.
وهو كمين عملاق تم داخل ووسط المعركة الجارية ولم يظهر من البداية. وهذا يدل على تداخل الكمائن مع الإغارات والمعارك الجبهية أيضا، فالإغارة قد تتحول إلى كمين، والكمين قد يتحول إلى مجابهة مباشرة، والمجابهة المباشرة قد تنتج كمينا كبيرا في وسطها وأطرافها، فالطرف الأضعف تكتيكيا والأقوى استراتيجيا هنا هو الذي صمم الكمين داخل المعركة وفي نهايتها تقريبا بعدما ظهر أن الفرنسيين قد أمسكوا بالمبادرة الهجومية التي جعلت نابليون يستريح قليلا نتيجة وعكته الصحية مطمئنا إلى سير المعركة ونهايتها الموفقة في اعتقاده، ولم يكن يتوقع أنه قد خدع هو وقيادته ومخابراته التي لم تصل إلى مواضع الكمين من قبل المعركة ولم تصله مؤشرات أو تحذيرات تشير إلى وجوده، فقد كان مازال أسير اعتقاداته السابقة ومعلوماته القديمة عن عدوه، فلم يدرك أن هناك مفاجأة كبرى تنتظره وأن ما يجري أمامه هو الجانب الظاهري من خطة العدو الذي كان يحتفظ بخطة مخفية هي الأخطر والأهم، وكان هذا يشير إلى تقادم عهد قادته وتراكم ثرواتهم ورتبهم ولم يعد لديهم الطموحات التي كانت عند القيادات الشابة من جيشه الذين لم يغتنوا بعد ولم تفسدهم الثروات الضخمة والعقارات والإقطاعات التي حصلوا عليها والذين تخلفت أفكارهم ومعارفهم ومعلوماتهم عن الأحداث وعن أفكار وخطط ونوايا أعدائهم، بينما العدو وقياداته كانوا يتعلمون بحماس وقلق من جراء هزائمهم الدائمة من قبل نابليون، وهذا هو خلاصة لمذكرات نابليون نفسه وهو في سجنه.
تلك كانت مشكلة القائد المغرور بنجاحاته الطويلة السابقة على أعدائه متجاهلا حقيقة أنهم يتعلمون وسيتعلمون كيف يغلبون وينتصرون بالضرورة، ومتجاهلا ما هو أهم من كل تلك الحقائق، ألا وهو أنهم من حيث توازن القوات والعدد والسلاح والأموال والقدرات الذاتية كانوا أكبر منه ومتفوقين عليه ولم يكن ينقصهم سوى أن يتحدوا في قواتهم تحت قيادة واحدة وخطة واحدة وإرادة واحدة، وأن يعرفوا عدوهم ونقاط قوته ونقاط ضعفه، وقد فعلوا أخيراً بعد أن ألهمتهم الانتصارات الروسية الضخمة على نابليون.
وكانوا قد رأوا بأم أعينهم كيف هزم الفلاحون الروس والقوقاز نابليون وأفنوا جيشه المليوني في غابات روسيا، وهي الهزيمة التي سلبت من نابليون النوم والثقة القديمة بالنفس وصفاء العقل القيادي القديم، وحرمته من نخبة جنده وقادته وصحته الجسدية والعقلية والنفسية، وشجعت عليه أوروبا كلها التي كانت كلها تخضع تحت أقدامه في السابق، فنهض الألمان والنمساويون والبريطانيون والإيطاليون، الذين طالما أذلهم نابليون بعبقريته الحربية رغم صغر قواته؛ ولكنها كانت تملك قيادة محنكة خبيرة وفذة ومبتكرة ومتركزة، بينما كانوا هم متفرقين ويقاتلونه كلّاً على حدة، فكان يتمكن من الاستفراد بكل قوة على حدة ويهزمها شر هزيمة قبل وصول القوة الأخرى... وهكذا، وكان في المعركة يركز كل مدافعه (100 - 200 مدفع) على اتجاه واحد للعدو فيخرقه ويقسمه إلى شطرين متناثرين، فيبادر إلى إطلاق قوات الخيالة لتطويق كل قسم والإجهاز عليه قبل أن يستعيد أعصابه ووعيه من الصدمة التي أصابته جراء قوة النيران والتكتيك الذي استخدمه.

كمين ستالينغراد
 هذا الكمين الحاسم يشبه ما جرى للألمان في ستالينغراد، حين أوقعوا الجيش المهاجم برمته (مليونين ألماني من الجنود) الغزاة في الكمين الذي احتلوا مكانه وسيطروا عليه في البداية، ثم اكتشفوا متأخرين أنهم قد طُوقوا من كل ناحية، وأن الهجوم الروسي الرئيسي عليهم قد جاء من غير الاتجاه المتوقع، فقد فوجئوا بعد أشهر من القتال بأن السوفييت قد دفعوهم إلى التوغل في المدينة البطلة لاستنزافهم طويلا في حرب استنزافية في الشوارع والأحياء الواسعة المتداخلة المعادية للاحتلال، مدينة مكتظة بالسكان والمصانع والمؤسسات الصناعية، بينما كانوا يتحركون سرا من جهة خارج المدينة الصامدة في القتال الدفاعي نحو مؤخرة وأجناب القوات الألمانية ويقطعون عليهم جميع خطوط الإمداد بالكامل، حتى وجدوا أنفسهم في حصار شامل وأجبروهم على الاستسلام الكامل دون قيود أو شروط.
كان موقفا مهيبا للسوفييت يوم أن عرض ستالين آلاف القادة والضباط الألمان مأسورين مستسلمين في الساحة الحمراء في العاصمة موسكو، والصحافة العالمية تجمع وتنشر وتذيع وتصور ما يجري في موسكو وستالينغراد ولينينغراد من تحولات غيرت العالم إلى الأبد وأنقذته من غول الفاشية الرهيب. وقد عجزت ألمانيا بكل قوتها عن أن تفك حصارهم أو تدعمهم بشيء من خارج المدينة الجبهية، وقد أغرقوا في قتال استنزافي طوال عدة أشهر متواصلة حتى أنهكوا واستنزفت قواهم وإمدادهم وتموينهم وأعدادهم، ورغم تحولهم إلى الدفاع الاستراتيجي في الأخير لكن ذلك لم ينفعهم في شيء.
كانت الدولة السوفييتية العظيمة وقيادتها الثورية قد عبأت كل الشعب للعمل في المؤخرة على زيادة الصناعات الحربية والأسلحة الجديدة لخدمة المعركة الحاسمة، وقد تمكنت من صناعة المدرعات والدبابات والمدافع والمعدات بنسب لا تستطيع أن تجاريها ألمانيا رغم قوتها وتفوقها القديم واستغلالها الفاحش للبلاد الأوروبية التي احتلتها وأعادت تنظيم اقتصادها العسكري لصالحها.
كانت مواجهة ومنافسة حادة بين التنظيم الاشتراكي والتنظيم الرأسمالي للاقتصاد الوطني، فقد وضعت الدولة السوفييتية تحت تصرف الحرب الوطنية والمعركة كل الإمكانات المتوفرة، ونقلتها إلى أماكن بعيدة عن ساحات الحرب في الشرق والشمال، ولذلك استطاع السوفييت تصنيع أكثر من ثلاثين ألف دبابة ثقيلة خلال الحرب، ولم يتجاوز التصنيع الألماني (عشرة آلاف دبابة) وكان هذا مؤشر واضح إلى قوة الاقتصاد السوفييتي الجماعي، وضعف جوهر الاقتصاد الرأسمالي الفردي الأناني.

