مارش الحسام / لا ميديا -

ما حققه الطب الحديث من قفزة نوعية تجاوزت حدود استنساخ وزراعة أعضاء بشرية وأخرى ذكية وغيرها من الخدمات الصحية والعلاجية التي لم تخطر على بال بشر، إلا أن هذه القفزة لم تفلح في وأد الطب التقليدي، وبالأخص المعالجين الروحانيين وغيرهم من المشعوذين والدجالين،حيث يتم تفسير العلم بالأسطورة وربط الدين بالخرافة.

تناسل العيادات
تتناسل العيادات الروحانية ومراكز أدعياء الطب النبوي ومعالجي السحر والعين وطرد الشياطين والجن، يوما بعد آخر، في شوارع وأحياء أمانة العاصمة، بشكل مريب، ولأكثر من سبب، بل إن بعض هذه المراكز صار لديه أكثر من فرع، وأصبح المرضي يتهافتون على الرقاة، كما أصبحت زياراتهم تدوم لأكثر من شهر عبر جلسات مجدولة تدر عائدات مالية على المشائخ الذين يعالجون تارة بقراءة القرآن على مسامعهم، وأخرى بضربهم بحجة طرد الجن والشياطين التي تسكنهم وتسبب لهم مشاكل صحية أو نفسية.

قدرات خارقة
كثير من الرقاة والمشائخ لديهم قدرات خارقة في إخراج الأموال من جيوب الضحايا بحجة إخراج الجن والشياطين من أجسادهم، والكل يعلم المداخيل التي يجنيها هؤلاء دون تعب لقلة حيلة المريض، والتي تنم عن جهل يسري في عروقه، ومنهم من تلبسه الفقر بسبب دفع المال للشيخ الذي يحاول طرد الشيطان الذي تلبسه، وآخر صار مسكونا بالعوز والحاجة بعد أن تم إيهامه بأنه مسكون بالجن.

طب القرون الوسطى وتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين
ونحن نعيش في عصر السرعة والثورة المعلوماتية والتكنولوجية، ومع اتساع مدارك البشر في هذا العصر، تبددت كثير من الخرافات والأساطير واستطبابات القرون الوسطى، وكثير من طرق العلاج البدائية اندثرت باستثناء بعضها التي مازالت تنافس طب القرن الحادي والعشرين، وروضت العالم الرقمي وسخرته للترويج لنشاطها البدائي عبر صفحات ترويجية ومنشورات ممولة على مواقع التواصل الاجتماعي.
وبات كثير من المعالجين الروحانيين في اليمن يعتمدون على مواقع التواصل الاجتماعي لاصطياد ضحاياهم عبر صفحات ترويجية لهذا النوع من الطب ومنشورات ممولة للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الفئات المستهدفة.

