صلاح الدكاك / لا ميديا -

هذه المادة كتبت في 24 آذار/ مارس 2005 ونشرت في صحيفة الثقافية حينها

سلة حكايات وصندوق دنيا هي صنعاء القديمة، ومن الصعب أن تعبر «باب اليمن» بوابتها الرئيسية دون أن يداخلك شعور من يعبر إلى زمن آخر سحيق، قوامه مئات السنين المستحمة تحت شلال أريج أزلي... تستسلم -منذ الوهلة الأولى- لمناغاة المشربيات الخشبية «اللهوج»، وثرثرة النراجيل المشرعة على مداخل المقاهي، ولتفاصيل صغيرة في شرشف صنعانية وزرقة عيون تجرجرك صوب أعماق المكان والهاً تتبع صدى خطوات زمن ينقش طريقه موغلاً في الذاكرة!

نمط معماري أنيق مقفى وموزون ومنسجم حد الألفة ينتظم كقيثارة أوتار البيوتَ المتعددة السقوف والمبنية من حجارة الحبش والآجر الطيني المحروق والمتوشحة بأحزمة بيضاء مزخرفة من «الجص»... تبدو جغرافيا المكان الذي برعمت عليه المنازل وبسقت، أشبه بطاولة خشبية صقيلة مشغولة بمكعبات متفاوتة الأبعاد، منتظمة الإيقاع.
كل هذا البنيان المنسجم الناضح بعرق الدهر وعراقة الذاكرة كحبات المسك واللؤلؤ، لم يكن نتاج صدفة، بل نتاج حضارة مبكرة طبعت المكان بطابعها، كما يؤكد المؤرخون.
ثمة أسئلة كثيرة تبقى خاضعة لطرق وسحب الباحثين عن إجابات شافية حول عمر مدينة تقول «الأسطورة» إنها أولى المدن التي عمرت عقب الطوفان، وأن سام بن نوح الذي جاب أرجاء الأرض بحثاً عن مشفى طبيعي، وقع اختياره على هذا المكان الطيب الهواء على الدوام، فأنشأ صنعاء التي تُعرف -أيضاً- بمدينة «سام»، وباسم آخر هو «آزال» يلتقي مع اسمها الأول في معنى الحصينة المنيعة.

إنها مدينة تبدو محاولة تخليصها من أقاويل شتى متضاربة حول نشأتها أشبه بمحاولة تخليص كرة صوف من أظافر قطة عنيدة يصعب معها الوقوف على شعرة فاصلة بين الخرافة والواقع.
ومع ذلك فإن أحداً لا يجرؤ على الجزم بأن هذا هو الشكل الذي اتشحت به المدينة في صباها السحيق ونشأتها الأولى حين وثبت إلى الوجود ذات حقبة تقدر -حسب بعض المؤرخين- بثلاثة آلاف عام، وبقليل من كبح جماح الخيال يؤكد باحث في علم الآثار أن عمر الأبنية الحالية لا يتجاوز الخمسمائة عام، ويشير علي سعيد، الحاصل على دكتوراه في معمار صنعاء القديمة، إلى «دار العنبسة» كأقدم دار ورد ذكره في مراجع القرن الرابع الهجري، وهو ذو نمط معماري مختلف تماماً عن النمط الحالي للدور، ما يعني أن أنماطاً عديدة مجهولة تناوبت على شريط معمار المدينة قبل أن تندثر، بفعل عوامل كثيرة لتسلمها إلى ما هي عليه الآن من نمط تكفي قرونه الخمسة لإيقاد مشاعل دهشة في عيون زائريه.

من الحبشة إلى بلغراد
يرجع أقدم نقش يرد فيه ذكر صنعاء إلى عهد «هلك أمر بن يكرب إيل وتر يهنعم، ملك سبأ وذي ريدان» في القرن الأول للميلاد، ويأتي النقش على ذكر مدينة «شعوب» وبابها الشمالي، وهو اسم لأحد أحياء صنعاء لايزال متداولاً إلى اليوم.
وإلى الملك السابق ذاته ينسب المؤرخون بناء قصر غمدان «بضم الغين»... القصر المتخم -الآن- بالخراب وبحكايا وخرافات شتى يقطع بعضها بأن من بناه إنما كان الجن، وأن بناءه استغرق ستة آلاف عام، وكان ظله يمتد -لفرط ارتفاعه- إلى سبعة فراسخ.
