حاورته:بشرى الغيلي / لا ميديا -
من السواحل الدافئة بتهامةِ الحُب والشجن، البساطة واللطف والجمال، من شواطئها التي تغتسل بعذوبة القصائدِ الهامسة، من تلك الربوع لمع اسم الشاعر غالب أحمد عيسى، شاعر لم يتجاوز جغرافيا المكان إلا من شذراتٍ نشرت له هنا أو هناك، شاعرٌ أقصي وهُضم كثيرا حتى من قِبل المطبوعات التي كان يراسلها إبّان نهاية التسعينيات حتى عام 2004 كما ذكر، وفي حال تم الرد كانت تنشر له في صفحاتِ القراء في أفضل الأحوال، يقول إن عوامل كثيرة أسهمت في جعله خلف الأضواء، ناهيك عن انخراطه لفترةٍ طويلة في العملِ العسكري، الشاعر غالب فقد الكثير من نصوصه الشعرية وضاعت منه بل فقد جزءاً منه كما وصف بسبب الظروف التي لم تتح له أن يبرز أكثر، يكتب الشعر بطريقةٍ سلسة ورائعة، وكان متأثرا في بدايته الشعرية بالراحلين البردّوني وقباني، له طموحات لكنها مع الحرب والحصار تقلصت لتصبح لقمة العيش له ولأطفاله أقصى طموحاته، لنقلّب أوراق الشاعر معا قرأنا الكرام ومع تفاصيل هذا اللقاء الشيق..

فقدت تراثي الشخصي
 كتبت ذات مرة منشوراً في حائطك قائلا: «في محطة من محطات الحيرة والخيبة فقدت أو أضعت، وربما خسرت كل ما كتبته- تقريبا- طوال عشرين عاما هي سنوات الوفرة».. أي وجهةٍ تلك المحطة التي جعلتك تفقد شيئا منك؟
هذا ما حدث بالفعل، لقد فقدت كل ما كتبته تقريبا خلال 20 سنة، وهو ما ترك في نفسي حسرة دائمة! ولا أبالغ إن قلت إن ذلك كان بمثابة فقدان تلك السنوات، من الناحية المادية، ليس له أهمية، لكن من الناحية المعنوية، عاطفياً، ونفسياً، فقدت الكثير، الأمر لا يتعلق بقصائد شعرية فقط، ومسودات لقصائد لم تكتمل، لقد فقدت معظم تراثي الشخصي المكتوب مع بعض الصور الأثيرة والرسائل، وكثير من المشاعر المشتركة، وغيرها، أما كيف حدث ذلك، فهناك ظروف وهناك إهمال نتيجة عدم تقدير لأهمية ما فقدته، إلا بعد خراب مالطا كما يقولون!
بحكم عملي في الجيش، كانت معظم إقامتي في المعسكرات، ولذلك كنت أحمل تلك الأشياء معي وليس لي استقرار تام، وخصوصية، لكن ذلك حدث خلال حربنا وحصارنا من جماعة «أنصار الشريعة والقاعدة» في معسكر اللواء في زنجبار بأبين تحديدا، متى وكيف فقدتها؟ لا أعلم، لكن تقريبا بداية العام 2012 لا أدري كيف؟ صحيح كان لي سكن خاص متواضع، لكن في بعض الأحيان كنت أضطر لمشاركة آخرين للحاجة إلى ذلك، ولا أدري هل أخذت أم تلفت، أم ماذا؟ بحثت وسألت ولكن دون جدوى، صدمت وحزنت لحد الدموع حين تأكدت من أنني قد خسرتها للأبد، بجانب كثير من الأوراق التي أضيعها باستمرار إلى الوقت الحاضر، وأعتقد المسألة أصبحت نفسية فحين يصبح لدى الشخص يقين بعدم جدوى ما يقوم به، لا يحرص على الاهتمام به.

