تحقيق :عادل عبده بشر- فاطمة أحمد مطهر / #لا_ميديا -

17 أغسطس 2019م، تاريخ لن ينساه الشاب أنور محمد فاضل ذو الـ35 عاما، عندما ذهب لإجراء فحوصات طبية في أحد المراكز الطبية بالعاصمة صنعاء، لمعرفة سبب الآلام المتواصلة في البطن والتي يصاحبها شعور بالتعب والإرهاق، ليتضح إصابته بسرطان الدم «اللوكيميا»، لتبدأ رحلة العذاب لدى الشاب بحثا عن العلاجات ومطاردة الفحوصات الدورية باهظة الثمن.
أنور واحدٌ من آلاف اليمنيين الذين غزا أجسادهم مرض السرطان، متوعداً بالقضاء عليهم، مستغلا العدوان والحصار لبسط نفوذه أكثر والتلذذ بتعذيب الحالات المرضية.
صحيفة «لا» تكشف في هذا التحقيق جانباً من معاناة مرضى السرطان في ظل الحصار والعدوان، وتُسائل المعنيين في المركز الوطني لعلاج الأورام السرطانية عن الأدوية والمحاليل الطبية وأسباب انعدامها، والخدمات التي يقدمها المركز، والصعوبات التي يواجهها.

الصدمة الأولى
لم يكن أنور يعرف ماذا يعني ارتفاع نسبة كريات الدم البيضاء لديه، عندما أخبره أحد الأطباء في المركز الطبي الذي ذهب إليه لمعرفة أسباب ألم البطن وحالات التعب والإرهاق التي يشعر بها، واعتبر ارتفاع نسبة كريات الدم البيضاء شيئاً عادياً، ولم يعر كلام الطبيب بضرورة الذهاب إلى مختبر تخصصي لتأكيد النتيجة، أي اهتمام.
بعد بضعة أيام عاد إلى المركز ذاته، وهو يعاني من وجود فطريات والتهابات في فمه، فوجد الطبيب نفسه يقف أمامه ويخبره بأن لديهم شكوكاً في كونه مصاباً بسرطان «اللوكيميا»، حينها لم ينتظر الشاب لحظة واحدة، وانطلق مسرعاً لإجراء الفحوصات اللازمة لدى مختبر تخصصي، غير أنه فوجئ بأن قيمة الفحص 80 ألف ريال، وهو لا يملك هذا المبلغ كحال الكثير من المواطنين، فذهب إلى مركز الأورام السرطانية بالمستشفى الجمهوري لإجراء الفحوصات، باعتبار المركز جهة حكومية يقدم خدماته لمرضى السرطان مجاناً، ولكن بصيص الأمل لدى الشاب انطفأ تماماً مع رد أحد العاملين في مختبرات مركز الأورام بأن الفحوصات التي يحتاجها لا يمكن إجراؤها في المركز لعدم توفر المحاليل الطبية، وعليه التوجه إلى المختبرات الخاصة.

فاعل خير مبني للمجهول
اضطر الشاب إلى الاستدانة، وساعده أصدقاؤه المقربون في توفير قيمة الفحوصات وغيرها، وبعد أن تبين إصابته بسرطان الدم تم تحويله إلى المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان ، و«هى مؤسسة مجتمع مدني خيرية غير ربحية» -كما تصف نفسها - لأخذ العلاج المقرر لذلك، والذي تقدمه المؤسسة مجاناً، ويستخدم بشكل يومي، وتمكن أنور من الحصول على العلاج لمدة شهرين، ثم انعدم هذا العلاج تماماً، وأصبح البديل علاجاً «هندياً» ليس بالجودة ذاتها.
في ديسمبر الجاري، تقرر إجراء فحوصات دورية «بعد مرور 3 أشهر من بدء العلاج»، لمعرفة مدى تقبل الجسم له، وذهب أنور إلى مركز الأورام في المستشفى الجمهوري، آملاً أن تكون الفحوصات قد توفرت في مختبرات المركز، غير أن الجواب هو ذاته «لا نستطيع إجراء فحوصات BCR/ ABL لعدم توفر المحاليل الطبية، ولازلنا ننتظر فاعل خير يتبرع بها».