وعلى الإيقاع التهويلي ذاته، تمضي واحدة من أغرب الحكايا المفسرة لاندثار القصر، فتروي أن عثمان بن عفان أو عمر بن الخطاب، أبصر ذات ليلة ضوءاً يلوح في الأفق، فسأل عنه فقيل له: إنها أنوار قصر غمدان، فأمر بهدمه، وأثناء الهدم تدحرجت حجرة عظيمة من حجارته فشكلت ما تعرف اليوم بضاحية حدة، والأرجح أن هدم القصر حدث على فترات متفاوتة، وقد استخدمت حجارته في بناء الجامع الكبير في السنة الـ6 الهجرية.
وفي قصر غمدان استقبل سيف بن ذي يزن وفود العرب المهنئة له بانتصاره على الأحباش، وكان على رأس هذه الوفود عبدالمطلب بن هاشم الذي تتناقل كتب التاريخ والأدب خطبته الشهيرة في وصف بسالة ذي يزن وأصالة وكرم محتده.
لحظات نشوة لم تدم طويلاً، وانتصار حمل نواة هزيمة وشيكة... تؤرقني صورة الملك المحفوف بتهاويل المخيلة الشعبية -تماماً كصنعاء- وهو يجلس على عرش استعاده للتو مفتوح الشهية لحقبة جديدة من المجد قبل أن ينهشه فجأة غدر سيوف وسهام الفرس حلفائه الذين استعان بهم في معارك تحرير البلاد من الأحباش، ليستولوا عليها بمصرعه وتبقى اليمن تحت حكم «الإيوان» ويجيء الإسلام فينطلق «باذان آخر ولاة الفرس على اليمن» بالشهادتين ويستمر في الحكم تحت لواء الخلافة الإسلامية على مضض من اليمنيين واستياء تمخض عن محاولات مثابرة للخروج على حكمه، لاسيما مع نظام جباية مجهض كان أشهرها محاولة «عبهلة العنسي» الملقب نكاية بـ»الأسود»، والذي تختلف الروايات حوله بشدة، فيتهمه بعضها بالردة وادعاء النبوة، بينما ترى فيه أخرى ثائراً اجتماعياً رافضاً قاوم إقطاع السلطة.
لقد قيل قديماً إن صنعاء «وجهة كل تاجر وعالم..» كناية عن كثرة أسواقها ومدارسها، وليس مجافياً للواقع أن نقول إنها -أيضاً- وجهة كل طامح في الحكم. ولعل اتصال حلقاتها التاريخية كعاصمة سياسية للعديد من الدول المتعاقبة على حكم اليمن، له علاقة بهذا النشاط الإنساني المتصل حتى اللحظة.
وسواءً كان عمر بنيانها الحالي ثلاثة آلاف أو خمسمائة عام، فإن احتفاظ المدينة بشبابها وبالكثير من ملامحها قد فرض انضمامها لقائمة مدن التراث العالمي في المؤتمر العام لليونسكو المنعقد في بلغراد عام 1980، والذي قضى قراره بقيام حملة دولية لصيانة المدينة، وأعقبت ذلك على المستوى المحلي عدة قرارات في السياق نفسه، منها قرار مجلس الوزراء عام 1982 القاضي بتشكيل لجنة المحافظة على المدينة وتحسينها، ثم قرار جمهوري رقم 76 عام 1984 بتدشين حملة وطنية لحماية وتحسين المدينة والحفاظ على طابعها المعماري وتطوير الخدمات وإبراز التراث الحضاري فيها، ووفقاً لهذا القرار الأخير تشكل حينها مجلس أمناء برئاسة رئيس الحكومة وعضوية 15 وزيراً وآخرين، يتبعه مجلس فني، غير أن كل هذه القرارات وما تلاها لم تشفع لدى اليونسكو التي وجهت تحذيراً عام 2003 من أنه إذا لم يتم تدارك صنعاء القديمة المهددة بسقوط الكثير من منازلها -علاوة على أخرى سقطت واستحدثت- فإنه سيتم شطب المدينة من قائمة مدن التراث العالمي، وهو التحذير نفسه الذي يهدد مدينة زبيد التاريخية بالشطب عما قريب، في حين أن الجهات المعنية لم تحرك ساكناً حتى اللحظة.