لم تساعدني الظروف
 أنت شاعر مبدع ولك قصائد تُحفر في الذاكرة لمجرد قراءتها من اللحظةِ الأولى.. ما هي العوامل التي أسهمت في جعلك شاعرا مقصيا وبعيدا عن الأضواء؟
أنا شاعر مبدع! أشكركِ سيدتي على هذا الإطراء، لكني شخصيا، لا أرى ذلك! أنا مجرد شاعر هاوٍ لا أحترف كتابة الشعر، ولم تساعدني الظروف لأكون مبدعا، لا ظروف الزمان ولا المكان، أعني الزمان والمكان الخاصين بي، لم أجد الفرصة تلك التي تنضج تجربتي الشعرية، لم أحظ بأقل الفرص المتاحة للمطالعة الكثيرة، للمشاركة في المنتديات والأمسيات الشعرية.. إلخ، نشأت في بيئة ريفية تقل فيها كثيرا فرص الحياة المأمولة، يمكن أن تقولي إن الظروف الصعبة التي نشأت فيها، المنطقة النائية، العزلة النفسية والاجتماعية، أيضاً عملي في السلك العسكري في منطقة نائية نوعا ما، وبراتبٍ متدنٍ، حتى الدراسة الجامعية عندما أتيحت لي كانت في وقت متأخر، تحديدا في كلية الآداب والتربية والعلوم في مأرب، كانت كلية حديثة الإنشاء تفتقر لكل الأدوات التي تؤهلها لأن تكون كذلك، وفي ظروف اقتصادية غاية في الصعوبة يطول الحديث عن تلك المعوقات.

حين أعود إلى القصيدة لا أجدها
 عودة إلى ضياع معظم ما كتبته.. فقد ذكرتني بالشاعر الراحل علي عبدالرحمن جحاف رحمه الله عندما حاورته في «الثقافية» آنذاك.. فقال: «أنا شاعر مضياع متلاف لشعري..»، فهل هذا قدر مكتوب لبعض شعراء حجة المبدعين أن يفقدوا معظم ما يكتبون ولا تصل إلى القراء جميع قصائدهم، أم هو الإهمال؟
المسألة ليست قدراً، فحتى أقدارنا غالبا ما نصنعها نحن أو الظروف، وإن لم تساعدنا الظروف فلا نساعد أنفسنا ولن نحقق أدنى ما نطمح إليه، أنا أيضا أضعت الكثير، وفقدت الكثير، خلاف ما تحدثنا عنه سابقا، فمثلا أكتب قصيدة في وقت متأخر من الليل، قد تكتمل وقد لا تكتمل، أضعها تحت الفراش، وفي الصباح أنشغل عنها، أو أنساها، وحين أعود إليها لا أجدها، هذا مثال بسيط، هناك أمثلة أخرى، أيضا لا سبيل للمقارنة بيني وبين الأستاذ عبدالرحمن جحاف، هو شاعر مكتمل التجربة الشعرية ومن كبار الشعراء في اليمن وحظي بفرص متنوعة وغنية، وأظن أن القاسم المشترك بيننا هو الإهمال! أو «مضياع متلاف».

من شهقةِ الذكريات
 لكل شاعر مرحلة معينة وتأثر بمدرسة بحد ذاتها.. من هو شاعرك المفضل الذي تأثرت به في بداية حياتك الشعرية؟
في بداية حياتي الشعرية لم أجد تأثيرا كبيرا، أو واضحا لمن تأثرت بهم كنزار والبرّدوني، إلا أن هذا لا يكفي، فلو أتيح مثلا لناقد ما قراءة ما كتبته فسيجد مظاهر ذلك التأثر، رؤيتي لتجربتي غير الرؤية النقدية الأخرى، التي تملك الأدوات في بعض من قصائد تلك المرحلة -وجلها مفقود- حتما ستجدين نفس أحدهما.. أعني نزارا أو البردّوني على سبيل المثال، قصيدة «صلاة على روح لم تمت» تجدين فيها بعضا من مظاهر التأثر بالشاعر البردّوني، والقصيدة من المفقودات، لم أعد أحفظها كاملة، وهي بالمناسبة من منشوري القليل، إذ إنها نشرت في صحيفة «البريد الأدبي» المتخصصة، التي كان يصدرها الشاعر عبدالودود سيف، ومن أبيات تلك القصيدة:
قال: من هذه؟!
فقلت: حياتي كيف كانت؟!
من شهقة الذكرياتِ
هلوسات نقشتها في الزوايا
أمنيات بكيتها بعد قاتي
وإذا شئت قلت عنها: عناء
وإذا شئت قلت: حزن الشتاتِ
لا الأغاني تحسست جرح قلبي
أو دموعي ترحمت حزن ذاتي
ليت شعري والليل أطول شوقا
هل فراق الأحباب من مأساتي؟
إلى آخر القصيدة التي نسيت بعضا من أبياتها. لاحقا توقفت طويلا لدى القصيدة الدرويشية واستهوتني كثيرا موسيقى شعره، للأسف لم تتح لي الفرصة لقراءة كل ما كتب، سواء درويش أو بقية كبار القصيدة العربية، وغالبا ما استطعت قراءته من الصحف والمجلات، التي عزت هي الأخرى. إن سألتني الآن بمن تتأثر؟ أتمنى لو استطعت التأثر بأدونيس! لو سألتني بصيغة أخرى ماذا تذكر من شعر أدونيس؟ لا شيء!

