أحمد الحسني / لا ميديا -

وأنت تقف على سطح حصن الشرف أو «دار الشرف» (8 كم تقريباً جنوب مدينة العدين) الشامخ منذ أكثر من قرن ونصف من الزمان تشاهد من المكان الذي أنت فيه 9 مديريات، لن تكون دهشتك أقل من دهشتي لحديث سائق السيارة عن «قايد المهتدي» الذي أسلم ولم يرحل مع أقربائه اليهود إلى فلسطين وبقي في قرية «عِنْقِيت» أسفل الجبل الذي تقع عليه دار الشرف. لقد اشترى مئات الأخشاب في السبعينيات بأسعار رخيصة ليبيعها عند الغلاء الذي توقعه فكانل لم يكن تاجراً، وإنما فلاّحا في قرية نائية. تذكرت أن أول سيارة "لاند كروزر" فخمة "ليلى علوي" شاهدتها في حياتي كانت لشخصٍ اسمه عبد الرحيم المهتدي. إنك لا تكاد تجد "مهتدي" فقيراً (المهتدي أو المُوَفَّق لقب يطلق على من اعتنق الإسلام من أبناء الديانات الأخرى)، وكأن المال ليس ثقافة يهودية وحسب، وإنما جين سائد في الخارطة الوراثية لبني إسرائيل يظل ملازماً حتى لمن ترك اليهودية لجيل على الأقل وإن تبدلت قيم الحصول عليه!
المال واليهودي لا يفترقان، أكان هذا اليهودي في "وول ستريت" أو "منهاتن" أو كان يقطن قرية نائية أو مدينة فقيرة كالعدين. هذه الحقيقة لا يختلف عليها شكسبير في "تاجر البندقية" أو هتلر في "كفاحي" مع أي عجوز في العدين عرف اليهود أو عاشرهم، وإن اختلفت طرق الحصول عليه عند يهودي شكسبير المرابي الحاقد الذي يضيف إليه هتلر تجارة الجنس والمخدرات، ويهودي العدين صائغ الحلي وصانع الملابس وتاجر الشموع والنبيذ إن أمكن. إلا أن الجميع متفقون على بخل اليهودي وحرصه على المال وجمعه حد العبادة، ما عدا الحاج عبد الجليل الهتار الذي يرجع ثراء اليهود إلى الحظ والمعرفة، مؤكداً ذلك بهذه الحكاية: "كان هنا أخوان أحدهما تاجر ثري والآخر بائس الحال يسمونه "المُدْبِر" أي قليل الحظ، وحين أكثر الناس من لوم الأخ الثري على عدم دعم أخيه قال لهم: سأثبت لكم أنه منحوس مهما يكن وسأضع في طريقه صرة بها 100 ريال وانظروا ما سيحدث. بقي الناس ينظرون قدوم الأخ المدبر وحين اقترب من الصرة ناداهم قائلاً: أنا أستطيع أن أمشي مغمض العينين، ومشى ولم يشاهد الصرة التي وضعت في طريقه، واقتنع الناس بنحسه وشقائه. في يوم من الأيام وجد هذا المنحوس داراً خربة انتزع خشبة منها وذهب ليبيعها في السوق قابله شُكْر الذمي في الطريق وحين وجد نقوشاً على الخشبة اشتراها منه، وحين عرض عليه تقطيعها مقابل بعض اللَّحُوح أعطاه شكر اللحوح بلا مقابل، وما إن ذهب المنحوس حتى قام شكر اليهودي بتكسير الخشبة مستخرجاً منها الكثير من القطع الذهبية التي كنزت فيها وصار بعدها ثرياً اشترى الكثير من الأراضي والبيوت في مدينة العدين حيث كان يسكن في حارة الحبس وبقيت معه حتى باعها ورثته عند سفرهم إلى فلسطين".
