تحقيق/ بشرى الغيلي / لا ميديا -

نالوها معمدة بدمائهم، وأرخصوا أرواحهم في سبيل الوطن، غادروه لينعم الآخرون بالأمان والسلام، حملوه في مشاريعٍ كبيرة لخدمته والارتقاء به، لكنهم فضلّوا أن يكونوا بمواقعِ العزةِ والبطولة والشرف، وكانوا في مقدمةِ المدافعين عن كرامةِ وطنهم وسيادته. طلاب جامعيون كانوا متفوقين في دراستهم أثبتوا جدارتهم بأعلى الدرجات، أولئك بياداتهم الملطخة بالطين أشرف من وجوهٍ تدعي محبة الوطن وتجلسُ على كراسٍ دوارة لا تقوم بمسؤوليتها كما يجب، «لا»، أفردت مساحة لتلك الأرواح الطاهرة التي فارقت الوطن وهي في قمةِ الشباب والعطاء والطموح، لتوثق قصصهم من ذويهم وزملائهم وجامعاتهم التي التحقوا بها ضمن السياق التالي.

لمساعدةِ المساكين أسس جمعية «مودة»
بدأنا أولى قصص أولئك الأبطال الذين أرخصوا حياتهم من أجل أن يحيا وطنهم بكرامة واستلموا شهائدهم من ميادين الشرف والبطولة، مع بلال محمد عبدالله شرف الدين، من مواليد أمانة العاصمة صنعاء 1982م، التحق بتعليمه الأساسي بمدرسة الشهيد الكبسي، ودرس الثانوية العامة بمدرسة الحمزة، ثم التحق بعدها بالمعهد الفني تخصص هندسة، بعدها التحق بكلية الإعلام ـ جامعة صنعاء.
تقول عنه شقيقته زينب واصفة إياه ببعض الصفات التي كان يتميز بها: «كان شقيقي بلال شخصاً لطيفاً جداً ومرحاً، وصادقاً في كل شيء، يحب الخير للجميع، ومتعاوناً مع المساكين والمحتاجين، وكان محبا لأسرته أشقائه وشقيقاته، وولدا مطيعا لوالديه، وكان يهوى التأمل في الطبيعة، وكان ميالا لدراسة الإعلام والجرافكس».

من مؤسسي فضائية «المسيرة»
من المحطات الهامة في حياة الشهيد بلال شرف الدين أثناء التحاقه بالإعلام شارك في تأسيس قناة «المسيرة» الفضائية، وأرسل إلى بيروت للعمل فيها لمدة 9 أشهر، ثم عاد لمواصلة دراسته الجامعية في كلية الإعلام جامعة صنعاء. في بداية العدوان كلف بعمل كمراسل للمسيرةِ أيضا، وصور الأحداث من خطوط النار في عدن وتعز حينها، واستمر لمدة 7 أشهر في مهمته يصور ويرسل تقاريره لفضائية «المسيرة» من الميدان. كما أسس جمعية خيرية حملت اسم «مودة» لعمل الخير ومساعدةِ المحتاجين.

استشهد في غارة وهو يوثق جرائم العدوان
كان الشهيد بلال يحمل في قلبه وطناً جميلاً لا يمكن التهاون مع أعدائه، وطناً لا يعرف الاستسلام في قاموسه على مدى تاريخه النضالي.
في بدايةِ العدوان كان القصف على العاصمة صنعاء على أشده، بل وصلت بهم الحال إلى قصف المواطنين وأسرهم دون تمييز، وطال عدوانهم المدنيين الأبرياء والمدن وتدمير البنية التحتية، وفي 17/9/2015م قُصف منزل قائد القوات الجوية العميد إبراهيم الشامي بغارتين، فحمل بلال كاميرته ليوثق تلك الجريمة للعالم ويساعد المسعفين بنقل الجرحى، والشهداء من أسرة العميد الشامي، وتحرك بعد ساعةٍ من القصف وإذا بغارةٍ ثالثة تخطف روح الشهيد بلال ومجموعة من الشهداء لتصعد أرواحهم إلى بارئها يوم الجمعة 17/9/2015، فاضت روحه حاملة شهادة مختومة بدمائه الزكية عن عمرٍ لم يتجاوز 23 عاما، وكان في السنة الرابعة إعلام ـ جامعة صنعاء.

