مروان أنعم / لا ميديا -

في العام 1835 بدأت السفن البخارية التابعة لشركة الهند الشرقية البريطانية بالتوقف في ميناء عدن للتزود بالوقود والغذاء، فهي محطة هامة لنقل المواد الخام من آسيا وأفريقيا إلى بريطانيا العظمى في ذلك الوقت، ومن هنا سال لعاب التاج الملكي البريطاني، وأقدم على احتلال مدينة عدن لأهمية موقعها الجغرافي في خطوط الملاحة العالمية، وتحول ميناء عدن إلى ميناء مفتوح ترسو عليه العديد من السفن البخارية التي تحمل الأعلام المختلفة لدول العالم.
ومن هنا بدأ العديد من اليمنيين بالتدفق إلى ميناء عدن بحثاً عن فرص العمل على متن بواخر المستعمر البريطاني، وعبر تلك البواخر وما تقدمه من أجور زهيدة وعمل شاق، تسرب اليمنيون إلى الشواطئ البريطانية.

حضور مبكر ومؤثر
وفي العام 1919 اندلعت مظاهرات سميت «الشغب العربي»، بعد رفض أحد الاتحادات العمالية في مرافئ السفن الاعتراف بحقوق العمال اليمنيين، وهي الأحداث التي جاءت على خلفية الوضع الاقتصادي والجمود، وقصة الشغب العربي كانت موضوعاً لمسرحية شهيرة كتبها بيتر مورتيمر بعنوان «شغب».
ومع بداية السبعينيات خلف الجيل الأول من البحارة اليمنيين الذين عملوا في البحر على متن السفن البخارية البريطانية، جيل آخر من المبتعثين للدراسة أو الباحثين عن فرصة عمل تجارية، وأصبح الكثير من أبناء المهاجرين اليمنيين أو أحفادهم في عدد من الجامعات البريطانية، وهناك أيضاً في بريطانيا عدد من اليمنيين الذين يعملون في وظائف الطبقة الوسطى في المجتمع البريطاني، مثل الطب والهندسة والمحاماة والتدريس وغيرها من الوظائف الحكومية والخاصة، فالكثير منهم شق طريق التحصيل العلمي للوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة تليق بهم وبوطنهم الأم اليمن.

الدكتور كحيل أنموذج ناجح
الدكتور الاستشاري فهد كحيل، طبيب العيون اليمني البريطاني في مستشفى مدينة شيفيلد، هو نموذج للطبيب اليمني الناجح والمؤثر على صناع القرار البريطاني، وهو ممن عرفوا معادلة تأسيس الحياة بالاستفادة مما تتيحه ظروف المهجر. 
يشرف الدكتور كحيل حالياً على تدريب العديد من الأطباء البريطانيين، وله أبحاث عديدة ودراسات تنشر في أرقى المجلات الطبية العالمية.
ولد الدكتور كحيل في برمنغهام، ثاني أكبر المدن في بريطانيا، وكان يذهب إلى المعهد العلمي اليمني الذي يتعلم فيه الكثير من اليمنيين والعرب، وتُدرس فيه مناهج دراسية يمنية وعربية، وغالبية كوادر التدريس في المعهد هم يمنيون. كان يذهب كحيل إلى المعهد اليمني عقب إنهائه دروسه في المدرسة الإنجليزية.
رغم أنه من مواليد بريطانيا، إلا أن الدكتور كحيل ذا الـ45 عاماً، لايزال مرتبطا بوطنه الأم اليمن، ومدينة تريم بحضرموت تحديداً، ويشعر بالحنين والشوق الدائم لوطنه، لذا فهو دائم التردد على اليمن، وفي كل زيارة له يجري العديد من العمليات الجراحية لأبناء مدينته بالمجان.
أما اختياره لتخصص طب العيون تحديداً، فيعود إلى معاناة شخصية تمثلت في إصابة والده بضعف شديد في النظر، اضطره إلى الخضوع لعملية نقش العين (إزالة المياه البيضاء).
تأثر الدكتور كحيل، آنذاك بتلك العملية التي لم تتجاوز مدّتها الخمس دقائق، وما يمكن أن تحدثه من فرق كبير في حياة الإنسان، فدرس طب العيون، وحصل على درجة استشاري في طب وجراحة العيون والشبكية، ويعمل حالياً رئيساً لقسم الشبكية في مستشفى مدينة شيفيلد البريطانية.

أثبت للبريطانيين سلامة ودقة أبحاثه
استطاع الدكتور كحيل أن يعالج 15 طفلاً، من بينهم طفل أصيب بتلف كبير في شبكة العين، بسبب قلم ليزر اشترته له والدته كهدية بمناسبة عيد الميلاد، من متجر إلكتروني. ولكن كان هنالك طفل آخر لم يتجاوز عمره 13 سنة، كان أقل حظّاً، وفقد نظره بشكل كامل في عينه اليسرى. 
تلك الحالات وحالات أخرى لتلف شبكية العين بسبب أقلام الليزر، دفعت كحيل إلى إجراء بحوث موسّعة عن مخاطر تلك الأقلام، التي تشترى من الإنترنت، وتستورد من بلدان خارج أوروبا، وتواصل مع حوالي 900 جراح عيون في بريطانيا، ليكتشفوا ما يقارب 150 إصابة في العين، نتيجة أقلام الليزر. وقد أثبت أن أقلام الليزر تتسبب بأضرار خطيرة على شبكية العين في أقل من ربع ثانية، نتيجة قوة الليزر المضاعف مرّات ومرّات، والتي تفوق المعدل المسموح به، وهو واحد مللي وات.
سعى الدكتور كحيل إلى حث الحكومة البريطانية على العمل بشكل أكبر، للسيطرة على تجارة تلك الأقلام الخطيرة، ووضع حل لهذه القضية، كي يصبح التسوّق على الإنترنت آمناً، وضرورة عمل خطة لتوعية الأطفال في المدارس عن طريق برنامج تعليمي، ولأجل هذه الغاية عمد إلى إيصال صوته إلى المجتمع البريطاني، فظهر في برنامج «صباح الخير بريطانيا» و«بي بي سي» و«آي تي في»، وتحقق له ما أراد، إذ فرضت الحكومة البريطانية منع استيراد أو تداول تلك الأقلام، باستثناء الأقلام التي تنطبق عليها معايير السلامة، والتي لا تتجاوز قوتها واحد ميللي وات.
بات البريطانيون يأخذون خبرته على محمل الجد عقب عدد من الحوادث التي أثبتت صحة رؤيته، فقد أثبت كحيل صحة وسلامة أبحاثه ونظرياته.
يعتقد الدكتور كحيل أن العلم مشاع لكل مجتهد وباحث، وأن أرض المهجر لا بد أن تعطي العالم حقه في البحث العلمي بغض النظر عن الصعاب، وما يأمله كحيل، كغيره ممن ولدوا وكبروا في المهاجر، أن يكون العلم سلاحاً ومدخلاً لتطور الإنسان فردياً وجماعياً.
النماذج الناجحة في أرض المهجر كثيرة ومتنوعة، والكثير من البلدان العربية، ومنها بلدنا، تنظر إلى المغترب كمحفظة نقود فقط.