خطة عسكرية جهنمية لجوكوف في ستالينغراد
استطاع جوكوف، وهو القائد الأعلى للجبهة السوفييتية المحاصرة، أن يحول ستالينغراد إلى أكبر محرقة عسكرية ألمانية في التاريخ، عندما تمكن من الاحتفاظ بقوات احتياطية كبيرة تعادل القوات الألمانية كلها دون أن يظهرها من بداية المعركة أو يكشف عن مكانها، حتى اعتقد الألمان أنه لا يفصلهم عن حسم معركة ستالينغراد سوى بعض الأمتار داخل المدينة المحاصرة، لذلك واصلوا الهجوم دون توقف على المدينة ليل نهار بالطائرات والمدافع والمدرعات وملايين الجنود، مستندين إلى قوات هائلة العدد موجودة لهم خارج الجبهة يرتبطون بها عبر الطرق الرئيسية التي يسيطرون عليها في أوكرانيا وروسيا وحول موسكو ولينينجراد والبلطيق، موزعة على ثلاث جبهات كبرى تضم قرابة خمسة ملايين جندي آخرين وآلاف المدرعات والطائرات والمدافع.
أبقى جوكوف قوات مشاة في المدينة تواصل استنزاف الألمان، وراح يحرك قوات ضخمة سراً عبر الغابات من جبهات أخرى مجاورة وبعيدة مستهدفاً السيطرة على مفاصل الطرق الرئيسية الحربية التي يعتمد عليها الألمان في نقل التعزيزات والإمدادات والمطارات والمهابط الجوية التي يستخدمونها. لقد وجه جوكوف هجوماته الرئيسية على المناطق الخلفية المحيطية المسيطرة على الطرقات المطوقة للمدينة من خارجها، ولم يُبقِ من قواته في المدينة سوى القليل الضروري للصمود في قلب المدينة، حيث كان السوفييت قد تراجعوا قليلا إلى المناطق الخلفية من المدينة بعد استمرار الهجومات الكاسحة الألمانية دون توقف. وقد أدرك جوكوف أنه لا يمكنه أن يوقف العدو ويسحقه بشكل كامل إلا إذا قطع كافة مخارجه من المدينة وإليها، واستطاع أن يخفي نواياه عن عدوه لوقت طويل، وفي خطته المخفية استخدم القوة المسلحة في المدينة قوة تثبيت واستنزاف طويل للألمان وامتصاص كبير لقواتهم الرئيسية وشغلها بكاملها، وتحمل الكثير من التضحيات لتحقيق الهدف الرفيع ذاك، فلم يُفهم سر وحكمة الطريقة التي يدير بها المعركة في ستالينغراد والقرارات التي تحث على عدم ترك المدينة أو التراجع عنها، وهو ما أثار سعار المعركة لدى الألمان ولدى هتلر شخصيا وقيادته، لأنه رأى في ستالينغراد قيمة استراتيجية عليا وكبرى، وهذا صحيح ولكنه لم يقرأ بشكل صحيح ما في عقل جوكوف، ولم يتعلم الدرس من معركة موسكو التي خسرها في أول خسارة كبرى له، فقد كان الدرس الأهم هو أن السوفييت كانوا قد حضروا كمينا كبيرا في قلب العاصمة موسكو يتكون من قوات جبهتين عسكريتين احتياطيتين تمركزتا داخل المدينة وحولها من الشرق والجنوب، ولم تشاركا مباشرة في المعركة، فقد فكر جوكوف أن الألمان ربما تمكنوا من اجتياح الدفاعات أمام موسكو بـ30 كيلومترا، وسيكون على السوفييت أن يتراجعوا قليلا إلى قلب المدينة التي تتولى استنزافه بالقوات المتراجعة، وبعدها تتحرك القوات الكامنة للالتفاف عليه من الخلف والجوانب وتقطع عليه الطريق الرئيسي فتعزله عن قواته الكبرى خارج موسكو وعن قواعده ومراكز ثقله وإمداداته. لكن الألمان بعد أن تكبدوا هم الخسارة والهزيمة على أبواب موسكو قرروا الإسراع بالانسحاب خارج موسكو 300 كيلومتر والالتفاف الاستراتيجي حولها، وقرروا مهاجمة ستالينغراد والإحاطة الكبرى بموسكو من الشرق والجنوب ومنع وصول الغاز والنفط والسلاح والرجال من الشرق السوفييتي المترامي الأطراف وقطع خطوط إمداداتها من الشرق والجنوب وعزلها عن العالم الخارجي نهائيا وتسهيل مهاجمتها مرة أخرى بعد استنزافها من محيطها.
ولكن سؤالاً هاماً ينتصب هنا، وهو: لماذا لم يستقدموا بقية احتياطاتهم في المناطق السوفييتية الأخرى حول موسكو وكييف ولينينغراد إلى المعركة الموسكوفية الرئيسية؟ ألن تغير النتيجة لو حدث ذلك؟
من الصعب على الألمان ألا يعرفوا أن القوات السوفييتية الاحتياطية الكبرى تتركز في قلب العاصمة، ولم تدخل المعركة بعد، مما يعطيها ميزة استراتيجية كبرى تفوق ما لدى الألمان، لأنهم لا يستطيعون سحب كل قواتهم من الخلف والأطراف وإرسالها إلى محرقة موسكو، لأنهم يعلمون أنهم عدديا أقل من السوفييت ولا يستطيعون تحمل مثل تلك الأكلاف والتضحيات البشرية والعسكرية، وأن المناطق التي يحتلونها من الضروري إبقاؤها تحت أيديهم حتى نهاية الحرب، لكي يضمنوا عدم وقوعهم ككل في المصيدة الروسية التي وقع فيها نابليون في العام 1812 حين غزا روسيا ووصل حتى موسكو ودخلها فعلا ولكنه وجد نفسه في مصيدة وقد أغلقت عليه وعلى قواته بشكل كامل وتام فلم ينجُ منها سوى الإمبراطور وحده وأفني حوالى مليون جندي فرنسي.

كان المفكرون العسكريون عبر العالم قد حذَّروا هتلر من أن روسيا بلاد شاسعة لا يمكن احتلالها والسيطرة عليها من الخارج، وإنما يجب الاعتماد على المؤامرة من الداخل، وهذا نص ما كتبه الجنرال الألماني الشهير كارل فون كلاوفتش قبل قرن؛ لكن هتلر وجنرالاته المغرورين بقواتهم وعقولهم الاستراتيجية وبـ«حرب البرق الخاطفة» وبفرق وفيالق البانزر المدرعة الجديدة التي ابتدعوها وطبقوها في أوروبا بنجاح، اعتقدوا أن إمكاناتهم هذه علاج لكل الأوجاع الحربية؛ ولكنهم دفعوا ثمن ذلك التهور كل شيء، وإمبراطورية كاملة و25 مليونا من الألمان.
استباق الهجوم المضاد للعدو
بعد كل غارة أو كمين ناجح للمقاومة قد يفكر العدو بهجوم مضاد وفقاً لتوقعاته ومعلوماته السابقة والجديدة، ولذلك يعمد المحاربون الثوريون إلى اتباع قواعد التضليل والتمويه، ومن أهمها مسارات وطرق غير متوقعة في العودة إلى القواعد الوطنية وتغيير كل الترتيبات السابقة قبل العملية بأخرى جديدة والتحرك السريع لمغادرة أرض المعركة ومحيطها؛ لأن كمائن العدو ستركز على محيط المنطقة التي دارت فيها المعركة والكمين، والتحوط من استخدام وسائل الاتصال الحديثة المعرضة للاختراق والمراقبة، واتباع قواعد الصمت التكتيكي التام والتحوطات من كل الاحتمالات الممكنة، لحرمان العدو من تحقيق أهدافه وإحباط مناوراته وإجراء تغييرات في مختلف الأساليب والأنظمة المستخدمة من قبل.
حين لا يستهدفك العدو لا تعتقد أنه لا يعرف مواقعك بعد، بل هو يجمع عنك المعلومات ويواصل رصدك إلى اللحظة التي يختارها هو ليوجه لك الضربات المباغتة، فلا تمكنه من أهدافه عبر المسارعة إلى التغيير الدائم لنظام التموضع والمواضع والتثبت من كل شيء والتجديد الدائم للشفرات والاتصالات التي استخدمت وأسماء الأماكن وأرقامها وعدم الثبات في التكتيكات.

