مجاهد الصريمي / لا ميديا -

لا نزال نصل ما انقطع من روابط بين المبدعين والمتلقين لينتهي بنا المطاف إلى أن نقف بكل قوانا أمام أعتى مظاهر تغييب وجودنا، مقدمين ابتسامة أمل على شفاه الجراح، ومطلقين عنان خيوط تشكل فجر أحلامنا المنساب بين الجوانح عاطفةً وفكرةً، والمتجسد بالجوارح وعياً وعملاً، ونحن نغوص في بحار الحكمة محاولين اصطياد درة هنا أو صدفة هناك.

لا شك أن الأدب الشعبي يزخر بكل ما نحتاج، ويحفل بكل ما نريد، فعلى وقع تدفق أمثاله تمكنا من تكوين خلاصة الوعي بكل ما نواجهه في كل مجالات الحياة وتشعباتها، ومن أسمار القرية وبين أحضان الأمهات والجدات تشكلت اللبنات الأولى في السمات الصانعة لشخصية كل واحد منا، وذاك ما تكفلت بإيجاده الحكايات والأساطير الشعبية، التي كانت تزورنا عند حلول ظلام كل ليلة من ليالي الطفولة، وكان النوم لا يكاد يجد سبيلاً لإغلاق أعيننا إلا تحلقنا حول الأم أو الجدة، وأطلقت لسانها بسرد حكاية فارعة أو عدار الدار أو أبو كليب المعروف بالجرجوف في بعض المناطق. وعلى صوت الحكاية، وحيوية مشاهدها، يطبق النوم علينا وقد تمثلنا هذه الشخصية أو تلك، وتنامت لدينا مشاعر وأحاسيس الحزن والفرح، الحب والكراهية، الخوف والاطمئنان. ولا تتوقف الإفادة من الأدب الشعبي هنا، بل أينما وجهت وجهك في ربوع الريف وجدت رافداً من روافده، أو لوناً من ألوانه، ففي الحقل تستمع لذلك المزارع وهو يردد:
ما همني ما كل الذيب إلا شمات الرواعي.. بصوت يتردد في كل محيطه، ثم تمضي قليلاً، فتستمع لتلك الحطابة أو الراعية وقد تجلت كالشمس وهي تسوق الألحان، وتنثر القوافي النقية، النابعة من العواطف الصادقة والفياضة بالمشاعر الحقة، الحاملة لدلائل الصدق، والموضحة لكنه الحب الفطري الخالي من ملامح المسخ الحضاري، والبعيد عن التهتك الصادر عن التشوهات الخُلقية التي اصابت النفوس عبر الحداثة ومخرجاتها، فأصبحنا نرى الشيء وقد تمكن من إخفاء حقيقته خلف مساحيق بدا من خلالها يحمل صورةً ليست له، وشخصية وهمية تبدت كبعد يوحي بالعدمية وغياب الذات، ولكن هيهات.. فمَن ارتبط بجذوره قوي على تثبيت أقدامه في ساحة حاضره وتمكن من الأخذ بزمام مستقبله..
والأدب الشعبي وإن غابت بعض ألوانه واندثرت أو أوشكت على الاندثار، فإن للون من ألوانه النزوع إلى الجِدَّة والقدرة على مزاولة مهامه في كل زمن، وتولي مهمة كتابة وتدوين التاريخ الشعبي (تاريخ عامة الناس)، ونقل سيرهم وأخبارهم إلى مَن بعدهم من الأجيال.
أنه الشعر الشعبي.. وها نحن ننطلق مع فارس من فرسانه، ونرتوي من عذب زلال نهر من أنهاره، إنه الشاعر أحمد محمد علي حسين النقيب، المعروف لدى محبيه ومتابعيه في الوسط الشعبي بـ»أبو حسيب»، وهو واحد من أبرز الشعراء الشعبيين لمحافظة «إب»، ومديرية «يريم « التي تحتضن مسقط رأسه ومرعى صباه بين قراها، إنها قرية «المنزل» التابعة لعزلة «بني منبه».