تفسير العلم بالخرافة
يرى الدكتور أكرم الشرعبي أن الشيخ أو المعالج الروحاني لا يعترف بالطب الحديث، ويفسر العلم بالخرافة.
ويقول الشرعبي: «لا يمكن أن يخبرك الشيخ المعالج بالقرآن أن لديك مرضاً عضوياً، مهما كان نوع مرضك، ولا يمكن أن ينصحك بالذهاب إلى طبيب مختص حتى وإن كنت تشكو من قرحة في المعدة أو مغص كلوي، فدائما ما يكون تشخيصه لأمراض الحالات التي تأتي إليه بين: هذا مسحور، وهذا أصابته عين، وهذا مس شيطاني، ولا يعترفون بمرض نفسي أو عصبي، فالشخص المصاب بالصرع يعتبرونه مسكونا بجني أو شيطان، وهلوسة وهذيان المريض النفسي يقولون عنها بأنها كلام الجني الذي يسكن الشخص، وهنا لا يتردد الشيخ في ضرب المريض لإخراج الجني من جسده».
ويضيف: «حتى إذا ذهبت إليهم وأنت تشكو من الروماتيزم أو القولون، فلديهم الحل وسيقومون بعلاجك بالرقية الشرعية».
ويسرد الدكتور الشرعبي قصة حدثت له مع أحد المشائخ الروحانيين، بالقول: «ذات مرة كان لدينا في المستشفى مريض بصدد إجراء عملية جراحية لإزالة أكياس دهنية في الكبد، ولأنه كان يعاني من ارتفاع السكر في الدم تعذر إجراء العملية في وقتها وتم تأجيلها من يوم إلى آخر لحين انخفاض السكر في الدم، لكن أهل المريض لم يستطيعوا الانتظار أكثر وقاموا بإحضار أحد المشائخ ليعالج ارتفاع السكر بآيات قرآنية».
ويواصل: «قلت لأهل المريض وبحضور الشيخ إذا كانت قراءة الشيخ للقرآن ستخفض السكر، فليقرأ أيضا على الأكياس الدهنية حتى يشفى المريض دون الحاجة إلى التدخل الجراحي، وهنا اشتاط الشيخ غضبا، مدعيا أن القرآن شفاء لكل داء، وقال لي: أنت ملحد إذا لم تؤمن بالقرآن، الرقية الشرعية كان يستخدمها الرسول الكريم، فاقترحت عليه أن نذهب إلى قسم العظام فهناك أشخاص لديهم كسور في الساق، وليجرب عليهم الرقية الشرعية وآيات قرآنية، وخرجت من الغرفة وهو يتطاول علي ويقول هؤلاء الأطباء ملحدون ولا يؤمنون بكتاب الله، ولأنك لا تستطيع أن تطعن في القرآن فالشيخ «يمسكك من اليد التي توجعك»، كما يقول المثل».

رواسب اجتماعية
لا يقتصر مرتادو هذه المراكز على شريحة أو طبقة معينة ولا على مستوى تعليمي معين، وإنما يقصدها أشخاص من كل شرائح المجتمع من أغنياء وفقراء بمختلف الفئات العمرية، وبينهم أميون ومنهم في مستوى تعليم عالٍ.
وهناك من يفسر لجوء البعض إلى هؤلاء «المعالجين الروحانيين» رغم انتشار التعليم، بأنه نتاج عن رواسب اجتماعية، كون المجتمعات العربية، ومنها اليمن، تعد مجتمعات انتقالية بين مرحلتي التقليدية والحداثة، وماتزال متأرجحة بين تقاليد الماضي ومتطلبات الحاضر.

قشة الغريق
يؤكد الدكتور صلاح ريشان أن اليأس من الحلول المنطقية يدفع الشخص إلى البحث عن حلول ميتافيزيقية، في ظل تداول حديث شريف يقول بوجود العين (المرع)، ويقول: على ضوء هذا الحديث الذي لا أعلم أنه ملفق أو صحيح، تم نسج كثير من الخرافات حوله، وخصوصا من قبل النساء، ومنها قدرة هؤلاء المشعوذين على الإشفاء من مختلف الأمراض.
ويضيف ريشان: «فحين يعجز الطب الحديث عن علاج حالة مرضية ويجد المريض أن كل أساليب الطب الحديث لا تجدي نفعا، فإنه قد يضطر للبحث عن حلول غير منطقية واللجوء إلى الروحانيين والمشعوذين كما يقول المثل «الغريق يتعلق بقشة»، إضافة إلى دور المحيط الاجتماعي في تشجيع الشخص على اللجوء إلى هؤلاء المعالجين، عبر إظهارهم كخارقين قادرين على جلب الشفاء للمريض وإيجاد حلول للمشاكل التي يعاني منها الشخص».

ضعف التشخيص سبب رئيسي
يقول أحد المواطنين إن ضعف التشخيص الطبي في اليمن سبب رئيسي للجوء كثير من المرضى إلى الروحانيين وغيرهم من المشعوذين والدجالين.
ويضيف: أحياناً يشكو الشخص من علة وربما يعجز الأطباء عن تشخيصها ليس لعدم كفاءتهم، وإنما لافتقارهم للأجهزة التشخيصية الحديثة المعمول بها في الخارج، وأحياناً يظل المريض يتردد من مستشفى إلى آخر ومن طبيب إلى آخر دون الحصول على نتيجة، وبالتالي الوصول إلى طريق مسدود، ومن ثم يجد المريض نفسه أمام خيارين: إما السفر إلى الخارج أو الاتجاه الإجباري نحو المشعوذين والدجالين».