القوات الخاصة في الحرب الحديثة
من المؤكد أن الجيوش الإمبريالية لديها قوات خاصة، ومن أفضل القوات الخاصة في العالم؛ لكنها كانت تنهزم أمام القوات الخاصة من النوع الجديد، النوع الشعبي الوطني العقائدي والثوري التطوعي. وما نعنيه هنا بالقوات الخاصة الشعبية هو النوع الثاني، الشعبي الثوري الوطني الاستقلالي التحرري الرسمي أو غير الرسمي التطوعي الواقف في مواجهة الغزو الإمبريالي، فهو يتميز عنها بقوة العقيدة والإيمان اليقيني بعدالة قضيته التي يقاتل من أجلها، وهو ما يفتقده المقاتل في القوات الاحتلالية، أياً كان نوعها، وهو مدخل حاسم لهزيمتها في الحروب، مهما كانت قدراتها القتالية ومعداتها وتطورها؛ لأن الطبيعة الإمبريالية لها تحولها إلى قوات ارتزاقية لا قضية لها ولا إيمان، فالقوات الخاصة الاحتلالية هي مجردة من القوة المعنوية الروحية التي تتميز بها القوات الخاصة الوطنية، وهذا هو الفارق الحاسم في أي مواجهة بين القوتين.

القوات الثورية الخاصة الجديدة ومساراتها الواعدة
إن القوات الثورية الخاصة الوطنية الاستقلالية التحررية قد نشأت في الظروف الجديدة خلال مسيرة كفاح طويلة مجيدة من مواجهة المستعمرين والإمبرياليين والمحتلين عبر العالم الثالث كله، هي مسيرة بدأت وتواصلت خلال القرون الماضية، وإذا حددنا لها بداية زمنية فإن القرون الثلاثة الأخيرة هي قرون الاستعمار الغربي للبلاد المستضعفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوراسيا، والمقاومة الثورية المسلحة التي انطلقت في مواجهتهم هي نقطة البداية الحديثة للقوات الخاصة وحروبها الجديدة في العصر الحديث، والتي بدأت تتبلور في أنشطة حربية كبرى على قواعد جديدة مختلفة عن المألوف والمعروف والتقليدي من علوم الحرب القديمة، وقد نضجت بوضوح خلال حروب مقاومة الشعب الفرنسي الثائر ضد الاحتلال الإمبراطوري الألماني النمساوي الأوروبي نهاية القرن الثامن عشر خلال الثورة الفرنسية الكبرى، وكذلك خلال مقاومة الشعب الإسباني الثائر ضد الاحتلال الفرنسي، وخلال مقاومة الشعب الروسي الثائر ضد الاحتلال الفرنسي الإمبراطوري في مطلع القرن التاسع عشر، ثم نضجت أكثر فأكثر مع حروب المقاومة العربية ضد الاحتلال العثماني التركي المتواصلة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وحروب المقاومة الوطنية اليمنية المسلحة ضد الاحتلالات العثمانية التركية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، ومقاومة الأمريكيين الوطنيين للاستعمار البريطاني للقارة الأمريكية الشمالية وهزيمته بواسطة الحرب الغوارية الشعبية، وهي حرب قوات خاصة، وفي حركات مقاومة الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن والبلاد العربية وضد الاحتلالات الفرنسية والإسبانية والإيطالية والأوروبية للقارة الأفريقية، ثم تبلورت أكثر فأكثر في حروب المقاومة الوطنية ضد الاستعماريين في روسيا السوفييتية والصين وفيتنام والهند الصينية وكوريا وكوبا وإيران والعراق ولبنان فلسطين وسورية واليمن وفنزويلا وكولومبيا وأنجولا والجزائر وإيرلندا الوطنية الثائرة ومصر والمغرب العربي (ضد الاحتلال الفرنسي والإسباني) وليبيا (ضد الاحتلال الإيطالي) وسواها من الشعوب المقاومة. خلال تلك المواجهات الثورية الشعبية الوطنية ضد جحافل المستعمرين نبتت ونمت قواعد الحرب الجديدة بنجاح ومازالت تسير من موقع إلى موقع وهي تحمل راية الحرية والاستقلال وتقود انتصارات الشعوب المستضعفة على طغاتها وطواغيتها من الأجانب ومن المحليين العملاء.

اختراق العقلية البيروقراطية العسكرية الوطنية وقصورها
هناك مسألة استراتيجية عضالية تقيد العقل العربي العسكري القيادي، وتكمن في عجزه عن إدراك حقيقة فشل التراكيب العسكرية البيروقراطية القديمة عن الوفاء بأبسط ضرورات الأمن القومي العربي والوطني في جميع البلاد العربية، وعجزه عن تحقيق الانتصارات الممكنة وإنجازها، لأنه يصر على الاحتفاظ بالتنظيمات والأفكار العسكرية الحربية المتخشبة الفاشلة المخفقة المتخلفة التي أكل الدهر عليها وشرب، لأن البيروقراطية الوطنية العربية الحاكمة قد شربت الفكر العسكري الأكاديمي من معين التبعية الفكرية الغربية، أي من معين أعدائها المفترضين، وترى فيهم مرجعيتها العلمية والفكرية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
فأزمة البيروقراطية ليست من نصيب اليمين وحده، بل واليسار أيضا له نصيب كبير في ترسيخ التبعية الفكرية تلك بطرق شتى. وسندرك هذه الحقيقة لو راجعنا تاريخ ووقائع ومجريات الحرب السوفييتية في أفغانستان وكيف تكبد السوفييت هزيمة نكراء ما كان لهم أن يقعوا فيها لو أنهم كانوا يفكرون عسكريا وحربيا بشكل صحيح وعلمي وواقعي، وباعتراف القادة السوفييت أنفسهم الذين يقولون صراحة اليوم إن تلك الهزيمة الكارثية قد أسقطت الاتحاد السوفييتي نفسه كدولة عظمى وكقوة طليعية، وعلمية الفكر العلمي العسكري والاستراتيجي، والموضوعية كانت أهم القيم التي تدعيها وتجادل بها كل منابت الفكر الأخرى.