خطف الأضواء منذ نعومةِ أظفاره
الطالب الشهيد عبدالواحد عبدالله محمد الإبراهيمي من مواليد محافظة صعدة - مديرية رازح - عزلة النظير، ولد سنة 1998. تلقى تعليمه للمرحلتين الابتدائية والإعدادية بمدرسة عمر بن عبدالعزيز في مدينته النظير، وتعليمه للمرحلة الثانوية بمدرسة الثورة.
يقول من يعرفونه بأنه كان مثابراً جادا ومجتهدا، حتى إنه خطف الأضواء، ودائما ما كان ينال إعجاب معلميه من ناحية تحصيله العلمي، وكذلك في جده واجتهاده واهتمامه.

الغيرة على الوطن دفعته إلى جبهات العزة
عُرف عبدالواحد في مراحل دراسته بدماثة أخلاقه وصداقته مع جميع من عرفوه، امتاز بسلوكه عن أقرانه، وحسب زملائه فإن الحياء كان يملأ محياه.. أكمل تعليمه الثانوي وكان يطمح للخوض في لغة الحاسوب، ودخل فعلا جامعة «إقرأ»، وتخصص في تقنية المعلومات ـ كلية الهندسة وعلوم الحاسوب (IT)، وكان دائماً ما يردد عبارة مفادها «إن المعركة مع الأعداء لن تقتصر على البندقية والصاروخ»، كان مطلعا وشغوفا ومتابعا لما يقال عن حروب الجيل الخامس والحروب السيبرانية.
عندما بدأ العدوان الأمريكي السعودي على بلادنا كان الفتى الشهيد قد أكمل مرحلة تعليمه الثانوي، عندها اشتط غيرةً وغضباً مما يرتكبه العدوان من جرائم، وتحرك ذلك الشبل الهصور للالتحاق بركب المجاهدين الأبطال في سبيل الله للذود عن قيم دينه وتراب وطنه الغالي وعن كرامة وأعراض شعبه العزيز، وشارك الفتى الشهيد في معارك العزة والكرامة بجبهة حرض وميدي.

مقعد صدق عند مليك مقتدر
عند تصعيد قوى العدوان العالمي على محافظة الحديدة تحرك الفتى الشهيد عبدالواحد إلى الساحل الغربي وخاض هناك صولات وجولات حتى اختاره الله لضيافته في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ليرتقي شهيداً شامخاً في جبهة الساحل الغربي يوم الخميس الـ27 من ذي القعدة 1439هـ، وهو مايزال في السنة الثانية من دراسته الجامعية، فاختار شهادته الأبدية الممهورة بدمائه الطاهرة في سبيل رفعة وطنه.

نضوج مبكر وشغف رياضي
ثالثة قصصنا مع البطل الشهيد الحسين عمار حسين شرف الكبسي، وتحكي لنا والدته عن صفاته التي تميّز بها عن أقرانه، وتبدأ حديثها عنه قائلة: «في طفولته كان الحسين -سلام الله عليه- ذلك الطفل الهادئ، العاقل، السابق لسنه في كثير من أفعاله وكلامه، وكان عنده شعور كبير بالمسؤولية، تجلى ذلك الشعور في طفولته وبداية نشأته، من خلال اهتمامه بالدراسة حيث كان متفوقاً فيها، ودائما ما كان يحصل على المركز الأول في كل سنة دراسية، وحفظ أجزاء من القرآن الكريم خلال الإجازات وصلت إلى 8 أجزاء من المصحف الشريف، وكانت الرياضة مما نال اهتمامه حيث كان شغوفا بلعبة كرة القدم فكان يشارك في دوريات الأحياء والمدارس، إضافة إلى ممارسة السباحة بين فترة وأخرى». أما من ناحيةِ تعامله مع أسرته تضيف والدة الشهيد أنه كان الابن البار، والأخ العطوف لأنه كان أكبر أشقائه، والذراع اليمنى لوالديه والصديق المقرب لهما.

تفوق دراسي وثقافة جهادية
تضيف والدة الشهيد الحسين في جزئية أخرى عن دراسته الثانوية وتصفه بأنه كان له اهتمام كبير بالتحصيل العلمي والتفوق ولديه حرص للحصول على معدل امتياز ليتمكن من دراسة المجال الذي يطمح إليه، وخلال المرحلة الثانوية كان التحاقه بالمسيرة القرآنية فاستحوذ هدي الله والثقافية القرآنية على فكره ووجدانه، وانتهل من دروس هدي الله وتثقف بثقافة الجهاد وحمل مسؤولية الدين والأمة، شارك في كل المسيرات والمظاهرات وحرص على نشر هدي الله وإيصاله إلى الناس، ولم يثنه ذلك عن نيل المعدل الذي طمح له فحصل على معدل 94٪ في الثانوية العامة فكان ثمرة ما اجتهد للوصول إليه.