حياة مهددة بالموت
متدثراً بـ«بطانية» وعلى أحد الأسرة في قسم الأطفال بالمركز الوطني لعلاج الأورام السرطانية، يحاول الطفل محمد عارف علي أحمد فرحان، تدفئة جسمه النحيل وجسده المنهك بسبب سرطان الأمعاء.
مضى على محمد ابن السنوات السبع، شهران ونصف وهو يتلقى العلاج في مركز الأورام، حيث قدم إلى المركز برفقة والديه وشقيقه، تاركين منزلهم في قرية الزواقر بمحافظة تعز، بعد اكتشاف إصابة الطفل بالسرطان.
يتحدث والد الطفل لصحيفة «لا» والدموع تسكن عينيه، موضحاً أنه تم اكتشاف إصابة نجله بالسرطان في مركز أطباء بلا حدود بمنطقة القاعدة محافظة إب، وتقرر نقله إلى صنعاء، غير أن عدم امتلاك الأب تكاليف السفر تسبب في عرقلة نقل الطفل مباشرة، وتأخر الأمر بضعة أيام أصيب فيها محمد بتعب شديد، ما دفع الأب لاستدانة مبلغ مالي مكنهم من السفر إلى صنعاء.
يقول الأب: «حين وصلنا صنعاء لم نعرف أين نذهب لعدم وجود أي أقرباء لنا في العاصمة، إضافة إلى عدم امتلاكنا المال للنزول في الفندق».
زادت حالة الطفل محمد سوءاً، ورحمة من الله، وجدوا فاعل خير استضافهم في منزله، ولكنهم لا يعرفون كم ستستمر مدة العلاج وكذلك فترة الاستضافة، فيختتم الأب حديثه بالقول: «محمد يحتاج إلى عناية كبيرة، وفي حال لم نستطع البقاء في صنعاء ومواصلة العلاج، فإن حياته مهددة بالموت».

تحت رحمة الكيماوي
سمية فايز البليهي، طفلة تبلغ من العمر 5 سنوات، من محافظة عمران، هي الأخرى أنهك السرطان جسدها الطري، وقضى على طفولتها، فعلى مدى عام ونصف وهي مع عائلتها يصارعون هذا المرض، ويتنقلون ما بين المستشفى الجمهوري ومستشفى السبعين لتلقي العلاج.
ووفقاً لوالد الطفلة الذي تحدث لصحيفة «لا»، فإن سمية مصابة بورم في الغدة الكظرية، لم يتمكن الأطباء في صنعاء من استئصاله، ويتوجب سفرها إلى الخارج لإجراء العملية، غير أن إغلاق مطار صنعاء حال دون ذلك، فأصبحت الطفلة تحت رحمة جرعات الكيماوي على مدى عام ونصف، ولازالت المعاناة متواصلة.

طفولة موءودة
على مقربة من سمية توجد الطفلة بشائر فواز عبدالله، البالغة من العمر سنتين، حيث قدمت مع والديها من منزلهم في منطقة حراز بمحافظة صنعاء، إلى مركز الأورام السرطانية، قبل 3 أشهر، بعد أن تبين إصابتها بالسرطان في الكبد.
بابتسامة تكسر القلب حاولت بشائر إضفاء نوع من الفرح حين رأتنا نخرج الكاميرا، معتقدة أنها لعبة، فأومأت بيدها نحو والدتها التي تقف بجوار سريرها، كأنها تقول أريد أن أعيش طفولتي كبقية أطفال العالم.
تقول والدة بشائر إن السرطان انتشر في كبد الطفلة، وهي تخضع حالياً لجلسات العلاج الكيماوي، كنوع من محاولة السيطرة على هذا المرض حتى يتمكنوا من السفر إلى الخارج.

جلسة تحقيق كيماوية مع مدير المركز الوطني لعلاج الأورام
صحيفة «لا» حملت الملف القاتل «ملف السرطان» ومعاناة المصابين به مع الأدوية والعلاجات والفحوصات المختبرية، وألقته بين يدي مدير عام المركز الوطني لعلاج الأورام السرطانية الدكتور عبدالله ثوابة، وخاضت معه جلسة تحقيق كشف خلالها الكثير.
أوضح الدكتور ثوابة، أن المركز يعتبر الوحيد الذي يقدم الخدمة العلاجية لمرضى الأورام، وتتفرع منه 6 وحدات على مستوى الجمهورية في محافظات إب وتعز والحديدة وعدن والمكلا وسيئون.
وأكد وجود ارتفاع مخيف في نسبة مرضى السرطان باليمن، وخصوصاً منذ بداية العدوان مطلع العام 2015م، حيث يستقبل المركز 6 آلاف حالة جديدة سنوياً من مختلف الفئات، إضافة إلى وجود حالات مترددة على المركز تقدر ما بين 15 و20 ألف حالة، وهي الحالات القديمة التي تتردد على المركز للعلاج، مشيراً إلى أن منظمات عالمية تقدر مرضى السرطان في اليمن سنوياً ما بين 35 و40 ألف حالة.