آفاق واعدة
إذا نظرنا إلى الآفاق المنفتحة أمام الحروب الخاصة الثورية الجديدة وأهميتها ودورها في صنع التاريخ العالمي والإقليمي في مواجهة الإمبريالية الصهيونية والرجعية فإننا نرى آفاقا واسعة لا تنفك تتسع وتكتسب مجالات ومواقع وأراضي جديدة في الخارطة الدولية، فهي المخرج الوحيد من أزمة التركيب العسكري البيروقراطي التقليدي الفاشل، في مواجهة القوى الصهيونية الاستعمارية الإرهابية المتحالفة، التي تطبق أحدث الاستراتيجيات العسكرية السياسية في مواجهة القوى العربية الوطنية الإسلامية والدولية الاستقلالية.
لقد أثبتت كافة التجارب التاريخية التي مرت به البشرية المقاومة المقهورة أنها في ظل توازن القوى الدولي الذي كان ومازال يميل لصالح الاستعمار والصهيونية لا تستطيع أن تواجه بنجاح أعداءها الإمبرياليين والصهيونيين ووكلاءهم إلا بشرط واحد، هو أن تسلك طريق الحرب الخاصة الغوارية الثورية الشعبية الحديثة، وهذه هي الحقيقة الرئيسية الكبرى التي تنتصب أمام أعيننا منذ قرون مضت، ومازالت ناهضة تفرض نفسها بقوة، وكل من له خبرة استراتيجية وعسكرية ولو محدودة يمكنه أن يتوصل في تحليله إلى الحقيقة نفسها التي شرحناها آنفاً حول الأهمية المطلقة للحرب الخاصة الغوارية الثورية في تحرير شعوبنا واستقلالها وصد ودحر القوى الاستعمارية عن منطقتنا وبلادنا وأمتنا.
ومن المؤسف أننا نحن العرب قد تأخرنا كثيرا عن ركب العالم المقاوم الحر الشريف، الذي استفاد من تجاربنا وخبراتنا الكفاحية والحربية في الماضي التي ألهمته في تلك المقاومة التي خاضها. وكان الرفيق ماوتسي تونغ، الزعيم الثوري الصيني، قد قالها صراحة في أحد لقاءاته مع وفد المقاومة الفلسطينية في الستينيات عندما سألوه أن يفيض عليهم بأفكاره حول الحرب الثورية الغوارية الصينية ليطبقوها على الواقع الفلسطيني المقاوم، وقد قال لهم ماوتسي تونغ، كما جاء في المذكرات المنشورة لبعض القيادات الفلسطينية المشاركة في اللقاء المشار إليه، قال لهم: «تأتون إلينا لتبحثوا عن الخبرة الحربية الثورية ونحن قد تتلمذنا على خبرات الأحرار والثوار العرب أمثال المجاهد الكبير الليبي الشيخ عمر المختار والمجاهد الكبير الشيخ عبدالقادر الخطابي والأمير المجاهد الكبير عبدالقادر الجزائري وغيرهم، الذين قادوا كفاح الشعوب العربية الحرة في المغرب العربي الإسلامي ضد الاستعمار والاحتلال الإمبريالي الغربي الفرنسي والإيطالي والإسباني... معتمدين على شعوبهم وعلى ذاتهم، وحققوا نجاحات هائلة ومازلنا ندرسها؟! فهم المؤسسون الحقيقيون للعلم العسكري الثوري الشعبي الحديث وللممارسة الحربية الجديدة في وجه الاستعماريين العتاة، وشكلت إنجازاتهم الميراث العظيم للحركات الثورية الشعبية التي واصلت إرثهم وحافظت عليه وتعلمت منهم كيف تصل إلى الغايات الكبرى لحرية الأمة والأساليب الكفاحية الحربية والسياسية ضد المعتدين والمحتلين وأن تطردهم من البلاد مدحورين أذلاء مهزومين».
وللأسف مازال الكثير من مثقفينا الثوريين والحربيين يتخطون هذا الميراث العظيم وهم يكتبون ويعلمون المجتمع ولا يحسنون تعليمه وتثقيفه في المحصلة، ذلك أن المجتمعات العربية كغيرها لا تجيد التعلم إلا على أساس ميراثها الثقافي والفكري والعقيدي والتاريخي وخبرات شعوبها وإنجازاتهم ومساهماتهم في حركة الثورة العالمية الإنسانية، وهي لا تتعلم انطلاقا مما عند الآخرين من الشعوب والأمم، لأنها لا تفهمه ولا تدركه إلا من خلال تجربتها الذاتية وخبراتها التاريخية ودورها في المسار الكفاحي العالمي الأممي والإنساني. ومن لا يحسن إدراك خبرات شعبه وأمته الكفاحية ويعيد دراستها باستمرار لا يستطيع أن يثق بقدرة أمته وشعبه ولا يستطيع أن يبني وجدان أمته الكفاحية على أساس الحقائق والوقائع، بل يتوه في الخيالات والمطابقات التعسفية لما لا يقبل المطابقات والإسقاطات لاختلاف الظروف والشروط التاريخية بين الطرفين المعنيين بالقياس، ودون أن نفتش في تاريخ الأمة عن قدراتها ومكامن قوتها وإبداعها الثوري الواعي والعفوي الواقعي فلن نستطيع أن نصلح ونعالج ونرمم الوجدان الجمعي للأمة، وطلائعها إذا لم تلمس وتوقظ مراكز شعورها ووعيها بذاتها وبقدراتها وتؤمن بهذه القدرات فإن الأمة تظل في حالة شلل وضياع وتيهان عاجزة عن المساهمة في حركة الفعل التاريخي الجديد حتى تخرج وتولد طلائعها الواقعيين من بين ظهرانيها، الذين يفهمون حاجاتها ومطالبها ومسالكها وحساسياتها وشفراتها وضروراتها وقادرين على التواصل الإبداعي والنفسي معها والتعلم منها والتعلم لها في وقت واحد، وهذا يتطلب أن نؤمن بجدية وإخلاص بأننا بحاجة دائمة أن نتعلم منها الكثير والكثير قبل أن ننصب أنفسنا معلمين لها، ويجب التسلح بقدر كبير من التواضع الفكري والمعرفي والثقافي.
إن القوات الخاصة الوطنية تتكون في الجيوش الرسمية القائمة أو أنها تتكون شعبيا من المتطوعين الشعبيين الوطنيين، وفي الحالتين فهي قوات محاربين متطوعين، بمعنى أنهم لا يجبرون على الالتحاق بها، وإنما تعتمد على إرادة المتطوعين الواعين من الجيش والشعب، يجدون في أنفسهم الطاقة اللازمة لإنقاذ شعبهم وبلادهم من العدوان الأجنبي أو الداخلي الاستبدادي الطغياني، فهم مقاتلون من أجل الحرية والاستقلال والعدالة.
وتعتبر القوات الخاصة أو الفدائية أو الغوارية أو المغاويرية أو المجاهدون قوات عقائدية، وهي الخيار الأخير أمام الأمة عندما تتعرض للاحتلال والاستهداف الأجنبي والطغياني ويعجز جيشها عن الدفاع عن البلاد وينهار أمام العدوان الأجنبي وتتمزق قواته وقد تضرب قواته بالمباغتة وهي على الأرض أو تتعرض للحصار كما حصل في مصر في 1956 وفي حزيران/ يونيو 1967 وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1973 حين حوصر الجيش الثالث بكامله على محور السويس نتيجة اختراق العدو منطقة الدفرسوار والبحيرات المُرة، وكما حدث في روسيا بداية العدوان الألماني عام 1941، وكما حدث في فرنسا عام 1940 في الحرب العالمية الثانية.
وللقوات الخاصة مصدران: إما أن تكون قسماً من الجيش القديم ويتم تنشيطها بعد وقوع الكارثة أو النكسة العسكرية فتصبح هي قاعدة الجيش الوطني الجديد وقيادته، وإما أن تنشأ بمبادرة القوى الوطنية الشعبية بعد إبادة الجيش القديم وتدميره.
كما قد تقوم القوات الخاصة الشعبية في ظروف المواجهة الثورية مع الجيش القديم الفاسد الموالي للمحتل وللأجنبي، وبعد الانتصار تتحول هي إلى أساس وقاعدة وقيادة الجيش الجديد، الذي تبنيه من أوساط الشعب الحر الوطني المناضل، على أنقاض القوى القديمة المندحرة في ذيل المستعمر والمحتل الأجنبي، ونراها في أشكال حركة العصابات الشعبية الثورية المحاربة التحررية الوطنية الاستقلالية، وفي جيوش التحرير الوطني التحرري الاستقلالي، ونراها في محور المقاومة؛ في حركات الجهاد الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية والإيرانية، وفي جميع الحركات العسكرية الثورية الوطنية نجدها تنشأ على أسلوب ونمط ونظم القوات الخاصة أو الفدائية..
 ورأيناها في أغلب حركات وحروب التحرر الوطني في العالم الثالث وفي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وفي العالم العربي في مصر وسورية ولبنان وفلسطين واليمن والعراق والجزائر وإسبانيا وكولومبيا وكوبا وفي كل مكان خيارا أخيرا ضد الاحتلال والاستعمار والهيمنة والاستبداد والصهيونية.
فالقوات الخاصة هي الملاذ الآمن الوحيد الذي تحتاجه الأمة المقهورة المظلومة التي تعرضت للهزيمة والخيانة والاحتلال والاستبداد وتتوق للخلاص والحرية.

