طاهر علوان الزريقي / مرافئ -
مأزق المسلسلات الرمضانية هو في الدرجة الأولى أزمة خلق وإبداع، أكثر من أي شيء آخر. هذا ما تجلّى واضحاً في تلك المسلسلات الهابطة، فنياً ودرامياً وجمالياً، والفاقدة للنسق الجميل في المعاينة البصرية والمعالجة الدرامية واختيار للمواضيع الاجتماعية الهادفة.

إسفاف وهبوط
لا يوجد أحد في البلد لا يعاني من إسفاف وهبوط تلك المسلسلات الموجهة مباشرة -وبدون رحمة وبنسب تصاعدية عالية لا تتوقف- إلى تدمير وتجهيل عقولنا واستفزاز مشاعرنا وأذواقنا واستكمال إفراغ أدمغتنا. نشاهد خواءً محزناً وهدراً للطاقات والإمكانيات، بالرغم من أن لدينا مواهب وقدرات تعيش في كنف مجتمعنا لا تقل أبداً عما هو كائن عند غيرنا، إلا أن هذه المواهب والقدرات تعيش على هامش مجتمعنا، بينما الثقافة السائدة والمسيطرة فيها خاوية من أي مضمون أو معنى، لذلك تظهر ثقافة الهامش الاجتماعي نتيجة المحسوبية والمجاملات والازدواجية في المعايير والمقاييس التي نعاني منها، والخروج عن قاعدة «الشخص المناسب في المكان المناسب».
لم نستطع حتى الآن فرض المعادلة الثقافية الحقيقية ذات الفعل والمضمون، وأن ننتقل من الثقافة الفردية المعزولة إلى الثقافة الجماعية، ثقافة تشارك فيها مؤسسات المجتمع الذي يحميها ويساندها ويوفر لها حرية العمل الثقافي والعلاقات الديمقراطية دون أن يخنقها. ولا يمكن بحال من الأحوال أن توجد نهضة اجتماعية دون نهضة ثقافية، ولا نهضة ثقافية ممكنة دون توفر مناخ من الحرية تتفتح فيه هذه النهضة، فالمجتمعات المنغلقة والمسورة بالبوليس والخوف من السلطة لا تنتج ثقافة. المجتمع المنفتح والمتوازن هو الذي يوجد الإنسان المتوازن الواعي والذي يشعر بالمسؤولية دون حاجة لمراقبة خارجية.

دراما سطحية وخواء فكري
ولا شك في أن واقع المسلسلات التلفزيونية الرمضانية، الغائبة طول العام والحاضرة في رمضان بكثافة هزيلة وهبوط فني، تتطلب قراءة نقدية متكاملة لا يتسع المجال لها هنا، لسبب تشعباتها وحاجتها الملحة إلى معاينة تحليلية تجمع الثقافي بالاجتماعي والفني بالسياسي والفكري بالجمالي، في حين أن تلك المسلسلات فاقدة لتلك القيم، ولم تستطع أن تفرض لغة بصرية جديدة ورؤية فنية وفكرية مغايرة للمسلسلات المصرية، وإنما كرست المدرسة نفسها وبألوان درامية هشة وأكثر سطحية من ناحية الأداء والخواء الفكري وصيغة المبالغة، وابتذال وافتعال مشاهد المطاردة والخناقات والعصابات لإضفاء التشويق على المواقف الدرامية الراكدة والتكرار الممل، والهروب من الواقع، وتغييب المكان والزمان، واختلاق حكايات وبطولات مثيرة هامشية وصراع درامي ضعيف وركيك بين الأخيار والأشرار، من دون أي قيمة فكرية يمكن أن نعثر عليها في هذا النوع من المسلسلات التي مازالت بعيدة عن النضوج، وتبحث عن ذاتها، والمفبركة وغير المرغوبة جماهيرياً، وعلى حساب ألوان درامية أخرى قد تكون أكثر مصداقية وأكثر انسجاماً في شرح ومعالجة الواقع ومشكلاته، وتبتعد عن فبركة الأحداث والبطولات الفردية المجانية والمغامرات التي تبرز البطولات الوهمية خارقة الصفات لفارس الحب والحرب وبرؤية تدغدغ مشاعر وعواطف المشاهد، وتضفي مجداً مصطنعاً وهمياً على شخص الممثل نفسه.

أعمال بطريقة السلق
مسلسلات كرست طريقة جديدة من حيث لا تدري في سلق الأعمال أثناء التصوير وفي مطها وتطويلها الممل في المونتاج. هناك أيضاً ظاهرة ارتباط الممثلين والممثلات بتصوير عدة أعمال في وقت واحد، وأصبح ذلك أمراً مألوفاً للغاية، وتعامل المنتجين مع كتاب النصوص أشبه بتعامل تجار سوق الجملة مع باعة المفرق، وغاب الكاتب المبدع صاحب وجهة النظر. المفترض بل من مهام المسلسلات التلفزيونية أن تساهم في تشكيل الفكر والوعي والوجدان وتعميق المفاهيم الإنسانية والتقدمية المقاومة للتخلف والاستبداد والظلم، وإيقاظ الضمير والوجدان الإنساني، والعمل على تثبيت القيم الوطنية والسلوك المتوازن والواعي لأبعاد العدوان وخططه وفكره العدائي في هذه المرحلة بالذات.

