خاص - دمشق  - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
جملة من التحركات السياسية والدبلوماسية والزيارات شهدتها دمشق خلال الأيام القيلة الماضية، تأتي أهميتها ليس فقط من تأكيد عودة النشاط السياسي والدبلوماسي من وإلى وحول دمشق، وإنما من تأكيد توازن القوى الإقليمي والدولي الجديد الذي بدأ يظهر بوضوح لصالح حلف المقاومة والمنظومة التي يتموضع فيها.
ففي زيارات ونشاطات متلاحقة زار دمشق كل من وزير الخارجية الصيني وانغ بي، ورئيس مجلس الشورى الإسلامي محمد باقر قاليباف، وشهدت عقد الاجتماع المشترك السوري- الروسي لمتابعة أعمال المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين والمهجّرين السوريين، بالتزامن مع وجود وفد روسي كبير يضم مختلف الاختصاصات الاقتصادية والخدمية.
وبالتوازي مع هذه الزيارات شهدت جنيف لقاءات روسية أمريكية حول الوضع في سورية، كما شهدت استدارة أردنية لافتة باتجاه دمشق جاءت بعد زيارة الملك عبد الله إلى واشنطن ولقائه الرئيس الأمريكي جو بايدن.
زيارة الوزير الصيني إلى دمشق كانت الأبرز في دلالاتها ومؤشراتها لتأكيد التوازنات في المنظومة الإقليمية والدولية الجديدة التي تتشكل بتسارع أكبر بكثير مما كان متوقعاً لو سارت في سياقها الطبيعي.
صحيح أن الصين كانت طيلة العدوان على سورية مؤيدة للدولة السورية، واستخدمت حق النقض الفيتو أربع مرات لمنع الولايات المتحدة وحلفائها من الاستفراد بسورية والحصول على قرار أممي للعدوان المباشر عليها، في موقف صيني كان يُراد له أن يكون رسالة، أكثر منه لمنع القرار، باعتبار أن الفيتو الصيني كان مترافقاً مع فيتو روسي جاهز ورادع، لكن بكين كانت لاتزال في مرحلة الصمت الاستراتيجي، الذي كان يقتضي منع الانزلاق إلى أي مواجهة ساخنة مع الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن تستكمل عناصر قوتها لإزاحة أمريكا عن دفة القيادة العالمية والحلول مكانها، وهو ما جعلها بعيدة عن الانخراط في معمعة الوضع السوري رغم أنها تعرف أن دمشق تشكل خط الدفاع الأول عنها، لأن سقوط دمشق في براثن العصابات الإرهابية ومشغليها من تحالف العدوان برأسه الأمريكي وامتداداته الأوروبية وأدواته في المنطقة، كان يستهدف من جملة أهدافه الاستراتيجية خنق الصين وفرملة تقدمها، لأن سقوط دمشق كان يعني سيطرة أمريكا وحلفائها على كامل المكامن الرئيسية للنفط والغاز وخطوط إنتاجها ونقلها في الخليج ووسط آسيا وشرق المتوسط، والتي كانت تعني وضع رقبة الصين في اليد الأمريكية التي لن ترحمها.
كما أن الصين كانت تدرك أن المجموعات الإرهابية المسلحة من الإيغور الصينيين، الذين جلبتهم الولايات المتحدة وتحالفها العدواني وفي مقدمته تركيا ويمارسون أنشطتهم الإرهابية في سورية بالآلاف، متواجدون فيها للتدريب لمهمتهم الرئيسية في الصين لو قيض لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" النجاح في المنطقة العربية قبل انسداده في سورية.
كما أن ضبابية المشهد في سورية حتى العام 2019 من وجهة النظر الصينية جعلتها تستبعد سورية من مشروع الحزام والطريق الاستراتيجي، الذي يحدد توجهات الصين وشركائها الخارجيين، وأحجمت عن أي مبادرة اقتصادية تجاه سورية، كما فعلت مع إيران والعراق حين يتم إسقاط الاتفاق الصيني العراقي، مفضلة أن تكون واجهتها على المتوسط من خلال تركيا رغم دور تركيا في مسألة الإيغور، وميناء حيفا "الإسرائيلي" الذي بادرت إلى استئجاره واستثمار مبالغ كبيرة فيه.