ولشاعرنا العديد من البنين والبنات، وقد وجد نفسه في ميدان الشعر والكلمة عند تفتق نظرته للحياة، وكمال وعيه بالتناقضات التي تحيط به، فكان لا بد أن يخوض معتركها بعزيمة وصبر، وهذا ما نجده في قصيدة من قصائده والتي يقول في بعض أبياتها المتضمنة سيرته الذاتية:
من عمر ما جاوز العشرين ظليت
مواصل الرحلة لخمسة وخمسين
واليوم أقول ليت المحبين يا ليت
يبادلوني من قساهم في اللين
حاولت أبذل في رضاهم وراضيت
واصبحت أنا المخطي وهم ذي محقين
لقد كان لتسجيلات «الكوماني» الفضل في تعريفنا بهذا الشاعر، من خلال ما كانت تنتجه من قصائده المغناة على أشرطة الكاسيت، مع شعراء آخرين تبادل شاعرنا معهم وجهات النظر في بعض القضايا، أو إعطاء الحلول لبعض المشكلات. وقرية «المنزل» -عزيزي القارئ- فاتنة تكسوها الخضرة، وتتخذ خضابها من دماء سكانها، فقد دام شبح الحروب القبلية والثأر قرابة 50 عاماً على مرأى ومسمع من الجميع، حكام ومحكومين، دولة وقبيلة، مشائخ وقضاة. ولا أحد يكترث بما يحصل فيها، أو يلقي بالاً لنزيف دم أبنائها، وكانت الأحقاد والغواية المغذاة برغبة جامحة من قبل النظام البائد، تنحو منحى التفكيك لعرى المجتمع، وتبديد قوته، وحصره بين مطرقة وسندان نهج الساسة المزدان بكل صور القبح والمكائد. لقد أرادوا حكماً بلا محكومين، وعملوا كل ما بوسعهم لإيجاد وطن بلا مواطنين! وانتهجوا نهجاً شيطانياً بالتفريق بين الناس، وتنمية الصراعات والاقتتال بين الأسر والقبائل في كل مكان، وتتكفل سلطة الوصاية حتى بالتسليح للمتقاتلين، فكان معسكر الفرقة بقيادة الخائن علي محسن يتكفل بتسليح قبيلة، والحرس الجمهوري بقيادة المرتزق أحمد عفاش يسلح قبيلة، إلى جانب تلك الظواهر التي سلكتها سلطة الوصاية، كانت نفسية المواطن اليمني ساحة فارغة من جاء غزاها على حد تعبير الشاعر الشهيد «عبد المحسن النمري». وقد صور شاعرنا حالة الفراغ لدى المتقاتلين في عدة قصائد؛ مثل قوله في قصيدة كانت رداً على شاعر من ذمار طلب منه تشخيص الحال فقال شاعرنا في بعض أبياتها:
خيم ابليس بين الكل وافتز واغوى
وانتقى شلته واصغوا لقوله وطاعوه
للفريقين شغل شاشته عبر الاضوا
سلسل افلام حتى ضلهم واستلذوه
ولا أجد عقداً يجمع كل ما تفرق من الكلمات على بساط هذه السطور، أتم من قصيدة لشاعرنا تحمل اسم (نصيحة من مجرب)، فيها من لوعة الحنين للغد الخالي من شوائب سلطات الوصاية بكل تفاصيلها الفاسدة، بمكوناتها الرسمية والشعبية، فالمشائخ دورهم محدد بحسب ما تمليه مصلحة النظام البائد ومصلحة زبانيته، ولا أعذب من تقديم القصيدة كاملة بين يدي القارئ ليتعرف على واقعه الذي كان سائداً قبل الثورة الشعبية الغراء، ثورة الواحد والعشرين من سبتمبر، حيث يعرض شاعرنا مشاهد حية من أروقة الأمن، ومقرات البحث، ومباني النيابات، وقاعات المحاكم، لنرى عن قرب تشكل أيادٍ تنوعت اساليب هدمها لليمن، الأرض والإنسان، بتنوع وظائف الهادمين. والقصيدة ليست مجرد قطعة تكشف حقائق وتسجل أحداث، بل إنها إلى جانب ما تقدم قطعة منزوعة من سويداء قلب شاعرنا وهذا نص القصيدة:
يا من الحمد لك والشكر عرفان واجب
 أحمدك وأشكرك حمد الرضى والإنابة
وأرجو العون يا ذا العون حل المتاعب
في دروب العناء واتعابها والكآبة
اغفر الذنب جيتك حامل الذنب تايب
يا سميع المنادي يا سريع الإجابة
بعدها قال أبو أوسان دنيا العجايب
منها ذقت من فوق الإصابة إصابة
حملتني وساقت بي دروب النوايب
وسط غاباتها طاويت غابة بغابة
من شبابي وأنا رحال واليوم شايب
كلما قلت زال النحس زاد الشقا به
كم تجرعت منها من كؤوس الغلايب
مرها لو وضع في جامد الصخر ذابه
أربعين عام من جانب تحول لجانب
كلما اصلحت جانب قابلتني عصابة
كم بطل فارق اولاده وساب الحبايب
والمنازل في المنزل غدت خرابة
وافتقدنا المحصل وانقطاع المكاسب
للطقومات والقادة حطبنا حطابة
والجوار الذي من حولنا والجوانب
 أصبحوا ينظرونا مثل جسم الجنابة
والمشايخ لهم موقف شبيه المراقب
باستماع النواعي يالها من رقابة
وان حد زارنا فقده لما في الزرايب
ما يساوي لنا مقدار وزن الذبابة
بالنقاشات رعنا بين صادق وكاذب
ضاق غلاب من هذا وضايق ثوابه
مشهد الشيخ في جانب محامي ونايب
 يجعل المرء من أمره شديد الغرابة
مشيخة لا تميز بين سنة وصايب
عند بعض المشايخ والوجيه المعابة
يا معصب عيونك حاسب الخط حاسب
لا تهور وقدامك مزالق مهابة
ليس بالسهل يا جاهل دخول المصايب
 بل من الصعب أن توقع بغيرك إصابة
والمدين عليه الحق لو ظل هارب
احذر الدين يا مغرور واحسب حسابه
بانصحك يا مطيفل من خلال التجارب 
دين الأرواح ما هو باللعب والدعابة
كم قبيلي بدين الدم للدقن حانب
باكي العين بعد الويحشة والزوابة
تارك الأهل والخلان والبيت خارب
والجرب صالبة من حرثها والصرابة
وان ودف لقي في البحث عشرين كاتب
حول عشرين ضابط من هواة الزعابة
يحجموا له حجامة واضعين المخالب
واستمصوه فترة وارسلوه النيابة
والنيابة بقدر الجيب تقدر تجاوب
وان جيبك مفلس لا إجابة مجابة
وانها المحكمة عند القضاة الاطايب
كل قاضي مجهز زبرته للضرابة
كل قاضي مخفي زعبته عند كاتب
مختفيات من تحت اليلق والجلابة
والنهاية على الميدان ياعز ذاهب 
حيث لا عاد به يامه ولا عاد يابه
والصلاة ما مزونه سقت الأرض واجب
للنبي صفوة الرحمن عالي جنابه