محاولاتي في النشر قليلة
 نشرت قصائدك في «الثقافية»، وملحق «الثورة»، ومجلة «العربي» الكويتية، والبعض منها في «أخبار الأدب» المصرية.. من هنا يتضح أنك بدأت تنطلق بقوة ثم توقفت عن مواصلةِ نتاجكِ الشعري.. هل لذلك التوقف أسباب معينة أم أن ذلك يعود لغياب الهاجس الشعري؟
الهاجس الشعري لا يتوقف طويلا، لكن هناك عوامل متعددة، إما أن تشعل جذوته وتزيد أواره، وإما أن تخفت ناره أو تحد من توهجها، محاولاتي في النشر لم تكن كثيرة فعبثا كنت أراسل الصحف المحلية على اختلافها، من خلال البريد، ذلك في نهايات التسعينيات إلى حوالي عام 2004، لكني لم أجد تجاوبا فعليا منها، كانت معظم تلك الصحف تحيل قصائدي إلى صفحات القراء، ولا تنشرها في صفحاتها الأدبية، حتى صحيفة «الثقافية» نشرت لي في صفحة أصوات، وفي ملحق الطفل، المطبوعة الوحيدة المتخصصة التي نشرت لي قصيدة وفي صفحة بارزة مع الشاعر سليمان العيسى في صفحة واحدة هي «البريد الأدبي»، لكنها -للأسف- توقفت الشهر التالي بعدما نشرت قصيدتي، فقد كانت تصدر شهريا طبعا حدث ذلك بعد مراسلات كثيرة، واستلطاف. من خلال تعاطي تلك الصحف مع المواد التي أرسلتها إليها تأكدت أن المسألة تخضع للعلاقات، وأحيانا يتعلق الأمر بـ»النوع»، ولا علاقة لنهجهم بالأدب والشعر، ولا المواهب، لا ينبغي إغفال مسألة الظروف الصعبة، والنواحي الاقتصادية، والمعيشية، عن دورها الرئيسي في تقوقعي، أو توقفي عند مستوى معين، أو مرحلة معينة، إضافة إلى ذلك عملي في السلك العسكري، أستطيع القول إن هناك الكثير من العوامل التي تضافرت لتبقيني دائما خلف الأضواء، حتى إن هناك عوامل ذاتية، نفسية، يتعلق هذا بكوني شخصية لا تبحث عن الظهور، وكثير من العوامل والأسباب والمعوقات.. قد يأخذنا الحديث بعيداً.

مقطع من قصيدة لم تكتمل
 في إحدى قصائدك مخاطبا الوطن تقول: «أريدك حبا، فألقاك حربا -أريدك حلماً، فألقاك وهما- أريدك نقشا على معصمي، فألقاك نزفاً -أريدك شيئاً جديداً، وأنت كما أنت مازلت أمسا..». من يكتب بهذه السلاسة أو ما يطلق عليها اللغة الراقصة الهامسة، فهو قد يكون تجاوز مسمى تجربة شعرية وبدأ ببناء مدرسته الخاصة التي يشيدها من قوافيه ونصوصه.. ورغم ذلك تقول عن نفسك: «لم تنضج تجربتي الشعرية تماماً»؟
أنظر لكل ما كتبته فلا أجد فيه مشتهاي، لا أجد نفسي فيه، بل لا أجدني فيه، لا أشعر أن هذا ما أطمح إليه، أرى أن جميع ما كتبته هو مجرد مقطع من قصيدة لم تكتمل، لكني أجهل متى ستكتمل، ولعلها لن تكتمل يوما أعتصر نفسي وأجهدها، في أوقاتي القليلة التي تنتابني فيها رغبة الكتابة لأكمل قصيدتي المستعصية، لكنها تتمنع، لهذا يسعني القول لك: أنا شاعر لم أكتمل بعد، هذا ليس تواضعا! لكني بحاجة للانغماس في القصيدة بشكل أعمق.