الخدمات المقدمة من المركز
وحول الخدمات التي يقدمها المركز الوطني لعلاج الأورام، يقول الدكتور عبدالله ثوابة: «مراكز الأورام توفر 3 خدمات أساسية: العلاج الكيماوي، وخدمة العلاج الإشعاعي، وخدمة العلاج الجراحي، والمركز لديه خدمتا العلاج الكيمائي والعلاج الإشعاعي، إضافة إلى الخدمات الأخرى، وهي كثيرة، وكل هذه الخدمات مجانية وبنسبة 100 ٪» 

صعوبات وعراقيل
ويؤكد أن المركز يواجه العديد من الصعوبات، وتفاقمت هذه الصعوبات منذ بداية العدوان والحصار، وأبرزها تعطل أجهزة العلاج بالإشعاع والحظر الذي يفرضه التحالف على دخول المصادر المشعة لاستمرار العمل بهذه الأجهزة.
ويقول: «لدينا 3 أجهزة للعلاج بالإشعاع، جهازان للعلاج بالإشعاع عن بعد، وجهاز للعلاج بالإشعاع عن قرب.. أحد الجهازين للعلاج بالإشعاع عن بعد وجهاز العلاج عن قرب أصبحا معطلين بسبب أن المصادر المشعة نضبت وخرجت عن الفاعلية العلاجية، وتبقى لدينا جهاز واحد فقط يعمل حالياً، وهو جهاز للعلاج بالإشعاع عن بعد، وهو أيضا شارف على التوقف كونه مضى عليه أكثر من فترتي نصف عمر، وهو ما يقلل من كفاءة الجهاز الزمنية - زمن المعالجة تحت الجهاز - والعلاجية». 
ويضيف: «المركز بحاجة إلى جهاز إشعاعي حديث ومتطور ثلاثي الأبعاد لعلاج المرضى، خصوصا الأطفال، الذين يحتاجون للعلاج بالإشعاع عالي الدقة»،لافتاً إلى أن «700 حالة جديدة من الأطفال المصابين بالأورام السرطانية مسجلون لدى المركز لهذا العام، وهم من ضمن 6000 حالة جديدة من مختلف الأعمار».
وأشار إلى أن الأجهزة التي لدى المركز تعالج المرضى بالمصادر المشعة وأيضا اليود المشع، وهي مصادر طبية بنسبة 100٪ إلا أن هذه المصادر قام تحالف العدوان بمنع دخولها إلى اليمن، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على صحة المريض، وقد تصل إلى حد الوفاة. 

ارتفاع نسبة الوفيات
ولفت إلى أن نسبة الوفيات لمرضى السرطان في اليمن أصبحت عالية لعدة أسباب، أبرزها نقص في الخدمات العلاجية المقدمة للمرضى سواء في ما يتعلق بالعلاج بالإشعاع أو ما يتعلق بالأدوية، وهذا النقص في الخدمات يعود إلى العدوان والحصار وإغلاق مطار صنعاء، ومنع دخول المصادر المشعة وبعض الأدوية الكيمائية.

إغلاق المطار كارثي
ووصف الدكتور عبدالله ثوابة إغلاق مطار صنعاء الدولي بـ«الكارثة»، كون الأدوية وخصوصاً أدوية مرضى السرطان تحتاج إلى معايير دولية عالية خلال النقل، ومع إغلاق مطار صنعاء أصبح الدواء لا يصل إلا بطرق صعبة جداً، وهو ما يؤثر على كفاءة الأدوية، وقد تصل إلى مرحلة أن الدواء يكون غير فاعل.
وقال إن إغلاق مطار صنعاء حرم الكثير من المرضى من السفر إلى الخارج للحصول على الخدمات العلاجية غير المتوفرة في اليمن، وهذا الإغلاق يعتبر إعلان وفاة لهم.