لهذه الأسباب استحوذت زيارة وزير الخارجية الصيني إلى دمشق على أهمية خاصة، نظراً لما أعطته من مؤشرات جيوسياسية ظهرت من خلال شكل ومضمون الزيارة، وأهمها:
ـ جاءت يوم أداء الرئيس بشار الأسد القسم لولاية رئاسية جديدة وسبقتها تهنئة من الرئيس شي جين بينغ ورد الرئيس الأسد عليها.
ـ تقديم الصين خطة للحل في سورية تقترب كثيراً من رؤية القيادة السورية للحل.
ـ تضمن برنامج الزيارة التوقيع على عدد من الاتفاقات الاقتصادية الهامة.
ـ تلقى الدكتور فيصل المقداد، وزير الخارجية والمغتربين السوري، رسالة من وزير الخارجية الصيني وانغ يي بمناسبة الذكرى الـ65 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين سورية والصين، وتأكيده على تعزيز العلاقات بين البلدين.
ـ أما النتيجة الأبرز فهي ضم الصين سورية لبرنامجها الحزام والطريق واعتبار الموانئ السورية منافذ بحرية لها على المتوسط باتجاه أوروبا وشمال أفريقيا، على حساب منافذ تركيا والكيان الصهيوني.
أما ما بين السطور فهو لا يقل أهمية عما أعلن من اتفاقات، حيث يتم الحديث عن تعاون صيني سوري في مكافحة الإرهاب، وإخراج أمريكا من المنطقة.
هذا التحول الدراماتيكي في الموقف الصيني ما كان ليتم لولا أن بكين أجرت تقييماً معمقاً للوضع الجيوسياسي في سورية وتأكدت من عودة دمشق لتكون نقطة التوازن الاستراتيجي في المنطقة والعالم، وأن تركيا التي جلبت ودربت الإرهابيين الإيغور الصينيين لا يمكن أن تكون صديقاً للصين، وأكثر من ذلك لا بد من معاقبتها خصوصاً بعد محاولتها ملء الفراغ الأمريكي في أفغانستان ومن ضمن مهامها نقل المسلحين الإيغور لاستهداف الصين. أما الكيان الصهيوني فهو في أزمات عميقة تجعل من المستحيل اتخاذ ميناء حيفا نافذة صينية إلى العالم، لأن كل شيء يتغير في المنطقة بسرعة.
هذه الإشارات والدلالات التي حملتها الزيارة الصينية لدمشق لا يمكن النظر إليها إلا كتثبيت للتحولات الجيوسياسية التي تؤكد أن حلف المقاومة والمنظومة التي يتموضع فيه برأسها الصيني الروسي دولياً والإيراني إقليمياً انتقلت إلى مرحلة المبادرة والفعل، وتثبيت الوقائع الجديدة وتعزيزها تمهيداً لتبوء هذه المنظومة برأسها الصيني قيادة العالم على أنقاض المنظومة الرأسمالية الاستعمارية المتوحشة برأسها الأمريكي وامتداداتها الأوروبية وأدواتها وبإدارتها الصهيونية.
الحدث الثاني البارز كان عقد الاجتماع المشترك السوري- الروسي لمتابعة أعمال المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين والمهجّرين السوريين، والذي رافقه زيارة وفد حكومي روسي كبير للبحث في موضوع إعادة إعمار سورية وتطوير العلاقات الثنائية والتعاون بين البلدين على مختلف الصعد.
وقد نجم عن هذه الاجتماعات نتائج تؤكد استراتيجية هذا الاجتماع، وأهمها:
ـ توقيع 15 اتفاقاً ومذكرة تفاهم حول الاتجاهات الأساسية للتعاون السوري- الروسي، ومن المخطط أن يتم قريباً توقيع عشرة اتفاقات أخرى في مجالات التعاون القانوني وأمن الشبكات والاتحاد الجمركي والتعاون الاقتصادي التجاري والعمل التربوي.
ـ تأكيد سورية وروسيا على ضرورة إعادة الإعمار وتصفية بؤر الإرهاب وفلوله بالتوازي مع الجهود التي تبذلها الدولة السورية لتأمين ما يلزم لعودة المهجرين السوريين.
ـ تقديم مساعدة إنسانية بمقدار مليون شريحة اختبار لفيروس كورونا و250 ألف لقاح "سبوتنيك لايت"، وما يزيد عن 160 طناً من المواد الأخرى.
ـ إطلاق عمل مهم لدراسة وحفظ مواقع الإرث الحضاري العالمي على الأراضي السورية، ومنها تدمر والمعابد المسيحية القديمة.