شيخ «إم بي ثري»
إذا قُدر لك وزرت إحدى هذه العيادات الروحانية، فمن الطبيعي أن تجد الشيخ المعالج مشغولاً باستقبال المرضى وإفراغ ما في جيوبهم من أمول، وغير متفرغ حتى لقراءة القرآن على مرضاه، حيث يتم حشرهم في الغرف خاصته، ويفاجؤون بوجود شيخ آخر اسمه «إم بي ثري» يتلو على مسامعهم آيات قرآنية وخطباً مسجلة.
يروي «ع. أ» قصته مع أحد المعالجين الروحانيين، قائلا: «كنت أعاني من أرق واكتئاب وضيق شديد ولا أرغب في الذهاب إلى العمل، ولأنه لم يكن الطب الحديث خيار الأهل، فقد ألحوا علي بالذهاب إلى أحد المشائخ (المطاوعة) للعلاج، فقد كان أقاربي يظنون أنني مسحور أو أن عينا حاسدة أصابتني».
ويضيف: «الشيخ استبعد السحر وأكد الفرضية الثانية (العين) بعد أن قام بفحص عيني ولساني، وطلب مني أن أردد بعده بعض الآيات القرآنية، ومن ثم أدخلني إلى غرفة مزدحمة بالمرضى، وكان هناك سماعات على الجدران تبث آيات قرآنية مسجلة، وكان هناك جوارنا غرفة مخصصة للنساء وتبث نفس التسجيل القرآني عبر سماعة «إم بي ثري»، ساعتها قلت في نفسي: هل تم إحضاري إلى هنا لأستمع لهذه التسجيلات التي يمكن للشخص أن يسمعها وهو في بيته دون الحاجة إلى زيارة هذه الأماكن».
ويتابع: «بعدها قررت سرا الذهاب إلى طبيب نفسي خوفا من الوصمة الاجتماعية، فالأهل لا يتقبلون فكرة الذهاب إلى طبيب نفسي، وشرحت له الحالة، وطرح علي عدداً من الأسئلة، وناقشني في أمور كثيرة، ثم قدم لي بعض النصائح ووصف لي علاجاً، وأعطاني رقمه لكي أظل على تواصل معه خلال فترة العلاج، والحمد لله تعافيت».

قرآن وديزبام
يؤكد صاحب صيدلية في مذبح، وعلى مقربة من صيدليته توجد إحدى العيادات الروحانية، أن المعالج الروحاني لا يكتفى بقراءة القرآن والأدعية على مرضاه، وإنما يقوم بوصف أدوية ومهدئات نفسية لا ينصح باستخدامها إلا بناء على وصفة من طبيب نفسي، وخصوصا البالتان والديزبام.
ويقول: «مثل هذه الأدوية تهدئ الأعصاب وتجلب الراحة والطمأنينة للمريض، ويتوهم أهل المريض أن الرقية الشرعية هي السبب، بينما هي في الحقيقة أدوية لها عواقب وخيمة وتجلب الإدمان للشخص، ويحظر بيعها إلا بوصفة طبية رسمية مختومة وبتاريخ حديث».
ويضيف: «كنت أتحاشى صرف هذه الأدوية التي يكتبها الشيخ بحجة أن العلاج غير موجود، وكنت أحيانا أخبر المرضى أن عليهم إحضار روشتة من طبيب مختص ومختومة وبتاريخ اليوم، وكان المريض يعود ومعه ورقة مختومة بختم الشيخ المعالج فكنت أتجاهلها، ومع تكرار تجاهلي للروشتات حدث شجار بيني وبين الشيخ المعالج، وقلت له إن هذه الأدوية بحاجة إلى طبيب نفسي وليس شيخ روحاني، وحاليا يقوم الشيخ بإرسال المرضى إلى صيدلية أخرى لشراء العلاج».