عدم توفر الأدوية عالية الجودة
وتعليقاً على شكاوى الكثير من مرضى السرطان حول انعدام بعض الأدوية «الأصلية»، وخصوصاً دواء الـ(GLIVES 400MG)، يقول الدكتور ثوابة: «هذا ما نشكو منه، أنا شخصياً معترض على أي توفير لأي دواء ليس ذا كفاءة.. فجريمة ألا يتلقى مريض الأورام الأدوية ذات الكفاءة، كون هذه الأدوية عالية الدقة، يعني أدوية موجهة، تحتاج إلى شركات عالمية ذات جودة عالية».
ويضيف: دواء الـ(GLIVES 400MG) هو من الأدوية التي توفرها مشكورة المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان، وكان لهم جهد كبير في توفير العلاج الأصلي، ولكن الكمية المتوفرة من هذا العلاج انتهت، وأصبح البديل علاجاً آخر «هندياً» بجودة أقل، والآن المؤسسة مطالبة بتوفير العلاج الأصلي مرة أخرى، لأنه وفر بدعم كبير جداً وبسعر رخيص من الشركة العالمية المنتجة للدواء، والتي قدمت الخدمة، ويجب أن نستغل هذه الخدمة، وبالذات في هذا الظرف. 

انعدام المحاليل الطبية
وحول انعدام المحاليل الخاصة بالفحوصات في مختبر المركز الوطني لعلاج الأورام، واضطرار المرضى إلى إجراء الفحوصات في المختبرات الخاصة باهظة الثمن، يؤكد ثوابة أن السبب في ذلك يعود إلى عدم قدرة المركز على شراء المحاليل لعدم توفر الميزانية، لافتاً إلى أن المركز قام بإنزال مناقصات لشراء المحاليل، إلا أنهم اضطروا بعد ذلك إلى إلغاء المناقصات لعدم وجود تغطية مالية من وزارة المالية بقيمة تلك المناقصات، وهو ما أثر سلباً على الخدمات المقدمة من المركز وعلى المريض نفسه.
 ويوضح في سياق حديثه لصحيفة «لا» قائلاً: «للأسف الشديد، المركز الوطني لعلاج الأورام لم يستلم من وزارة المالية كميزانية للجانب العلاجي هذا العام 2019م، سوى 500 مليون ريال فقط، وهذا قليل جداً مقارنة بما كان يقدم حتى أثناء العدوان، حيث كانت الوزارة تقدم ملياري ريال، ولكنها هذه السنة لم تقدم سوى 500 مليون، وهذا أثر كثيراً على قدرة المركز في شراء المحاليل وفي شراء الأشياء التي كان يستطيع أن يقدمها من ميزانيته. ونحن هنا نطالب وزارة المالية بأن تكون على قدر المسؤولية، وألا يتم المساس بميزانية علاج مرضى السرطان، لأن ذلك يؤثر على المريض بشكل مباشر».

أسلحة محرمة
من جانب آخر، كشف مدير المركز الوطني لعلاج الأورام عن اقتران زيادة نسبة مرضى السرطان في اليمن خلال سنوات العدوان، بالأسلحة والصواريخ التي قصفت بها المدن والأحياء السكنية بالعاصمة صنعاء وغيرها. 
وقال: «هناك ارتفاع ملحوظ وبشكل كبير في عدد مرضى السرطان في اليمن، من بداية العدوان، وهذا الارتفاع غير طبيعي، خصوصاً وأن نسبة الارتفاع في المناطق السكنية التي تعرضت للقصف، فنحن كأطباء ننظر إلى المتغير الجديد ونعزو السبب إليه.. والمتغير هنا هو الحرب والصواريخ التي أسقطها العدوان على المدن والمناطق المأهولة بالسكان، خصوصاً وأنه سُجلت حالات كثيرة لمرضى أصيبوا بجروح جراء القصف، وبعد فترة تحولت هذه الجروح من جروح عادية إلى جروح سرطانية، والجروح العادية نادراً جداً أن تتحول، في الأوضاع الطبيعية، إلى جروح سرطانية، لكن أن يكون هذا التحول بشكل كبير لدى جرحى القصف، فهذا يؤكد استخدام العدوان أسلحة محرمة دوليا».