يبقى الربا والجنس أهم وسائل إدرار المال في ثقافة اليهودي الاقتصادية، ليس لأنهما أقل الوسائل جهداً فقط، ولكن لما فيهما من ذل الحاجة عند الطرف الآخر تُشعر اليهودي بالتميز وتُشبع روح العنصرية لديه كشعب مختار ليس لديه استعداد لأن يكون من الناس، كما لا يحب أن يكون غير اليهودي يهودياً، فبدلاً من مؤسسات التبشير المسيحية ومراكز الدعوة الإسلامية يقيم اليهود مراكز دعم ورعاية لليهود وينشئون المؤسسات الإعلامية العملاقة التي تخدم سياساتهم وتتبنى قضاياهم العرقية في أي زمان ومكان، من "نبوخذ نصّر" وحتى "ميل جيبسون"، وتظل مذابح البابليين كمحارق النازية قضية يهودية لا يبليها الزمان، ومن بين عشرات الملايين من ضحايا الحرب العالمية الثانية يبقى ضحايا "الهولوكوست" هم من يستحق التعويضات من بين جميع سكان الأرض.

وصية الأم اليهودية
في العدين لم تكن هناك تجارة جنس منظمة، لكن استغلال الجنس في جلب المال مسألة لا تجهلها حتى تلك اليهودية القروية التي توصي ابنتها ليلة الزفاف قائلة: "لا خَتِّرْك بَيُّوتُه قَنْبِرِي أَسّيتُه، والحذر حُذِيرُو لا تفكي التِّيْحُو إلا بألف كِيهُو"..
أي: إذا وصلت بيت زوجك فاجلسي متأدبــة واحــذري أن تفكي رباط سروالك قبل أن تأخذي منه ألف قطعة نقدية.
أما هذا الزوج الذي سيدفع فهو لا يظهر ذلاً أمام من سيطلب يدها للزواج، وإنما يحاول إذلالها من أول لحظة وبالمال أيضا. الحاج أحمد عبد الله دايل من قرية "المَرَاكِب خَبَاز" شرق مدينة العدين حيث كان يسكن الكثير من اليهود ولم يبق فيها غير مقبرتهم، يقول: كان اليهودي يذهب إلي بيت الفتاة التي يرغب بالزواج بها ويناديها بصوت عال: "يا مَمْزُورَة يا بنت المَمْزُور، لقد ربطنا الشِّتْرَة بالقَطِيح وجا وفا السنة وانت لك أَفِيْح الأفيح، ما تقولي مني يا بنت المحروم، تَقِيْنُو والا وَتَحْ؟!" وتعني العبارة: يا شديدة الحموضة، لقد ربطنا الحبل الغليظ بالحبل الدقيق (كناية عن الذكر والأنثى) ومر العام وتنهدك يزداد شدّة فما تقولين في الزواج مني؟ موافقة أم لا؟... فإن رفضته يتركها غاضباً وهو يقول: "يا محرومة يا بنت المحروم كنت أنا أتْفَتّم سمن ودَبَشْ وأبوك يتفتّم من قفا صُعْد عمي"، يعيرها بفقر أبيها الذي يتغذى من خلف تنور عمه، متباهياً بأنه كان في تلك اللحظة يأكل أطيب المأكل. أما إذا أعلنت موافقتها على طلبه وقالت: "تقينو" فإنه يرقص فرحاً وهو يهزج قائلاً: "يلعب شليمان داوود مَنَشَّة ونظرة بجنبو"... يضع الحاج أحمد أصابع يده مجتمعة على أنفه وبدأ يدور حول نفسه مقلداً رقص اليهودي المبتهج وهو يردد أهزوجته تلك للحظات ثم يعود مواصلاً حديثه قائلاً: كان أبي يرسلني لأبيع لهم "الكَرْس" (أقراص العسل بعد عصرها) كنت أبيعه لهم بأي ثمن بدلاً من إلقائه في الزبالة، فكانوا ينظفون بقايا العسل يصنعون منه نبيذاً ويصنعون من الشمع شموعاً كبيرة يبيعونها لأغنياء المسلمين. كانوا في "المراكب" رعايا الشيخ أحمد بن نعمان الشهاري. في السبعينيات تطوع شاب من "المراكب" للجهاد في فلسطين، وأسره اليهود وكان المحقق "الإسرائيلي" من اليهود الذين كانوا في "المراكب" فتعاطف معه وعمل على إطلاق سراحه محذراً إياه من العودة ثانية، مثنياً على الشيخ الشهاري... هكذا ختم محدثي كلامه.