ما هي القوات الخاصة؟ وماذا تعني؟
القوات الخاصة كانت موجودة بأسماء مختلفة منذ عُرفت الحروب الكبيرة بين الأمم والجيوش والجماعات البشرية المتصارعة والمتنافسة.
وقوات خاصة تعني مجموعة مقاتلة ذات مواصفات وقدرات حربية خاصة (تجيد شتى أنواع الأسلحة واستخدام مختلف أساليب الحرب والقتال والتكتيكات)، وأفرادها يتلقون تدريبا وإعدادا معقدا، فهي مجموعة النخبة في أي جيش أو قوة، وهي طليعته وقوته الاقتحامية المغاويرية والفدائية ذات القدرة على إنجاز مختلف المهام القتالية في أي ظرف كان وبأي وسيلة متوفرة وبتكاليف أقل مما تكابده بقية القوات العسكرية الرسمية، وهي القوة التي تلجأ إليها الجيوش بعد أن تفشل بقية الوحدات في تحقيق الأهداف والنجاح في الحروب والمعارك والسيطرة على الأهداف الحيوية الحساسة.
وفي الحرب العالمية الثانية استطاعت القيادة الألمانية العدوانية أن تسيطر على دول بكاملها في الشمال الأوروبي بواسطة القوات الخاصة التي أنزلتها عبر الوسائط الجوية إلى المدن والمواقع المفصلية بها، وحتى تمكنت من إجبار جيوش تلك الدول على أن تستسلم أمامها. كما قامت القوات الخاصة البريطانية والفرنسية خلال العدوان الثلاثي على مصر بدور حاسم في السيطرة على المدن التي احتلتها في مناطق الإسكندرية وبور سعيد وبور فؤاد ومدن القناة الأخرى.
وفي العصر الحديث عرفت القوات الخاصة بقوات الصاعقة والعاصفة والمغاوير والنخبة والكوماندوز والمظلات وأسماء أخرى عديدة، وكلها تعني جوهرا واحدا، وهي طليعة القوات البرية ونخبتها وتضم أمهر المحاربين وأكثرهم شجاعة واستعدادا للتضحية واستعدادا بدنيا وقتاليا وجرأة وإقداما وعزيمة وجلدا وصبرا وتحملا وخشونة واحتمالا للجوع والعطش والسهر والسير مسافات طويلة والعيش في الظروف الصعبة الخطرة والتكيف مع مختلف التحديات القتالية والبيئية، ويأتون بهم للتدريب الخاص من مختلف فروع القوات الحربية الأخرى، حيث يتطوعون في القوات الخاصة ويضعون أنفسهم تحت تصرف القيادة الحربية العليا، حيث يعدون للمواقف الصعبة والشاقة التي تعرض خلال الحروب النظامية والشعبية على السواء، فقد تأتي لحظات لا يستطيع الجيش كله أن ينفذ بعض مهامها الحيوية الحاسمة لضمان المعركة أو للخروج من مأزقها ومواجهة مصاعبها وفخاخها ومشكلاتها، فالقوات الخاصة تستطيع ذلك لأنها تدربت طويلا على تلك المهام المعقدة وأعدت الرجال إعدادا دقيقا وشاملا على أيدي خبراء عسكريين مقتدرين، لذلك صارت هذه القوات نماذج للقوى الوطنية الثورية الاستقلالية في العالم كله وتسير على منهاجها وأساليبها وقواعدها.
وتتكون منظمات التحرير الوطنية الحربية من تلك القوات قليلة العدد، الماهرة في القتال، الفدائية، كثيرة الجرأة، وحولها تتنامى القوات الوطنية التحررية التي تتسع مع الزمن، وهي أساس جيوش التحرير الوطني في العالم كله، وقد عرفت هذه القوات بأسماء كثيرة وكانت تحمل محتوى مشتركا واحدا، وهو أنها أقوى قطاعات الجيش البرية في القتال وأكثرها مهارة في استخدام مختلف الأسلحة ولها قدرات فتاكة في ميادين القتال من البندقية إلى الصواريخ إلى السكين والاشتباك بالأيدي والأجساد والمدرعات والقفز بالمظلات والقتال البحري وفي مختلف ظروف المناخ في البر والبحر والجو في الغابات الثلجية والصحارى الحارة والمناطق المدارية والجبال والأحراش والمدن، وتسمى أحيانا «قوات النخبة»، لأنها تختار أفرادها من أفضل الجنود والمحاربين وفقا لقدراتهم وكفاءتهم الفردية ومواهبهم ومهاراتهم ومواصفاتهم.

إعداد الفرد المقاتل ومضاعفة قدراته باستمرار
وأول منطلق لتدريب رجال القوات الخاصة الوطنية يقوم على جعل المحارب قادرا على أن يعيش في ظل الظروف الشاقة ويكون قادرا على تدبير عيشه بنفسه في ظروف الحصار والانقطاع عن التواصل مع قواعده، ويكون باستطاعته أن يجد طعامه مما هو موجود في البيئة الطبيعية القاسية من حيوانات وأفاعٍ وجوارح وكلاب وقطط وأرانب وسلاحف وهوام وسحالٍ وغيرها مما يوجد في محيط الأرض التي يتمركز عليها، كما يدرب المقاتل على التواصل مع قواعده وزملائه بالإشارات الخاصة البسيطة والمعقدة على السواء، ويدرب على الرصد والمعلومات والمخابرات ومكافحة أعداء الوطن وجواسيس العدو والقضاء عليهم وتضليلهم بمهارة، والقدرة على اصطياد قيادة العدو خلال العمل خلف خطوطه واستهداف مراكزه واتصالاته ومواصلاته ونسف وتدمير مراكزه الحيوية والحساسة وجسوره وعبّاراته وعقد مواصلات ومحطات قطاراته وبث الشائعات والمعلومات والأخبار التي تضعف معنويات العدو وتسهل انشقاقاته الداخلية وتضرب في عمق مصداقية قياداته، وتثير الانشقاقات في صفوفه والتسرب إلى مؤخراته ومراقبته عن قرب. وكانت أهميتها قد ارتفعت مع تطور الأسلحة والحروب الحديثة وخاصة خلال الحربين العالميتين وما بعدهما من تطورات شملت الكوكب كله.