كالقابض على الجمر
 كيف تقرأ المشهد الشعري المحلي والعربي؟
المتغيرات السياسية والاجتماعية جعلت المتمسك بقصيدته، أو روايته، كالقابض على الجمر. أسألك هل هناك جمهور واسع للشعر؟ هل هناك متلقٍ للشعر؟ بواقعية أكثر هل هنالك جدوى للشعر؟! لا تعولين على النخبة.. هل أقول لكِ إننا مع التقدم التكنولوجي المذهل، خصوصا هذا الحاصل في وسائل التواصل الاجتماعي، افتقدنا الشعور بنكهة الشعر، وبتذوقه، ناهيك عن جمهوره، فمعظم الناس يتعاطون ويتفاعلون مع الصورة، والتعليقات الموجزة المصاحبة لها ومن هذا القبيل، عصرنا عصر الصورة! حتى وإن لم تعد الصورة أمينة ومعبرة، للأسف صارت الصورة أكبر وسيلة للتزييف، لا أعني تزييف الحقيقة فحسب، بل تزييف الوعي أيضا، هذا رأيي الشخصي.

قاومت التبلّد بالقراءة
 لك إسهامات بالعمل في المجال العسكري.. ومؤكد أن ذلك العمل يحتاج إلى مرونة.. هل أثر ذلك على نتاجك الشعري؟
بالتأكيد أن العمل في المجال العسكري يؤثر سلبا، ويبلد المشاعر، لذلك حاولت مقاومة هذا التبلد بالقراءة، خصوصاً الصحف، وقد نجحت حينا وأخفقت أحايين أخرى، مضطرا التحقت بالعمل العسكري، وحقيقة لم أجدني يوما فيه، وإن كنت أدين له بإكمال الدراسة الجامعية، فلو كنت بقيت في القرية لما استطعت استكمال الدراسة الجامعية، وإن لم تكن بالصورة المثالية.

التفكير فقط في لقمةِ العيش
 هل فكرت يوما أن تجمع بعض قصائدك في ديوان خاص؟
فكرت بذلك حينما كنت شابا يافعا ومهووسا بالشعر خلال هذا الواقع المر، أما خلال هذه الحرب والظروف الاقتصادية الصعبة وخلال هذا الحصار الخانق، يصبح التفكير فقط في توفير لقمة العيش لأطفالي ترفا.
 تمنحك «لا» ثلاث وردات جورية.. لمن تهديها؟ كما نترك لك مساحة تختار لـ»لا» نصاً خاصاً؟
الأولى أزرعها شجنا وشوقا وحنينا على قبر والدي غشيته الرحمة، والثانية أعصرها قبلة على جبين زوجتي، أما الثالثة فأتركها حائرة حتى تعثر على من تليق به.
ختاماً أشكر صحيفة «لا» ممثلة بالأستاذ والشاعر صلاح الدكاك وطاقم الصحيفة، على هذه اللفتة، وإن كانت متأخرة، إلا أنها بادرة طيبة.
وأختار للقراء هذا النص:

مجنون بغير ليلى!

لا تكتبي بيدي عذابي
لا تكتبي إني أظل أضيع بحثا عن سرابِ
لا تجعلي الأحزان تهرق ماء أيامي
وتسرق من شبابي
لا تكتبي بيدي عذابي!
فاضت حقول الشوق في قلبي
وناحت في يبابي
غنيت كالكروان موجوعا
وذبت بلا حسابٍ
لا تكتبي بيدي عذابي!
حزن السؤال إليكِ من ندمي ومن ألمي
ومن أقسى عقابي
الدمعتان أفاضتا
والقلب منكسر
أحاول أن أعود به
فيوغل في الغيابِ
لا تكتبي بيدي عذابي!
يا من ظلالكِ شمس ذاكرتي
وطعمك سكر أيامي
وعطرك في رحابي
قد كنت في عيني وفي قلبي
فما أغراك عني بالذهابِ
لا تكتبي بيدي عذابي!
يا من صبابتها بخارطتي حدود الاغترابِ
ما كنت أدري قبل أن أهواكِ
أن الحب جد في العذابِ
يا ليتني لم أدرِ عن هذا التصابي!
يا ليتني لم أدر ما تحوين من فن ومن سحرٍ
ومن سر اجتذابِ!
ياليتني لم أدر ما تخفين من قدرٍ على قلبي المصابِ
لا تكتبي بيدي عذابي!
لا تتركي المجنون في قلبي
على ليلى ينوح بكل بابِ
حزن الهوى سفر يطول بلا إيابِ
حزن الهوى في القلب أسئلة تظل بلا جوابِ
حزن الهوى حزن الهوى إني أعاند فيكِ أقداري
وما فكرت يوما بانسحابِ!