رفض السفر للدراسة في الخارج
من أبرز المحطات في حياة الشهيد الحسين التحاقه بالمسيرة القرآنية حيث نالت الأولوية في اهتماماته بعد أن كان طموحه الدراسي والعملي يتصدرها، أما عن مواقفه البارزة فمنها رفضه السفر للدراسة في الخارج بحسب رغبة والديه وأسرته بسبب ارتباطه بالمسيرة القرآنية، وقال عن ذلك: «نحن قادمون على أحداث كبيرة وهامة فيها حمل لقضية عظيمة لا أريد أن يفوتني شرف المشاركة فيها».
ومن مواقفه المشرفة أيضا، حسب ما تسرد لنا والدته: إصراره على الالتحاق بالجبهات القتالية رغم أنه كان لديه أعمال في سبيل الله إدارية وتأهيلية، لكنه آثر التحرك إلى الجبهات، وفي جانب دراسته الجامعية فقد وفقه الله بالتسجيل بكليةِ الهندسةـ جامعة صنعاء، وكان أقصى طموحه أن يحصل على البكالوريوس في الهندسةِ المدنية.
توضح والدة الشهيد الحسين بأنه اختار هذا التخصص لتميزه بالدقة في الرسم والتخطيط، بالإضافة إلى الفهم الواسع للمعادلات الرياضية والفيزياء، وكان هدفه استخدام علمه ومعرفته في نفع الأمة والنهوض بوطنه.

زفاف الشهيد الحسين
ترك الحسين الدراسة وتوجه للجبهات، على الرغم من تفوقه العلمي، وشعورا منه بالمسؤولية الدينية والوطنية للدفاع عن وطنه والمستضعفين من أبناءِ شعبه، حيث تصفه والدته وصفا يقطر فخرا بشهيدها البطل الطموح قائلة: رغم أنه كانت لديه مسؤوليات تسهم في الدفاع عن الوطن بعيدا عن الجبهات، إلا أنه حينما اشتدت معركة الساحل الغربي، إيمانا منه بأهمية المعركة وارتباطها المباشر بقوةِ المستضعفين، فضل التحرك إلى الجبهة واستشهد -سلام الله عليه- يوم الجمعة 2/11/2018. شعرنا يومها أنه يوم زفافه الذي كنا نعدّ له وقلوبنا تتوق أن تراه فيه عريساً، تستدرك والدة الشهيد: لكن الله أراد له من الحياة والسعادة ما لا نملك أن نعطيه، فسلام عليه وعلى جميع الشهداء.

طموح في خدمة الوطن إعلاميا
أما بطل قصتنا الرابعة فهو الطالب الشهيد طه شرف الدين جامعة صنعاء ـ كلية الإعلام الدفعة (21)، يقول عن سيرته باقتضاب شقيقه إبراهيم: عاش حياته متواضعاً، مخلصاً محباً لزملائه، كان يعمل في مكتبة وقت دراسته الجامعية، تخرج من ثانوية الحمزة بن عبدالمطلب في مديرية الثورة، والتحق بجامعة صنعاء ـ كلية الإعلام، شارك في ثورة 21 أيلول/ سبتمبر، وشارك في المظاهرات والاحتجاجات. كان طموحه أن يتخرج من كلية الإعلام ويخدم وطنه ويشارك في تطوير الجانب الإعلامي فيه.

شهادة سماوية مع مرتبة الشرف
يضيف إبراهيم عن هذه الجزئية أن طه لم يترك تعليمه الجامعي، لأنه كان شغوفاً بخدمة وطنه في هذا المجال أيضا وتطويره كما ذكر ضمن السياق، وإنما كان في سنة رابعة ترم ثاني وأثناء بداية العدوان تحرك طه مع مجموعةٍ من الشباب لتأمين مناطق الحي، واستشهد في النهدين إثر غارة وهو يقوم مع زملائه بمهمة تأمين المعسكر وفاضت روحه إلى خالقها حاملة معها شهادة معمدة مع مرتبةِ الشرف يوم 22/5/2015م.