مواجهة أعقد وأكبر القوى الحربية المعادية
إن ميزة القوات الخاصة الرئيسية هي استعدادها لمواجهة أي أنواع من القوات المسلحة المعادية، مدرعة أو مشاة أو مظلات أو قوات خاصة أو غيرها، بأعداد قليلة نسبياً ولديها قدرة على الحركة والمناورة والتقرب غير المباشر من العدو واستهدافه والالتحام مع أفراده ومعداته ومدرعاته ودباباته إذا زودت بالمعدات الضرورية.
وقد تميز الكثير من المحاربين في هذ الصنف إلى حدود عالية جدا بالنجاح والإنجاز. وقد رأينا محاربين من القوات الخاصة المصرية خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر وقبلها يحققون أرقاما خيالية في تدمير المدرعات المعادية
 منهم من دمر بمفرده أكثر من 29 دبابة «إسرائيلية» وآخرون دمر الواحد منهم أكثر من 25 دبابة وأكثر من 20 دبابة ومن مسافات قريبة جداً، بعضها حوالى خمسين متراً، وخاصة أثناء العبور وخلال مواجهة الاختراق «الإسرائيلي» قرب السويس والإسماعيلية والدفرسوار والمزرعة الصينية، كبدته خسائر مئات الدبابات والمدرعات وآلاف الجنود.
وفي مواجهة الغزو «الإسرائيلي» لبيروت 1982، استطاعت القوات الخاصة الفلسطينية أن تصد هجمات القوات «الإسرائيلية» لمدة 83 يوما بعد أن كبدتها خسائر في دباباتها المهاجمة بلغت المئات، ولم يكن لديها من السلاح سوى قذائف (آر بي جي) السوفييتية، استطاعت القوات الخاصة بفضل تركيبها وتدريبها ومعنوياتها أن تتصدى لأكبر القوات الحربية المسلحة بأكثر الأسلحة حداثة وتطورا وفتكا.
وفي الحرب العالمية الكبرى، وقفت القوات الخاصة تواجه فيالق مدرعة حربية بكاملها من الدبابات والمدرعات المعادية، بقوات خفيفة صغيرة الحجم مدربة جيدا على استخدام جميع الأسلحة المتوفرة. وكان السلاح الذي شاع آنذاك في مواجهة المدرعات والدبابات هو السلاح المعروف بالبندقية الطويلة (المضادة للدبابات) والبازوكا والألغام والمدافع المضادة والقواذف المضادة للدبابات من (آر بي جي) للمدرعات والدبابات، ثم ظهر بعدها الصاروخ الموجه والإشعاعي الليزري والكاتيوشا المضادة للمدرعات، ومازال هذا السلاح يتطور باستمرار وتظهر منه أجيال أكثر حداثة وفاعلية وتطورا.
وفي حروب العرب العديدة الحديثة والقديمة رأينا هذا النوع من القوات والأسلحة ومدى فاعليتها وآثارها والنتائج التي حققتها وتمكنت من تحقيقها باقتدار كلما تضاعف الاهتمام بتربية تلك القوات النوعية ذات الطبيعة الخاصة. وتعتبر الخبرة السوفييتية في الحرب العالمية الثانية هي أقوى وأوسع خبرة عسكرية في مواجهة أعتى قوة حربية عالمية استعمارية، فهي جديرة بالدرس والاستقصاء والبحث والتعلم منها، خاصة والعالم العربي الإسلامي سيظل يواجه تحديات استعمارية بغيضة وقاسية، وسيكون عليه أن يواصل خوض أشد الحروب الوطنية وأكثرها ضراوة ودموية ضد العدوان الإمبريالي الاستعماري الأمريكي الصهيوني. ولما كانت موازين القوة التقليدية مازالت بأيدي العدو فإن أفضل أسلوب لقتاله واستنزافه هو قتال القوات الخاصة، الذي لا يستطيع مواجهته بتراكيبه الضخمة والثقيلة، وما هو ثابت الآن من خلال خبرات الحرب الوطنية التحررية ضده، فلم يواجه الهزيمة إلا عندما تصدت له قوات الثورة الشعبية الخاصة في لبنان وفلسطين وسورية ومصر وإيران وروسيا وغيرها.

الخبرة السوفييتية
لقد استطاعت القوات السوفييتية الخاصة والشعبية (الأنصارية) خلال الحرب الوطنية العظمى في مواجهة الغزو الفاشي الإمبريالي الألماني أن تدمر آلاف الجسور والوسائل والوسائط والحربية والمعدات العسكرية للعدو الغازي، وأن تقتل أكثر من مليون جندي ألماني علي أيدي مقاتليها المتطوعين (الأنصار) وحدهم، وكانت تعمل سراً خلف قوات العدو الغازي وفي المناطق الواقعة تحت احتلال الغزاة، حيث تختفي في الغابات والجبال والأحراش القريبة من مناطق الاحتلال في أراضي أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا وأستونيا ولاتفيا ولينينغراد وموسك ووستالينغراد والأورال وغيرها، فقد أسهمت وحدها بقتل وإصابة حوالى خُمس القوات الألمانية الغازية واستنزافها، وعجلت بهزيمتها من قبل الجيش الأحمر السوفييتي وحلفائه وإنقاذ العالم من براثن الشر الأكبر الذي واجهته البشرية كلها، علما بأن تلك القوات كانت قليلة العدد لا تتجاوز العشرين ألف مقاتل شعبي متطوع موزعين على جبهات كثيرة غرب الاتحاد السوفييتي، حيث كانت مناطق تحت الاحتلال، فقد تمكن الغزاة من تدمير الجيوش السوفييتية الرسمية النظامية المرابطة على الحدود الغربية خلال أسابيع قليلة، وكان عددها أكثر من أربعة ملايين جندي وآلاف المدرعات والطائرات وملايين الجنود وقعوا بالأسر خلال الأيام الأولى من الغزو الألماني الرهيب الكبير الذي ضم سبعة ملايين جندي ألماني.
ومن الجنود الذين نجوا من الأسر والموت ولجؤوا إلى الغابات المجاورة واستقروا فيها مختفين يواصلون تدريبهم استعدادا لمواصلة المقاومة للاحتلال بقيادة الجماهير الشعبية المحلية، ومن أفواج الجنود الناجين الشجعان المجربين القلائل الذين حملوا تجربة القتال ضد الألمان واختبروا العدو جيدا في الميدان وعن طريق تكليف قيادات مجربة من قبل العدوان والحرب، وكانت مكلفة وجاهزة للعودة إلى حروب العصابات الخاصة من خلف صفوف العدو وجوانبه إذا تعرضت البلاد للاحتلال.
وحددت لها المخازن والأسلحة الضرورية للبدء بالقتال وزرع الألغام وإعداد خبراء استخدام الألغام والمدافع والمتفجرات والأسلحة الأخرى. وفي سرية تامة قامت منظمات الشعب الوطنية المحلية في المناطق المحتلة بتنظيم الجماهير المتطوعة وقياداتهم وإعدادهم وتزويدهم بالمعلومات والتموين واستهداف عملاء وجواسيس العدو، وسميت تلك القوات «الأنصار»، ولبسوا ملابس الجيش الأحمر السوفييتي، وتحت قيادته قاتلوا بالتنسيق والترابط مع قيادته في موسكو، أغلبهم كانوا شباناً ومدنيين وفلاحين وعمالاً ومثقفين.
وخلال المعارك والمواجهات اليومية جرى تعميدهم بالنار وتطوروا خلال أشهر من الحرب إلى كتائب وألوية متحركة تعمل في الغابات خلف قوات العدو وتهاجمه باستمرار وتهرب إلى الغابات ثم تعود لتهاجمه من مكان آخر. وسمت فصائلها الجديدة مفارز إغارة، كراً وفراً، وكراً وكميناً، إغارة وهجوماً مباغتاً وحملة نسف وتدمير لخطوط العدو ومراكزه وإغارات واشتباكات وضربات للعدو وقواته وقادته وعيونه، وهكذا دون توقف.