واحة في صحراء 
تتحدث كتب التاريخ عن «يوتوبيا» لم يعد لها أثر على أرض الواقع، ففي إكليل الهمداني، يزدحم المكان بقصور عظيمة بناها الملك السبئي «شعرم أوتر» وضرب حولها حائطاً، غير أنه ما من شيء يصمد كدليل على تلك الحقب المعمارية الباذخة اليوم، فحتى السور الذي أقامه «طغتكين بن أيوب أخو الناصر صلاح الدين الأيوبي» حول المدينة بطول 5 أميال وبسبعة أبواب: باب اليمن، شعوب، السبحة، ستران، البلقة، القاع، والروم، لم يبق من أمياله الخمسة وأبوابه عدا أمتار وباب وحيد هو باب اليمن، كما يتحدث المؤرخون عن سبعين ألف مسكن وعشرة آلاف مسجد كانت تضمها المدينة على عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد.
لقد شهدت صنعاء -في الواقع- توسعات عدة، فعلى عهد الدولتين الهمدانية والأيوبية ق11 وق 12م أنشئ حي «النهرين» إلى الغرب من المدينة، وضم مقر الحاكم المعروف إلى اليوم ببستان السلطان، كما أنشأ العثمانيون في وقت لاحق «بئر العزب» ليضم مساكن موظفي الدولة وحدائقهم وقصور بعض الأئمة في القرن العاشر الهجري، وفي القرن السابع عشر الميلادي أقيم حي خاص باليهود غربي بئر العزب، كان يعرف بـ»قاع اليهود»، و»قاع العلفي» حالياً.
وفي كل التوسعات السابقة، روعي الحفاظ على النمط التقليدي للمدينة، فحتى عندما أراد العثمانيون -خلال حقبة الاحتلال الثاني لليمن نهاية القرن التاسع عشر الميلادي- إنشاء ثكنات عسكرية، حرصوا أن تكون خارج سور المدينة «العرضي».
إن ضوابط من نوع ما، ووعياً جمعياً ملزماً كان بمثابة حارس مقدس لملامح المدينة إزاء عمليات التجديد والاستحداث في مخططاتها، وتلك أبرز سمات تمدن الأمكنة والتجمعات السكانية، ولعل ما يثير الاستغراب أن تحصل مثل هذه الطفرة المدنية في وسط جغرافي تطوقه البداوة من أغلب جهاته! إن المسألة شبيهة بأن تعثر على واحة في قلب صحراء، وصنعاء القديمة هي -تماماً- تلك الواحة، ومن السهل أن تلمس مسحة تمدن في طباع وأمزجة ساكني المدينة القديمة.
إن جمال وأريحية المكان هو -ولا ريب- انعكاس لجمال وأريحية إنسان صنعاء، هذا الإنسان الذي تشع روحه عليك من زخرفات ونقوش المنازل ومن «القمريات الرخامية» والنوافذ المحدِّقة بوداعة، ومن الحجرات المكيفة بحكم التصميم والمؤثثة كما ينبغي، ومن المساحات الخضراء المزروعة وسط كل حي «المقاشم» والأزقة والطرقات الرحبة المرصوفة بحجارة الحبش، ومن الحرف والمصوغات والصناعات اليدوية المبثوثة في عشرات الأسواق، والتي لاتزال قادرة على المنافسة والجذب.
لقد عرفت صنعاء كيف تجعل من خبرات الآخرين في الصناعة والمعمار روافد تصب لصالح هويتها الخاصة في نهاية المطاف، كما عرفت كيف تحمي نفسها من زحف الصحراء وفظاظة أخلاقها، غير أن الكيفية التي مكنتها من ذلك تظل بحاجة للمزيد من إعمال أدوات البحث... إن القبيلة -في المفهوم الشائع والذي قد يكون دخيلاً عليها- تقوم على الخشونة وجفاف الفكر وعدم الاستقرار والبعد عن الاحتفاء بالجماليات واحتقار العمل اليدوي والحرف والتجارة عموماً، وهي قيم يبدو أنها اصطدمت بسور المدينة فتراجعت ولم تسجل حضوراً يذكر بالنظر إلى رفاهية المكان وجمالياته ونظافته وسلاسة الحياة فيه واشتغال أصحابه بضروب المهن والفنون والآداب!.  