الحصار منعه من تحقيق حلمه
آخر هذه السرديات المحفورة في ذاكرةِ الدم تتوقف عند الطالب الشهيد علي جمال عشيش (نظم معلومات إدارية كلية العلوم الإدارية والمالية ـ جامعة اقرأ للعلوم والتكنولوجيا).. ولد الشهيد علي جمال علي عشيش بأمانةِ العاصمة في 29/9/1996، تلقى دراسته الثانوية بمدارس اليقظة النموذجية، كان متفوقاً في دراسته، وحصل على معدل 84٪ في الثانوية العامة عام 2014.
وبحسب المعلومات عن بعض تفاصيل حياته، فالشهيد الشاب كان لديه رغبة في دراسة تخصص الميكاترونكس بجامعة صنعاء، لكن الحظ لم يحالفه، فانتقل إلى جامعةِ اقرأ للعلوم والتكنولوجيا، ويصفه أقرانه بأنه كان ذكيا ومتميزا في مادة الرياضيات، وقد حاول أن يسافر خارج الوطن ليحقق حلمه في دراسة تخصص هندسة طيران أو ميكاترونكس، لكن حصار العدوان منعه من ذلك.
تميز الشهيد علي عشيش بصفاتٍ منذ طفولته كشخصية تميل للهدوء والقليل من المرح، وكبر على حبه للجهاد وحب عائلته كما تصف ذلك والدته التي تقول بأنه كان الولد المطيع لأبويه، وغيرها الكثير من الصفات.

يد تبني ويد تحمي
تضيف والدة الشهيد علي أنه بعمر 15 عاماً لم يرض بالظلم وشارك في مسيرة 2011 ضد الظالمين والمستكبرين، وبعد انطلاق العدوان الغاشم على بلادنا كان يحض أصدقاءه وأهله على أن يكونوا صفا واحدا ضد العدوان، ويحثهم على الجهاد والالتحاق بالمسيرة القرآنية، وكان يمثل مقولة الإمام علي: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً». فكان يحث على العمل والجهاد (يد تبني ويد تحمي).
كما توجه الشهيد إلى جبهة قانية بالبيضاء والكثير من الجبهات في ساحاتِ الجهاد، والتحق بدورات عسكرية وثقافية للتزود بهدى القرآن، ورغم ضغوط الجهاد إلا أنه كان يحاول أن يطور من قدراته وينمي عقله باكتساب الكثير من الدورات التدريبية.

حان وقت الذهاب للجبهة
تصف والدة علي لحظة استشهاده أنه قبل أن يستشهد كان قد انتقل إلى السنة الثالثة في دراسته الجامعية، وحاول جاهدا أن يكون الطالب المثالي ويرتب وقته بين دراسته، وجهاده، وواجباته، وهو في السنة الثالثة جاءت أزمة كورونا، فتوقفت الدراسة بشكل عام فقال: حان وقت الذهاب للجبهة ونستشهد فيها أفضل من الموت بفيروس صغير، وأقفل كتبه، وقبل ذهابه للجبهة كان متعبا إثر عملية اللوزتين ولم ينتظر حتى يتماثل للشفاء، وزار جبهة مأرب ومن ثم ذهب إلى البيضاء وعاد شهيدا مسجى كالأسد في 21 رمضان 1441هــ الموافق 14 مايو 2020.
جدير بالذكر أن الشهيد علي عشيش تم تكريم والديه في حفل تخرج دفعته في مشهدٍ يعبر عن وفائهم لمن بذل روحه رخيصة من أجل عزة وطنه وكرامته.

شكر وعرفان
في نهايةِ هذه السطور لا ننسى من تعاونوا مع «لا» وأمدوها بمعلوماتٍ عن أولئك الأبطال الميامين ممثلة بجامعة اقرأ للعلوم والتكنولوجيا ورئيسها أ. د. أشرف علي الكبسي، والأمين العام، أ. يحيى الهاشمي، ومدير مكتب رئيس الجامعة، أ. هاني الجعوري، وكان ملحوظاً جداً نسبة ارتفاع استشهاد الطلاب من هذه الجامعة، كما الشكر موصول لأم الشهيد الحسين الكبسي، وزينب شرف الدين، شقيقة الشهيد بلال شرف الدين، وشقيق الشهيد طه شرف الدين، إبراهيم شرف الدين، وزميل الشهيد علي عشيش، عارف زرعان، وزميل الشهيد عبدالواحد الإبراهيمي، خليل الفصيح، والزميلة الإعلامية إشراق الكبسي التي أمدتنا بعناوين وأرقام أمهات الطلاب الشهداء. شكرا للجميع.