لم يكونوا يزوجون المسلمين أو يتزوجون منهم. وحينما تتمرد يهودية على هذا القانون فإن عليها أن تضحي بدينها اليهودي وعرقها "الإسرائيلي" إلى الأبد وتهرب لاجئة إلى من يستطيع حمايتها من قومها الذين يعبرون عن حسرتهم حينها بقولهم. "ليتها اتْفَوشَعَة ولا اتْقَوْشعة" أي: ليتها دفنت ولم تستلق تحت المسلم الذي يدعون عليه: "شَمّتَه رِيعُو" أي: أحرق الله قلبه على ولده. صحيح أن مستقبله يرتبط بعدها بوفاء الزوج ومروءته، غير أن تعاطف الناس من حولها يكفل لها الأمان من غدر الزوج وينصفها منه. وغالبا ما كن يقابلن من أزواجهن بالوفاء حتى الموت. في لحظة غضب قال زوج "نظرة" لها: "عِرق اليَهْوَدَة باقي"، ذهبت إلى شيخ المنطقة وشكت له قائلة: "الله قبل إسلامي وسمّاني مسلمة، وزوجي يرفض ذلك ويعيرني بأصولي اليهودية"، فما كان من الشيخ إلا أن ربّاه -بطريقته الخاصة- على الالتزام بتسمية الله واحترام زوجته، فلم تسمع منه شتيمة منذ 40 سنة.
جمال اليهوديات مرتبط في ذاكرة الناس هنا بالعفة. يقول (...): كانت نجمة بنت سالم شمعين بائعة "لَحُوح" من قرية الكَدَمَة بني زهير غرب مدينة العدين، وكاسمها كانت، بل أكثر إشراقا مع الصباح الباكر. كانت تحمل "اللحوح" (نوع خاص من خبز الذرة) وقد وضعته في الطبق محاطاً بأغصان "العُثْرُب" (عشبة) لتحفظ طراوة بضاعتها وتعطيها منظراً يغري بالشراء، وتنطلق كظبية في الطريق الجبلي إلى سوق "المَبْرَك" في بني واصل. اعترضت أنا وابن عمي طريقها مراراً. كان "لحوح" نجمة يسيل لعاب ابن عمي، وجمالها يسيل لعابي. ربما خطف منها ابن عمي في بعض المرات قطعة "لحوح"، أما أنا فلم أرجع يوماً بغير الحسرة أو بسمة خاطفة يشتعل لها قلبي وتضيء الدنيا من حولي، وحين أفتح عينيّ لأبصر "نجمة" تكون قد غابت مسرعة نحو السوق، بعدها ألملم نفسي وبقايا أنغام خطاها في الطرقات وأجمع من فوق الأغصان شذاها وأعود... ولا أكثر حتى رحلوا... لست الوحيد الذي تيمه جمال يهودية. أنا فلاح جاهل. غيري قاضٍ راود اليهودية التي أتت إلى منزله واضطرت أمام إلحاحه إلى التحقير من شأنها قائلة:
ـ أنا يهودية يا سيدي!
فأجاب على الفور: اليهودية التي في المطبخ (يقصد زوجته).