المسعى الروسي لتعزيز التعاون مع الدولة السورية تم استكماله في اجتماعات رسمية وفنية مع الجانب الأمريكي في جنيف لبحث الوضع في سورية، وتنفيذ ما اتفق عليه الرئيسان الروسي بوتين والأمريكي بايدن خلال القمة التي عقداها قبل حوالي الشهر في جنيف وكانت سورية الموضوع الأبرز في جدول أعمالها.
أما ما وراء هذا الكلام فهو الأهم، حيث يسعى الجانب الروسي لإقناع الجانب الأمريكي بوقف استخدام سلاح العقوبات والضغوط الاقتصادية على سورية، ووقف سرقة الثروات السورية من نفط وغاز وقمح، لأنها غير مشروعة وغير أخلاقية، وتأمين انسحاب أمريكي مشرف من سورية قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي محاولة إخراجه بالقوة.
التحرك الثالث باتجاه دمشق كان من طهران حيث زار رئيس مجلس الشورى الإيراني، محمد باقر قاليباف، دمشق والتقى الرئيس بشار الأسد ورئيس مجلس الشعب السوري ومسؤولين سوريين كما التقى قادة الفصائل الفلسطينية.
جدول أعماله كان سياسياً واقتصادياً وميدانياً، حيث أكد الرئيس الأسد أن التنسيق القائم بين سورية وإيران مستمر حتى تحرير كامل الأراضي ودحر التنظيمات الإرهابية.
بدوره أكد قاليباف أن العلاقات الدفاعية والسياسية والعسكرية بين البلدين في أحسن أحوالها.
وأوضح أن الهدف من زيارته هو تحقيق المزيد من التعاون الاقتصادي بين البلدين وترتيب الأرضية لمزيد من التعاون بين رجال الأعمال والقطاع الخاص في كلا البلدين.
وأضاف قائلاً: "نقود معاً معركة المقاومة والصمود من أجل إحقاق الحق والعدالة والمساواة، وأثبتنا أننا أقوياء وقادرون على إخافة أعدائنا المشتركين"، مؤكداً: "إننا ماضون نحو تحقيق النصر النهائي".
وفي المحور الآخر كان لافتاً الاستدارة الأردنية باتجاه سورية، والتي جاءت بعد زيارة الملك الأردني عبدالله لواشنطن ولقائه الرئيس بايدن، وشكواه من أن الإجراءات الأمريكية ضد سورية تضر بالأردن كما سورية.
المحلل الاستراتيجي الأردني العميد المتقاعد ناجي الزعبي وصف هذه الاستدارة بأنها "اعتراف ضمني بأن هناك تحولات بموازين القوى وانتصارات حققها محور المقاومة، وأن الزمن القادم يحمل في طياته تحولات دولية عميقة، تنحسر فيها القدرات الأمريكية الصهيونية وتتقدم فيها القوى المناهضة للهيمنة الأمريكية في مقدمتها الصين وروسيا كقوى دولية عظمى، وإيران كقوة إقليمية عظمى، وسورية كركن مركزي يصنع التحولات التاريخية، ومن البصيرة السياسية والحصافة إدارة الدفة بهذا الاتجاه وإن كانت مواربة ونصف استدارة مشروطة".
وأضاف أن "خطوات التقارب هي باتجاه عقارب الساعة وحركة التاريخ، وهي برغم كل شيء خطوات إيجابية وموضع ترحيب معظم شعبنا الأردني الذي يدرك أن العلاقات الإيجابية مع الأشقاء والأصدقاء مصلحة أردنية تتقدم على علاقات الوصاية الصهيوأمريكية التي حصد الأردنيون مآلاتها عذابات وضنكاً وجوعاً وفقراً ومرضاً وفساداً واستبداداً وقهراً وظلماً وتهميشاً".
وكان لافتاً ترجمة الإرادة الأردنية هذه الاستدارة بسرعة، حيث أعلنت عن فتح معبر نصيب بين البلدين وتقديم تسهيلات كبيرة لحركة البضائع والركاب بين البلدين.
ليس صعباً على المتابع رؤية التسارع في التحولات الجارية في المنطقة والعالم لصالح حلف المقاومة والمنظومة التي يتموضع بها، وعودة دمشق لتأكيد دورها كنقطة توازن استراتيجي في المنظومات الإقليمية والدولية وحيثما تكون يكون المنتصر، وهذا يؤكد أن الفترة المقبلة ستكون حافلة لتثبيت هذه التغيرات وتعزيزها.