عيوب فاضحة واستعراضات سمجة
دور المسلسلات مهم جداً، لأنها أصبحت الشريك اليومي للإنسان، والمفترض أن تكون السلوى والملاذ والمهرب أيضاً من قسوة المرحلة والأوضاع الصعبة والمؤامرات البشعة، لا أن توصف بتلك العيوب القاتلة والساذجة والسطحية والخطابية والمباشرة والتكرار الممل والتباكي وسيطرة اللاأحدث على الأحداث، تلك العيوب الملتصقة بالمسلسلات الرمضانية على اختلاف أنواعها وتوجهاتها وادعائها، عيوب تمنعها من الاكتمال، لغياب الحس الإبداعي الإخراجي والتقطيع المنضبط في المونتاج والسيناريو الجيد، واستخدام الفلاش باك بمناسبة أو بغير مناسبة، وغياب البروفات ودراسة النص وقراءته بين الممثلين والمخرج (إن كان هناك نص أو سيناريو) والابتعاد عن التناقضات بين الشكل والمضمون والنوايا والإنجاز والحقيقة والإقناع والمبادئ والتنازلات، أو الاستطراد إلى بعض النمر الكوميدية وافتعال مشاهد المطاردات والخناقات والعصابات والقتل والتحقيقات لإضفاء التشويق على المواقف الدرامية الساكنة، وافتعال الأداء المثير عند بعض الممثلين لإثبات ذاته وأهميته في المسلسل وبصورة استعراضية سمجة على حساب الخط الدرامي للمسلسل بحيث تتعمق كثيراً لغة الازدواجية والمفارقات ولغة السخرية والحركات المصطنعة.

نمطية تزيف الواقع
مسلسلات تزيف وتهمش الواقع اليومي، ولا تضع صدقية القضية ومعاناة الشعب اليمني على المحك. مواقف نمطية غير قادرة على نقل المأساة الحقيقية والكوارث والأحداث والعدوان بصورة مؤثرة ومنسجمة مع الأحداث والوقائع دون إسفاف أو هبوط بالقيمة الفنية وأسلوب العرض، بحيث تشكل في مجموعها أدوات تنوير للمشاهد والارتقاء بذوقه الجمالي واحترام مشاعره وعقله، والتعاطي أيضاً بشكل راقٍ مع القضايا الاجتماعية والثقافية والفنية والإنسانية، ويكون هناك الحد الفاصل بين الأحداث الدرامية والموضوعية وبين الكوميدية الراقية والتهريج الساذج واحترام تقنيات المسلسلات التلفزيونية.

الهروب من المعاناة اليومية
تلك المسلسلات الرمضانية الهابطة بمجموعها دون استثناء وظيفتها الهروب من المعاناة اليومية وآثار العدوان، باستعراض أحداث وشخصيات لا تنتمي إلى واقعنا وثقافتنا ووجداننا وشموخنا وكبريائنا وروائحنا الممزوجة بعرق النضال، وأصواتنا الهادرة بالغضب الثوري، وأحلامنا المبتورة، وفقرنا وجوعنا نتيجة العدوان والحصار، ولا حضور للشخصيات التي يتسق فعلها مع وضعها الاجتماعي وتنتمي إلى الواقع وتعمق روح الصمود والوعي الوطني والإنساني، ولا تسمح بالفراغات الهامشية، شخصيات مسماة ولها هوية اجتماعية محددة ومعروفة ومشاركة في الأحداث والصمود وإبراز -بشكل طبيعي دون افتعال- القيم النبيلة والتآخي والتواصل والأمانة والمسؤولية والدفاع عن الوطن والكرامة، وضرورة تعزيز القيم الإنسانية إلى درجة يصبح معها الإنسان قوة محررة وليس قوة مطيعة عمياء، ويصبح الشخص قادراً على مراقبة النفس ومحاسبتها والابتعاد عن الازدواجية المعيقة للتطور.
التطور يتطلب التزاوج بين الفكر والفعل، بين النظرية والتطبيق، بينما شخصيات المسلسلات تعمق الانفصام وتشدد على العقاب أكثر مما تشدد على الاقتناع، وتتشكل القيم والضمير وفقاً لمعايير اجتماعية متخلفة خارجية أكثر مما هي صفة داخلية ملازمة للشخصية في جميع سلوكياتها، والتمسك بالقيم المتخلفة نتيجة ضغوط خارجية صارمة، وتكون النتيجة التبعية وتنتفي الاستقلالية وتصبح الشخصية منفذة لقوانين وأوامر ومصالح فئة اجتماعية معينة، وينتفي الإحساس بالمسؤولية الشخصية. أما حين يكون مصدر التحكم والضبط داخلياً وتصبح الشخصية مسؤولة دائماً عن نتائج أفعالها، هنا يكون الرقي الإنساني والانضباط والمسؤولية والوعي الحضاري، حينها فقط تصبح الشخصية غير محتاجة لمراقبة خارجية.

«فاقد الشيء لا يعطيه»
إن العجز الفردي يولد الجماهير العاجزة، ويكون الفرد قوياً في ظل مجتمع حر متفتح ومتطور أكثر مما هو عليه في مجتمع منغلق وبدائي.
من شروط العمل الإبداعي والخلق الفني والدرامي الاستقلالية والمسؤولية والشعور بالاكتفاء والاستقرار، بحيث تنتفي الحاجة والإذلال، شروط أساسية وضرورية ومطلوبة في العمل الإبداعي. تلك الشروط لا تتوفر للفنان المبدع من قبل الجهات المعنية بالثقافة ونشر الوعي، وأيضاً تلك المؤسسات المنتجة للمسلسلات الموسمية الهابطة، ويظل الفنان طوال العام مسحوقاً مادياً ومعنوياً وفي ظروف قاهرة وخانقة وقاسية ومحاولات مستميتة للبقاء بكرامة على قيد الحياة، ويظل طوال العام في انتظار المشاركة بدور معين في تلك المسلسلات مهما كان نوعها وشكلها ومضمونها، ويضطر للقبول بأي دور يسند إليه بغض النظر عن المستوى الفني والدرامي والموضوعي، و«فاقد الشيء لا يعطيه».