كما أن صنعاء كانت محطة هامة تنزل بها أعداد كبيرة من جنسيات وطوائف عدة لمقاصد وغايات شتى، ففي مرحلة ما كانت المدينة مقصد تجار الهند المعروفين بـ«البانيان» علاوة على «الليوت»، إحدى الطوائف الهندية ومجاميع من «الرازبوت» القادمين من إقليم «راجستان» بالهند. لقد ساعد هذا الاحتكاك المبكر -ولا ريب- في صقل وتنمية الخبرات المحلية، وأضاف إليها خبرات.
وبطبيعة الحال، فإن البنية التحتية للمدينة باشتمالها على خدمات عديدة من «مطاعم، وسماسر للسكنى، وحمامات عامة وخاصة، ومخارف، ومتنزهات وأربطة علم بملحقات لإيواء الطلبة... وغيرها من خدمات الزائر والمقيم»، كل ذلك جعل من المدينة مركز جذب بالضرورة. وتقرأ في كتابات المؤرخين والرحالة الذين قصدوا المدينة في تواريخ متفاوتة أوصافاً وانطباعات -تطول وتقصر- لتضعك أمام مشاهد لمكان على مستوى من التطور والتعقيد العمراني والتجاري تحكمه منظومة قيم وقوانين ضابطة للعلاقات والأنشطة المعتملة فيه.
لقد استوقف السوق -كظاهرة- الكثيرين فكتبوا عنه وخصصوا مؤلفات قصرت على وصفه ووصف قوانينه، وكان أبرز من تناولوا هذا الجانب من المؤرخين والرحالة «فخر الدين الرازي» في كتابه «تاريخ صنعاء»، ويضم فصلاً عن قانون صنعاء، القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، علاوة على أسماء كثيرة كابن بطوطة 1877، والرحالة جون جوردين 1609، وكتاب «سوق صنعاء» للبروفيسور «والتر دوستال» الذي يذكر أنه كان بصنعاء حتى العام 1974، تسعة وأربعون سوقاً، وتسع وعشرون سمسرة ونزلاً للإقامة، أما «كارستن نيبور» فيصف سوق صنعاء بأنه «سوق متميز ومتعدد الأغراض»، ولهذا الأخير خريطة شهيرة رسمها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر تحدد تطور معالم مدينة صنعاء إلى جانبي خرائط «ماتروني 1879» والوالي عاصم باشا، و«راتينز وفون فيسمن 1929».
إن اندثار المدن يبدأ باندثار أسواقها، فالسوق -على حد وصف خبراء الاقتصاد- هو قلب المدينة النابض، في ما بعد ستحضرني هذه العبارة بقوة وأنا أقف على خرائب سوق زبيد التاريخي الذي توشك المدينة بعده أن تتحول هي الأخرى إلى مجموعة خرائب ينعق فيها الفقر، إن لم يكن ذلك قد حدث بالفعل.
إن الوضع مختلف تماماً بالنسبة لصنعاء، فسوقها لايزال عامراً بفعل فارق عناية ورعاية حكومية لا تحظى به أسواق أخرى، فعلى سبيل المثال كانت المساحة الواسعة من نصيب المشغولات والحرف التقليدية الصنعانية في معرض «إكسبو2000» المقام بألمانيا، والذي حصلت خلاله اليمن على المرتبة الثانية من بين 197 دولة، ومع ذلك فإن حرفيين قدامى في سوق صنعاء يشكون غياب الدعم الحكومي.
«ليس هناك أي دعم، وتجار الخشب يستوردون أخشاباً غير ملائمة لعمل مشغولات تقليدية منها». يقول يحيى الطويل (65 عاماً) أقدم نجاري المدينة.
التقيته في دكانه العتيق والمحشور في زاوية قصية بسوق النجارين، لايزال النمط التقليدي مطلوباً ومربحاً، كما أخبرني الكثير من اللهوج «المشربيات» والنوافذ وصناديق المجوهرات وصوانات الثياب تملأ المكان، حتى السقف.
من برواز أنيق في صدر المتحف الصغير تشخص صورة العم يحيى وإلى جواره نجله البكر الذي ورث عنه المهنة ومجموعة من الألمان في إكسبو 2000، وبرواز آخر لشهادة مكتوبة باللغتين العربية والألمانية... بيت «الطويل» من أقدم البيوتات التي توارثت مهنة النجارة، وبعد مضي قرنين من العمل المتواصل وربع هذه الفترة على عمل العم يحيى في المهنة، يقول بنبرة مشوبة بالحذر والتوجُّس: النجارة تخفف عبء الأيدي العاطلة على الدولة، لكن الحديد والألومنيوم يهددان بانقراضها. انظر إلى هذه النوافذ هناك -يشير إلى منازل مجاورة- أليست سيئة؟! أليست الخشبية أجمل؟!
