أمة الرزاق جحاف / لا ميديا -

يعشق اليمنيون الرخام المرمري، ويعود تعاملهم مع خامتهِ إلى عصور موغلة في القدم، نحتا وتشكيلا، سواء في ما يتعلق بمتطلبات حياتهم، مثل العروش المرمرية التي جلس عليها ملوكهم، وتبليط قاعات وجدران قصورهم، أو كعناصر تشكيلية على واجهات منازلهم، أو ما يتعلق بدياناتهم، من أعمدة المعابد، والتماثيل البشريةِ والحيوانية، أو مذابح القرابين، أو مباخر البخور، أو الهدايا التي يقدمونها لآلهتم، أو مسارج الزيوت التي تستخدم في الإضاءة، والكثير الكثير من المنحوتات واللقى الأثرية التي تزخر بها المتاحف اليمنية والخارجية، والتي تدل على ما تراكم لديهم من خبرات ومعارف ومهارة عالية في التعامل مع هذه الصخور الرخامية الجميلة.
ولعل في ما وصف به المؤرخون، وفي مقدمتهم أبو الحسن الهمداني، قصر غمدان الذي يتكون من 40 سقفا وفي رواية 20 سقفا، والذي استمر وجوده حتى بداية عصر الخليفة عثمان بن عفان، من أن سقف آخر طبقة فيه كان عبارة عن قطعة واحدة من الرخام أو المرمر المصقول بمهارة عالية، حتى إن الجالس في تلك الطبقة يستطيع أن يميز نوع وجنس الطير الذي يطير فوقه لشدة شفافيته.
وقد امتد هذا الشغف إلى اختيار الرخام المرمري، ليكون عنصراً أساسياً في معظم المباني في المدن التاريخية، خصوصاً تلك التي تقع في المرتفعات الجبلية.
وتعتبر مدينة صنعاء التاريخية المسجلة في سجل التراث العالمي، أهم دليل على أقدمية احتراف اليمنيين لهذه الحرفة، كونها من أقدم المدن البشرية التي سكنها الإنسان.. وماتزال أنماطها المعمارية المميزة تتواتر تاريخيا بنفس الطريقة البناء.. ولاتزال الكثير من مبانيها تتميز بوجود دوائر رخامية من المرمر إما تعتلي نوافذها أو تدخل في تصميم واجهاتها.
والقمرية، جمعها قمريات، تصنع من مادة الرخام الأبيض الذي عاصر الحضارة اليمنية، وكان إحدى أدواتها، مع أنها قد استبدلت في العقود الأخيرة بالعقود الزجاجية الملونة، إلا أنها لاتزال تلفت نظر السياح والزائرين وتبهرهم بجمالها.
والقمريات هي منافذ ضوئية مصنوعة من الرخام المرمري بعد تشذيبه إلى الحجم المطلوب بواسطة مناشير يدوية خاصة، ثم تحك القطعة وتصقل حتى تصبح شفافة تسمح بنفاذ الضوء، وتكون جاهزة لتثبيتها في الفراغ الذي أعده المعماري.
وقد أتت تسميتها بالقمرية لعلاقتها بالضوء كما ذكرت، ولأنها في المساء تبدو للناظر إليها من الخارج كأنها أقمار معلقة تشبيها لها بالقمر ليلة اكتماله.
ووظيفة القمرية في المبنى تشكيل فضاءات المبنى السكني بيئيا، بمعنى إدخال الضوء بكميات محددة ومريحة للعين على الفضاءات الداخلية ذات العلاقة المباشرة بالخارج، ونقله أيضاً إلى الفضاءات الوسطية عبر فتحات تعلو الجدران والقواطع الداخلية للمبنى، وتشع فيها الروحانية والسلام الروحي نتيجة لتوازن الإضاءة.
ولقمرية الرخام أيضا خاصية تكثيف الإضاءة النهارية.. أما خصوصية خاماتها فهي ناتج عن تباين درجة شفافية وألوان الرخام والجهد المبذول في صقله، والذي يسمى علميا «الألاباستر»، إضافة إلى إمكانية تشكيله إلى أحجام وأشكال متعددة.
ومن أشكال القمرية: المربعة والمستطيلة والمعقودة، وتعد القمرية الكبيرة الأكثر انتظاما في الشكل أو التشكيلة الرئيسية للقمرية، أما أكثرها انتشارا وحضورا فهي القمرية الدائرية الشكل، وكذلك المعقودة التي تتخذ شكل حدوة الفرس.
هذا بالنسبة للقمريات التي تعلو النوافذ.. أما القمريات التي توضع في فتحات منافذ الضوء في ثريات بيت الدرج، فغالبا ما تكون خماسية الأضلاع أو مستطيلة، وبالنسبة للقمريات التي تعلو الجدران وتدخل في التصميم الزخرفي للواجهات، فهي غالبا ما تكون على شكل دائرتين إحداهما تعلو الأخرى، وقد يجاورها شكل مماثل.
ويتم الحصول على خام الرخام المرمري من مناجم متعددة أشهرها في منطقتين رئيسيتين كلاهما في محافظة صنعاء، الأولى منطقة ذي مرمر في شبام الغراس، والثانية منطقة نهم.

 طريقة صنع القمرية:
- اختيار المادة الخام من الرخام المرمري وفقا للحجم المطلوب في البناء.
- يستخدم الحرفي أداة قياس تقليدية بدائية تسمى الْعَدْلَة، وذلك لضبط مساحة القمرية وتحديد أبعادها.
- يقوم الحرفي بتشكيلها الى الشكل المطلوب باستخدام أداة بدائية تسمى القدوم (الفأس).
- يتم تثبيت الخامة على «المَقَط»، وهو عبارة عن جذع شجرة.. رأسها مصقول.. وذلك لقص القمرية ونشرها إلى الحجم المطلوب.
- يتم صقلها يدويا بمناشير خاصة.

 أنواع القمريات:
- المكوكبة، وهي التي تبدو للناظر بعد انعكاس النور على المادة المرمرية كضوء الكوكب، ومن أشكال هذا النوع المستطيلة والدائرية.
- الشريفة ومادتها الرخامية أكثر صفاء ونقاء، وتعد أغلى أنواعها.
- خُضَيْر وتكون مادتها الحجرية المرمرية تميل إلى الون الأخضر مشرئباً بسواد خفيف.
الأعزاء القراء أرجو أن تكونوا قد استفدتم من حديثنا هذا عن تلك الأقمار الدائرية الجميلة، رغم أنها قد أوشكت على الاندثار لدرجة أنه أصبح لدينا جيل كامل لا يستطيع أن يفرق بين العقد والقمرية، ويطلق على العقود أو التخاريم الجصية المقوسة والمكسوة بقطع الزجاج الملون، اسم قمرية، حتى على مستوى واضعي المناهج سابقا، لكنها لاتزال لها عشاقها حتى في وقتنا الحاضر، حيث بدأ المتذوقون للفن والمهتمون بتأكيد انتمائهم لأصالة الهوية اليمانية التي ينتمون إليها، ولذلك يحرصون على تطويرها واستخدامها في ديكورات منازلهم وإن كانوا أعداداً قليلة، لأنها كغيرها من الحرف لم تحظ باهتمام صناع القرار السياسي الذين كانوا حريصين على تشجيع وتنمية سياسة التغريب والتجاهل المتعمد لهذا التراث.