كانت أسلحتهم تأتيهم من غنائم المعارك أو من الإمداد الجوي من موسكو عن طريق الجو وبالمظلات. وخلال أشهر الثلوج الشديدة حيث تصبح الأرض صلبة، وبعد أن اشتد عودهم على الأرض وصاروا قوة صلبة صنعوا لهم مطارات صغيرة في قلب الغابات المحررة، ووصلت إليهم الكثير من الإمدادات والدعم المطلوب فنيا وصحيا واتصاليا وغيره، فقد أعاقوا تقدم العدو وأخروه وخربوا مجهوداته الحربية وهددوا مؤخراته وخطوط إمداداته باستمرار ومهدوا الطريق والأرضية المناسبة ليشن الجيش الأحمر هجوماته الكبرى لتحرير المناطق المحتلة بشكل نهائي وأنزل بهم هزائم كثيرة جدا وقتل من جنودهم أكثـر من مليون جندي بالمفرق وبالإغارات والهجمات المباغتة والضربات الموجعة.
فالقوات الخاصة الثورية كانت قوات أشباح سرية تظهر فجأة وتختفي فجأة، ولا يستطيع العدو مطاردتها أو التوغل خلفها أو قطع مساراتها وطرقها وإمداداتها، فهي دائمة التغيير في تحركاتها ومساراتها ومواقع كمونها، فالحرب المتحركة حربها وأسلوبها وطريقة من طرائقها الحربية المجربة، فهي متدربة لتجتاز جميع الدروب وأكثرها وعورة ومشقة وخطرا وصعوبة، وهي تستخدم الخطوط الداخلية التي لا يعرفها العدو الغازي ولا يستطيع استخدامها في تحركاته، ولأنه لا يمكنه تأمينها لأنه يتحرك على أرض غريبة عنه معادية له فسيفاجئه في كل منعطف إغارة وكمين وفخ، وهذه من أهم عوامل قوتها.
فالعدو الغازي إذا احتل أجزاء من الأرض فهو لا يستطيع السيطرة على كل شبر فيها، وهذا مستحيل؛ ولكنه يحاول السيطرة على الخطوط الرئيسية الخارجية، وخلال الحروب التحررية يظل العدو يتحرك في الخط الخارجي، والقوات الوطنية تتحرك على الخطوط الداخلية لبلادها وبين أهلها وحواضنها الشعبية وجماهيرها.

الخبرة العربية في قتال القوات الخاصة الوطنية في معارك أكتوبر 73 المجيدة 
كانت القوات الخاصة في طليعة القوات التي هاجمت العدو وأمّنت عبور بقية القوات، فقد كانت هي مقدمة القوات وطليعتها ورأس رمحها الضارب في الميدان.
لم تكن عملية العبور مهمة سهلة، فالعبور من الضفة الغربية على قناه السويس إلى الضفة الشرقية لم يكن مهمة سهلة وميسورة، بل معرضة لتضحيات هائلة قدرت بنحو 70 ألف جندي عابر سيحترقون بسبب سلاح النابالم الحارق المحرم والموجه إلى سطح القناة من خزانات مزروعة في كيان «خط بارليف» الحصين على شرق القناة. ولإنجاز هذه المهمة كان لا بد من تعطيل خزانات النابالم ومواسيرها التي تصب في جوف وسطح القناة قبل موعد العبور وقبل بدء المعركة، وإلا تعطل العبور كله وفشلت الحرب كلها عند تلك المهمة المركزية المحورية الشاقة التي كانت تختزل كل الحرب من اللحظة الأولى وتحدد لمن النصر.
وحسب مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري وقائد عملية العبور المباشر ومخططها الكبير في حرب أكتوبر 1973، فقد تولت القوات الخاصة الصاعقة والمظلات التسلل إلى خلف قوات ودفاع العدو وقامت بتعطيل وسد جميع فتحات النابالم الحارق على طوال قناة بطول 180 كيلومترا من جهة العدو في الضفة الشرقية، حيث تسللت حتى آخر لحظة قبل العبور بدقائق (الساعة الثانية ظهرا) يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر، إلى مواقع النابالم ومواضع مخازنه وفتحاته ومواسيره دون أن يدرك العدو أو يحس، وتأكد من إغلاق جميع فتحات النابالم حتى آخر لحظة قبل الهجوم العربي. وعنما تأكدت من تعطيلها فإن العبور بدأ بسلام وفوجئ العدو بجميع فتحات النابالم لا تعمل وقد سُدَّت كل واحدة بخليط كيماوي يتصلب خلال دقائق فقط، حيث أغلقت جميع فتحات النابالم التي كانت موجَّهة إلى قناة السويس لإحراق القناة ومنع عبور القوات المصرية، وهو ما كان يمنع إقدام المصريين على العبور إلى أن وجدوا لها علاجا ناجعا في ظل قيادة الفريق الشاذلي وقيادته الوطنية الشريفة.

دور القوات الخاصة في الجولان السورية
وفي الجولان السورية المحتلة أغارت القوات الخاصة وسيطرت على أعالي قمم جبل الشيخ ومراكز القيادة والمراقبة الصهيونية في بداية الهجوم السوري، وحرمت العدو من أهم عوامل الإنذار والسيطرة والرقابة المرتفعة جدا، فقد تم إنزال قوة من القوات الخاصة والكوماندوز لاحتلال تلك القمم الهامة الحاكمة من الجو في بداية الهجوم.

في اليوم الاول للعبور تشرين الأول/ أكتوبر 73
كل من يعرف طبيعة التنظيم الدفاعي الصهيوني الضخم والمعقد على طول قناة السويس يفهم أن اقتحام مانع مائي هو الأضخم في العالم بطول 200 كيلومتر وبعرض 200 متر، حيث أقام العدو شبكة من الدفاعات على أنساق عديدة تمتد بعمق 30 كيلومترا داخل عمق صحراء سيناء من الشرق، وهذا هو الخط الأول فقط الذي يبتدئ من حافة قناة السويس الشرقية ويستمر حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وداخل هذا التنظيم الدفاعي المعقد.
بعد العبور بدقائق قامت القوات الخاصة التي عبرت نحو الشرق من القناة بالمواجهة للمدرعات الصهيونية بأسلحة (آر بي جي) المضادة للدروع والصواريخ وبالكورنيت المضاد للدبابات والمدافع المضادة للمدرعات، وكان ذلك حاسما، لأن أغلب القوات العسكرية لم تكن قد عبرت القناة بكاملها بعد، فقد استغرقت عملية العبور الكامل لجميع القوات المكلفة عدة ساعات تواصلت مع ليل اليوم الأول للحرب.
وخلال الساعات الأولى للحرب كانت القوات الخاصة في المقدمة وحدها ومعها بضعة آلاف من المشاة الصاروخية الخفيفة الراجلة، فلم تكن قد فتحت الثغرات الترابية من الجدار الترابي العالي لعبور العربات والآليات والمدرعات، فقد ظلت عملية العبور مستمرة خلال نهار وليل اليوم الأول للحرب، حيث لم يكن بالإمكان تدخل الدبابات المصرية والأسلحة الثقيلة في المعارك الأولى، إذ لم تكن قد فتحت الفتحات الترابية من الساتر الترابي الضخم العالي، الذي تم ليلا بعد ثماني ساعات من عبور المشاة والقوات الخاصة.