خطر على المجتمع وثقافته
يؤكد الدكتور عبده محسن الشليلي، أخصائي أمراض نفسية واجتماعية، أن هناك انتشاراً غير طبيعي للعيادات الروحانية، والتي دائما ما يتم تغليفها في إطار ديني لتحقيق مكاسب مادية، معتبرا أن «انتشار هذه العيادات وبهذا الشكل يمثل خطراً ليس على المرضى، وإنما على المجتمع وثقافته».
ويقول الشليلي لصحيفة «لا»، بأن 80٪ من المرضى النفسيين يتم معالجتهم عن طريق المشعوذين والروحانيين، وأن غالبية المجتمع يتحاشون الذهاب إلى طبيب نفسي خوفا من الوصمة الاجتماعية تجاه العيادات النفسية التي لا يدخلها إلا المجانين أو المختلون عقليا، وفق نظرتهم القاصرة لهذا النوع من الطب، رغم ما يقدمه من خدمة محترمة وبرامج علاجية على أساس علمي وأكاديمي.
ويضيف: «كثير من أبناء المجتمع لا مشكلة لديه بأن يُقال عنه أو عن أحد أقاربه بأنه مسحور أو أصابته عين، لكنه لا يتقبل أن يُقال عنه بأنه يعاني من اكتئاب أو مشاكل نفسية، باعتبار ذلك عيباً مجتمعياً، هناك خلل في التركيبة الثقافية للمجتمع الذي يعتبر العيادات النفسية حكرا على المجانين».
ويؤكد أن «العيادات الروحانية لا تناسب المرضى النفسيين، بل تفاقم من حالتهم الصحية، لأن معظم المعالجين الروحانيين يرتكبون أخطاء كثيرة في حق مرضاهم، إما سيكولوجية أو نفسية أو جسدية، وربما يتعرض المريض للضرب لإخراج الجني منه، وسبق أن توفي أشخاص في جلسات علاج روحانية».
ويشير إلى أن هناك ثقافة مجتمعة مغلوطة في الجانب الديني، وهي التي تقف وراء اللجوء إلى العيادات الروحانية باعتبارها الطريقة الصحيحة، وبسبب هذه الثقافة يأتي دور المجتمع في الترويج لهذه الطرق العلاجية.
وعن وجهة نظره كطبيب نفسي حول العيادات الروحانية، يقول الشليلي: «للأسف أصبح نقد هؤلاء كما لو أنه نقد للقرآن أو طعن في الشريعة الإسلامية، في حين أننا ننتقد الممارسات الخاطئة ولا نعارض العلاج بالقرآن أو الرقية الشرعية، نحن نعارض الطرق والأساليب التي يستخدمها هؤلاء على سبيل المثال في إخراج الجني عن طريق ضرب المريض، وكذلك ما يصيب المريض من إيذاء نفسي وجسدي».
وحول التفسير العلمي لما يقوله الروحانيون من أن الشخص مسكون، وأن الجني ينطق بلسان الشخص وبنبرة صوت مختلفة، يقول: «ما يعتبره الروحانيون بأن الجني ينطق، نحن نسميها الهلوسة، ولها تفسير علمي، يقول بأن ارتفاع المواد الكيميائية في الدماغ يسبب ظهور أعراض الخربطة بالكلام والتشنج وتغير نبرة الصوت».
ويضيف: «هناك أعراض جسدية ترافقها أعراض نفسية واضطرابات وتشنجات، وهذه الأعراض تكون مقاربة للأعراض التي يسميها الروحانيون المس الشيطاني، وذلك نتيجة جهلهم بالأمراض علميا، فما يُقال عنه مس هو ناتج عن ارتفاع الدوبامين في الدماغ، والذي يؤدي إلى أعراض الهلوسة واللاوعي وانفصام الشخصية، وتكون هذه الأعراض مشابهة تماما لتفسيرهم».

مهنة من لا مهنة له
امتهان هذه المهنة العلاجية لا يحتاج إلى مؤهلات دراسية ولا إلى خبرات، بل العكس، فأغلب المعالجين القرآنيين الموجودين على الساحة لهم مستوى تعليمي بسيط وما تيسر من صحيح البخاري ولحية، ولا يجيدون أية مهنة أو حرفة باستثناء استثمار آيات القرآن لكسب المال وبيع الوهم لأشخاص ضعفاء نفسياً.