أجل إنه محق، فهذا الدخيل المعدني رغم جماله في سياقه المحدث يبدو هنا أشبه بزحاف في تفعيلة القصيدة الصنعانية ذات الإيقاع الخاص والنادر على مصاف العمران القديم والحديث في كل بقاع الأرض.

شرشف بفرمان عثماني
أزور بيت الموروث الشعبي، لا أدري لماذا لا تروقني فكرة زيارة مؤسسة ثقافية رسمية، ربما لأن الثقافة فيها تتحول إلى حديث منجزات فارغ وبلا روح، وبدوره يتحول الحديث إلى شهادة حسن سيرة وسلوك لمسؤول ما تجدد له البيعة وثقة الكبار فيه، بيت الموروث شيء آخر.. إنه عصارة جهد امرأة صلبت عمرها على مذبح الوقت عند مفترق الأشياء الجميلة التي تغادر حياتنا يوماً عن يوم ولا تعود امرأة لملمت ما استطاعت من شتات ذاكرة الجمال، وأثثت بها هذا البيت المندس بصمت في أحد أزقة قاع العلفي.
أتنقل في غرف البيت الموزعة على ثلاثة طوابق مصغياً لشروح موجزة ومقرونة بإشارات تؤديها «أروى عبده عثمان» بزهو وبارتباك من يرغب في أن يقدم لضيوفه أشهى ما لديه من أطباق، فتعوقه قلة الحيلة.
قبل أشهر أقام «بيت أروى» مهرجان «المدرهة- الأرجوحة» في أحد أحياء صنعاء القديمة، وكان المهرجان -بشهادة كثيرين- أنفس لؤلؤة لم ينتظمها عقد «صنعاء» عاصمة للثقافة 2004، والمدرهة هي أرجوحة تحولت إلى وسم شهير لطقس سنوي حيث ينصبها الأطفال على مداخل الأحياء مع نهاية موسم الحج في صنعاء، ثم يشرعون في ترديد الأهازيج والتأرجح احتفاءً بعودة حجيج بيت الله الحرام بالسلامة وبذنوب مغفورة ومساعٍ مشكورة. وبطبيعة الحال فإن أطفال صنعاء القديمة لديهم وفرة من الألعاب والمسابقات الشعبية الموروثة يؤدونها في مناسبات عديدة مقرونة بأهازيج غاية في اللطف والسلاسة.
المعارض الفنية هناك العديد منها أيضاً، وهي مشرعة الأبواب على الدوام لاستقبال الزوار والراغبين في شراء لوحات صنعاء، الوجوه والأبنية ومظاهر الحياة المختلفة فيها، بعيون رسامين كان لصنعاء حضور قوي في لوحاتهم وأعمالهم التشكيلية، وتتخذ هذه المعارض من السماسر مقرات لها... والسماسر هي دور لإقامة الوافدين على المدينة من تجار وزوار كانت قديماً بمثابة فنادق الخمس نجوم اليوم، وهي أرقى بكثير من النزل الشعبية «اللوكندات» التي يوجد منها العديد في المدينة، وهناك الآن دور ومنازل استثمرها ملاكها كفنادق تجمع بين متعة الإقامة ومتعة ملامسة روح الحياة الصنعانية في الوقت ذاته.
للمرأة حضور طاغٍ في أغلب اللوحات التي شاهدتها في معرض سمسرة النحاسين، والمرأة -في الواقع- تحضر لا كوجه وملامح، بل كشراشف يسمونها بالصنعانية «ستائر- ستارة»، مجرد شراشف عابرة تترك وراءها هالة من انسيابات روح وانفعالات جسد!
إن المدينة -برمتها- تتحول إلى امرأة في نتاجات مبدعين ألهمهم المكان واستغرقهم حتى الثمالة.