تولت القوات الخاصة المصرية تعويض غياب الدبابات والمدافع الثقيلة والآليات في الساعات الأولى للحرب، أي أنها حلت محل أهم القوات العسكرية الأخرى للجيش، التي ما كان يمكن لها أن تتدخل وتشارك إلا بعد فتح الثغرات الترابية، الذي استغرق ساعات طويلة من العمل في الساتر الترابي الضخم الذي كان يحمي العدو بارتفاع 30 مترا عن القناة، فقد تولت القوات الخاصة مقاتلة المدرعات والدبابات الصهيونية التي كانت أكثـر من ألف دبابة على أهبة الاستعداد لسحق المصريين وابتلاعهم بلا رحمة إذا فكروا بالعبور، ومع ذلك استطاع الفريق الشاذلي بعبقرية أن يضع خطة لاستخدام القوات الخاصة ويدربها تفصيلياً لتخطي جميع المعوقات أمام العبور بنجاح.
إعاقة وتخريب الخيانة الساداتية
دفع السادات الفرق المدرعة المصرية إلى مواجهة الدبابات الأقوى والأكثر، بعيدا عن الحماية الصاروخية الجوية، وأرسلها إلى صحراء بعيدا عند الممرات الجبلية شرق سيناء، 50 كيلومترا من القناة، لكي يدمرها العدو، متعمدا ذلك بالتآمر مع المخابرات الأمريكية ووزير الخارجية الأمريكي هنري كسينجر، فقد كان السادات عميلاً لها منذ الخمسينيات حسب الوثائق المسربة منها، وكل تصرفاته كانت تشير بوضوح إلى خيانته الجيش المصري، فقد تعمد إتاحة الفرصة للصهاينة ليدمروا الفرقتين المدرعتين المصريتين، عندما أصر على إرسالهما بعيدا عن المظلة الجوية الحامية، رغم معارضة جميع القيادات الوطنية العسكرية ومعارضتها للخطة المصرية الحربية المقرة من قبله، وفتحت الطريق أمام القوات الصهيونية لاختراق قناة السويس والوصول إلى غرب القناة ومحاصرة السويس والجيش الثالث الميداني ومهاجمة الإسماعيلية ومحاولة التقدم لاحتلال القاهرة.
فالقوات الخاصة هي التي تصدت لدبابات الصهاينة وهزمتها شر هزيمة، بأعداد قليلة من الأفراد، حيث واجهت فرق شارون المدرعة المكونة من الدبابات أمام خمس كتائب مصرية من الصاعقة والمظلات أمام مدينة الإسماعيلية في معارك البحيرات المرة والمزرعة الصينية والسويس، حيث وقفت القوات الخاصة تصد وتدمر المدرعات والدبابات الصهيونية بالجملة.
وحين تعرض الجيش المصري للخيانة من قبل رئاسة الدولة الساداتية، بعد أن سحب الفرق المدرعة من غرب القناة وأبقاها فارغة بدون أي حراسات أو حمايات من أي اختراق معادٍ كان قد خطط له من قبل الحرب، كانت القوات الخاصة هي التي تصد وتقاوم بنجاح؛ لكن لم يتوفر لها الوقت الكافي ولا الإمكانات العسكرية التي عمل السادات على تخريب كل محاولة لتدمير الثغرة الصهيونية عمدا، من موقعه كقائد أعلى ورئيس، وكان قد اعترف بذلك في مذكراته في كتابه «البحث عن الذات»، وقال: «إنني قد منعت الشاذلي من تدمير الثغرة، لأن الخسائر الإسرائيلية كانت ستصل إلى عشرة آلاف عسكري إسرائيلي، ولن ترضى أمريكا بذلك، وسوف تتدخل ضدنا، ونحن لا نقدر على محاربة أمريكا»، ولذلك قبل بوقف النار.
ولذلك أنكر وأخفى معلومة عبور العدو إلى الغرب، وقال إنها فقط سبع دبابات مختفية بين الأشجار «بتدعبس» مثل الحصان ومثل البرغوث في الفراش لا تؤثر، ولم يُطلع رئيس الأركان على المعلومات الحقيقية، ولم تعرف هيئة الأركان -إلا بعد يومين- العدد الحقيقي للاختراق المدرع للعدو نحو الغرب، وسبق له أن ترك المنطقة بدون قوات، ترك فيها فراغا بمسافة 50 كيلومتراً بين الجيشين الثاني والثالث، فالمعلومات كانت تأتي إليه مباشرة من المخابرات والاستطلاع العسكري والتصوير الفضائي من السوفييت، فيخفيها تماما لكي يعطي العدو الوقت ليكمل برنامجه واختراقاته.
ويوضح الشاذلي كل هذا الإجرام في مذكراته حول حرب أكتوبر، وعندما اخترقت القوات الصهيونية المدرعة بأكثر من ألف دبابة غرب القناة والتفت على مدن السويس والأدبية والإسماعيلية وحاصرت الجيش الثالث الميداني في السويس، حيث كانت تمر خطوط إمداداته، وأرادت حصار الجيش الثاني في الإسماعيلية وقطع إمداداته، فإن 5 كتائب فقط من الصاعقة والمظلات هي التي صمدت في غرب القناة تتصدى لهجمات المدرعات الصهيونية وتدمرها بأسلحة بسيطة: «آر بي جي» و»بي 10» وصواريخ مولوتكا وكورنيت، واستطاعت تدمير مئات الدبابات والآليات والعربات الصهيونية.
لقد دمرت القوات الخاصة أغلب دبابات العدو، التي بلغت أكثر من ألف دبابة ومدرعة في معارك العبور والمزرعة الصينية والإسماعيلية والسويس، فقد كانت سراياها وكتائبها المضادة للمدرعات موزعة على جميع الألوية والفرق المشاة.
وكانت حرب الاستنزاف هي حرب القوات الخاصة المصرية في حزيران/ يونيو 1967، بعد الانهيار الشامل للجيش المصري وتدمير طائراته وتخاذل كبار قادته العسكريين وسقوط سيناء بدون قتال ووصول الغزاة إلى شاطئ قناة السويس الشرقي، ولم يكن قادرا على مواجهة القوات الغازية سوى مجموعات قليلة من القوات الخاصة بقيادة الفريق سعد الدين الشاذلي، قائد القوات الخاصة من الصاعقة والمظلات المصرية.
وخلال حرب الاستنزاف 1967 - 1970 كانت القوات التي واصلت الحرب ضد العدو هي قوات الصاعقة والمظلات، فقد ظلت متماسكة إلى حد بعيد وتحت قيادة قوية مجربة وشجاعة ومخلصة، وخلال ثلاث سنوات من حرب الاستنزاف تكبد العدو الصهيوني آلاف الخسائر البشرية والمعنوية، وهي خسائر لم يصب بمثلها في جميع حروبه السابقة كلها، كما أعلن قادته أنفسهم في مذكراتهم.
وكانت شجاعة وحصافة القوات المصرية الخاصة من الصاعقة والمظلات والضفادع المائية والبحرية والفدائيين قد أذهلت العالم واجتذبت إعجابه كثيرا، فقد تمكن الجندي المهزوم من استعادة ثقته بنفسه وبسلاحه وبقواته وبقيادته الجديدة، بإنجازات القوات الخاصة المصرية بقيادة الفريق الشاذلي.