صندوق وضاح
عن هذه الساحرة المسماة صنعاء، مازلت أحفظ عن ظهر قلب أبياتاً من قصيدة للمقالح عن المدينة كتبها مدرسي على سبورة الصف الرابع الابتدائي في تمرين الخط:
حاولت أن أنساك فانطفأت
طرق الهوى في سائر المدن
إنها أبيات يمكن أن تذيل بها رسالة وتضعها -من كل بد- في صندوق بريد معشوقتك دون أن يغير في الأمر شيء كونها مكتوبة لصنعاء المدينة التي شبكت مخيلة الشاعر المقالح، فطرز ليل ضفائرها بالقوافي.. إنها الصنعانية «التي مرت من الشارع غبش»، فأنعش صدى خطواتها صدر المدينة.
وبغوص نفسي حميم يتحسس أوجاع المدينة كما يرشف شهد جمالها، فإن صنعاء لدى الرائي الكبير عبدالله البردوني، هي مليحة عاشقاها «السل والجرب» حُكم عليها بالموت بلا ثمن في صندوق «وضاح»!
إن زيارة المدن في أعمال ونتاجات القلم والريشة سياحة مهمة للتعرف على تفاصيل يصعب -غالباً- التقاطها بالعين المجردة على أرض الواقع، لاسيما تلك المتعلقة بانفعالات حبيسة الجدران، وصنعاء لبست هذا التجلي الساكن للمكان فحسب. إنها حمينيات الغناء الصنعاني وحميرية الشاعر نشوان الحميري وعلقمة ذي الجدن وعمارة اليمني وغراميات وضاح اليمن:
«قالت ألا تلجن دارنا
إن أبانا رجلٌ جائرُ»
حوار طويل يكشف كل الأحجية ويتجاوز السواتر، فترضخ معه المحبوبة لنداء الرغبة فتحدد موعداً للقاء خلسة عن أعين التابو:
... «فأت إذا ما هجع السامرُ
واسقط علينا كسقوط الندى
ليلة لا ناهٍ ولا زاجرُ»
إنها واحدة من غراميات «وضاح اليمن» الذي تقول الحكاية إنه راح ضحية علاقته بـ«أم البنين» زوجة الوليد بن عبدالملك بن مروان، فقد دخل الخليفة الأموي إلى مقصورتها ووضاح لديها، فخبأته في صندوق كان الخليفة قد علم بأمره من أحد خدم القصر، فطلب إلى زوجته أن تهديه هذا الصندوق، وبعد ممانعة منها رضخت لطلبه فحمله وقام بدفنه في بئر مهجورة، وقال مخاطباً الصندوق: إن كان وضاح بداخلك، فقد استرحنا منه، وإن لم يكن بداخلك فلست إلا صندوق…!
وضاح اليمن اشتهر كذلك بحبه لابنة عمه «روضة»، وهي قصة أنتجها التلفزيون السوري في مسلسل صورت غالبية مشاهده في صنعاء القديمة، في سبعينيات القرن الماضي.

فوق الرقابة
إن قصص الحب في المدينة شبيهة بجلسات الطرب التي كانت تعقد خلسة عن عيون الرقباء.
يقول جان لامبيرت، مدير المعهد الفرنسي للعلوم والآثار، وصاحب كتاب «طب النفوس» في الغناء الصنعاني: «لقد صمم العود الصنعاني بحجمه الصغير لإمكانية إخفائه والتنقل به، كما استخدمت الصحون النحاسية كآلة طرب وهي لا تثير شهية أحد!». وبالطريقة ذاتها -ربما- كانت قصص الحب تسجل حضورها بصمت وهدوء وبقوة، ولاتزال، وتملأ محلات الكاسيت الآن ألبومات غنائية مفعمة بالانفعالات لفنانات منقبات وبأسماء مستعارة في الغالب.
لم يكن هذا الجو الاجتماعي الخانق بصورته الحالية حاضراً ذات ماضٍ بعيد، فقد عرفت المدينة -حسب روايات- انفتاحاً نسبياً على المستوى الاجتماعي، أما «الستارة» التي تتنقب بها المرأة اليوم، فهي وافد عثماني فرضها ولاة الترك على نساء صنعاء اللواتي كن يتنقلن سافرات الوجوه والأكف، بعد شكاوى أهالي المدينة من مضايقات الأتراك ومعاكساتهم، وإزاء تلك الشكاوى ألزم الوالي كل امرأة بارتداء «الستارة» لدى تجوالها، ولعل خلو الستارة الصنعانية من الأزرار والثنيات يعزز من مصداقية الرواية السابقة، لاسيما وأنها قطعة قماش صماء أقرب إلى الستارة رغم نقوشها، كما تدل التسمية، إذ تتلفع بها المرأة جامعة أطرافها بيديها عند الصدر على الطريقة الإيرانية في الاحتجاب، مع اختلاف أن الستائر الصنعانية مشجرة ويغلب عليها اللون الأحمر، ومثل كثير من الملبوسات الشعبية، فقد بدأ هذا النوع من الأحجبة في الانقراض، وبات ارتداؤه حصراً على المسنات .

زوجة وحبيبة وأم
إن المرأة في المجتمع الصنعاني ربة بيت من الطراز الأول، وهي تنفق جل حنانها على الزوج، حتى إن هناك مثلاً ينصح من أراد الجمع بين زوجة وحبيبة وأم في الوقت ذاته، أن يتزوج امرأة صنعانية. وتحظى الزوجة عقب الولادة بحفاوة قل أن تجد لها نظيراً في مجتمع آخر؛ إذ تجلس شبيهة الملكة طيلة الأربعين يوماً التالية للولادة، وتقدم لها صنوف الأغذية التي تستعيد بها عافية جسدها، وتواضب جاراتها على زيارتها يومياً، وعند تمام الأربعين يقمن بتزيينها وتطييبها لتعود كعروس ليلة دخلتها! ولعله سياق ملائم لأروي لكم قصة جزار في «باب السباح»، وضعت زوجته ولداً فأولم ودعا كبار رجال الحي إلى وليمته، ووصل الخبر إلى أحد الأمراء فغضب ونهر الجزار وضربه أمام الملأ وأجبره على تغيير اسم المولود من «عبدالرحمن» إلى «رزق» على اسم والده، وأصبح شتيمة سائرة أن يقول أحد لآخر «رزق بن رزق» قاصداً الانتقاص من نسبه!
وبطبيعة الحال، فإن هناك شرائح اجتماعية لايزال المجتمع ينظر إليها بازدراء بسبب المهنة أو النسب، من تلك الشرائح -على سبيل المثال- «المقهوي، الحجّام، الحمامي، المجحف، الرصاع، الخراز، الشامية، المزين، القشَّام»...!
إنه تفاوت مقيت يصعب تصوره مع تمدن مبكر عرفه المكان!

كنز يهدد المدينة
هناك امرأة تهدد صنعاء القديمة بالسقوط، امرأة توفيت قبل قرون، لكنها دفنت كنزها الضخم في أحد بيوت المدينة، وسعياً وراء وعد بثراء فاحش يصيب من يعثر عليه تبدأ مع الليل أزاميل الكثيرين من سكان صنعاء القديمة بالتنقيب عن «كنز زوجة الروضي» الذي لا بد أنه محشور هنا أو هناك. تلك حكاية سمعتها من بعض الأهالي ولا أقطع بصحتها!
قال محمد الأكوع (30 عاماً)، وهو يرافقني إلى حيث يقع مبنى الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية: دعك من زوجة الروضي هذه، إن مجاري السيول، رغم رصفها في الآونة الأخيرة لاتزال تهدد المدينة بكارثة. وحدثني «محمد» عن استحداثات مخالفة في حرم المدينة.. لقد شاهدت العديد من البيوت وسط المدينة، متصدعة وآيلة للسقوط، ولهذا السبب هجرها سكانها، وبينما تمنح الهيئة العامة للحفاظ على المدن مبالغ مالية للبعض بغرض ترميم وحماية منازلهم، فإن هذه المبالغ تُحجب عن كثيرين هم بحاجة ماسة إليها لدفع خطر الموت تحت الأنقاض عن أسرهم.. إن القضية ذات بعدين إنساني وحضري تاريخي، وينبغي الحفاظ عليهما معاً، وعلاوة على الأبنية المهددة بالسقوط، تحولت أزقة صنعاء إلى سوق سوداء للمتاجرة باللقى الأثرية والمخطوطات. ففي الأسابيع القليلة الماضية ألقت الأجهزة الأمنية القبض على عراقي كان بحوزته ثمانمائة قطعة أثرية على وشك ترحيلها.
لقد قيل قديماً: «لا بد من صنعاء ولو طال السفر»، غير أنها مقولة لا تعبر بالضرورة عن نوايا حسنة تجاه المدينة، لاسيما وأن السفر لم يعد طويلاً ولا شاقاً، علاوة على أن الطريق إلى قلب صنعاء هو ذات الطريق إلى قلبها، طريق المحبين والمهربين على السواء!