انشغلتُ بالضحك ولم أهتم بمعرفة من منهما أقنع الآخر، مكتفياً بقناعتي بتبرير محدثي لهيامه بنجمة... نعم، من منا يسأل عن دين النسمة حين ترفّ أو نسب الطل على خد الوردة؟! يضيف محدثي: الاحتكار عند اليهودي ليس للسلع الاستهلاكية فقط، فالمعرفة عند اليهودي سلعة يجب احتكارها أيضاً واستغلالها في جلب المال. كانوا يضعون أوراق "الكراث" في النافذة إلى اليوم الثاني، وبعد أن تضمر يغسلونها جيداً ويقطعونها ثم يقلونها بالسمن أو الزيت ويأكلونها. اليهودي يقول: لن أقول للعرب ماذا تفيد الكراث الضامرة! كانوا يستخدمونها بهذه الطريقة لقتل الديدان، خصوصاً الشريطية التي يسمونها حنش البطن، والإسكارس ويداوون بها البواسير، وكانوا يجمعون قلوب شجرة الصَّبِر في وقت معين من السنة يسمونه سبت السُّبُوت، ويأكلونه، يزعمون أنه لا يكون مُراً في ذلك الوقت. القردة فقط كانت تشاركهم ذلك، لأنها يهود مُسخت في غابر الزمان بسبب عصيانها أوامر الله واعتدت في السبت... هكذا علل محدثي اتفاق اليهود والقردة على أكل أوراق الصبر في ذلك الوقت من العام.
أكثر من احترف الصياغة بعد رحيل اليهود من العدين هم أصحاب بلاد الحذيفي (الحصابيين ورماضة) 15 كم تقريباً غرب مدينة العدين، بسبب كثرة اليهود الذين سكنوا تلك المنطقة على الضفة الغربية لوادي "مُنَاح". لم يبق في هذه المنطقة غير ذكريات الناس والمقابر التي أهملت كالنقوش الحميرية على الأحجار المكسرة.
في أعلى سائلة "مُنَاح" يوجد "العقد" شاهد الخصب وسنوات الخير في هذه البلاد. لقد أقيم هذا الجسر في السنين الغابرة ليعبر عليه الناس من ضفة هذا الوادي إلى الضفة الأخرى متجاوزين السيول الجارفة التي تسببها الأمطار الغزيرة طيلة فصل الصيف. لم يبق اليوم غير بقايا المزارع تصارع الجفاف على ضفاف هذا الوادي وغيره من أودية العدين، وفي مقدمتها وادي "عنّة" ووادي "الدُّور". هذه الجنان تنتظر من ينقذها بالسدود والحواجز المائية التي ستكفل لها استمرارية الحياة. لقد بدأ الناس يؤجرون هذه المزارع لمستثمرين يقلعون أشجارها المثمرة ويزرعون بدلاً منها القات الذي يحفرون لأجله الآبار الارتوازية العشوائية. ومن حصته البسيطة في هذا الاستثمار يشتري المزارع حبوب القمح والذرة الشامية والفواكه المستوردة. حين تعبر عن غيظك وتحدث الناس عن فداحة تلك المصيبة يرد عليك أحدهم قائلاً: "أذّن لك بالدُّغَم" تعبيراً عن استحالة الإصلاح كاستحالة وجود مصلين في "الدغم" قرية اليهود الشهيرة في بني عواض العدين التي لم يكن يضاهيها في الكثافة السكانية لليهود غير "المَوْكَرَة" و"وادي الظُّبَات" في حزم العدين.
بجوار هذا "العقد" سكن سام اليهودي بعيداً عن اليهود الذين في "دِيْ حَصَّة" و"وادي شَبَزْ" في "السارة" 20 كم غرب مدينة العدين، ولم يبق منهم غير أسرة "الموفق" الذي اعتنق الإسلام وبقي، وغير المقابر التي اندرست آثارها. "وادي شبز" هذا ينسبه البعض هنا إلى يهودي اسمه شبز، والبعض الآخر يقول إن الشبزي، الولي اليهودي ذا القبة المشهورة في مدينة تعز والذي ينسب إليه أحد أحيائها، ينتسب إلى هذا الوادي، وجاء منه، وهو ما استطعت تقبله من الروايتين مستنداً إلى القاعدة اللغوية أكثر من الحقيقة التاريخية.
الذي يمل سريعاً من تقصي أخبار اليهود وآثارهم في هذه البلاد له أن يلقي عصا الترحال في "شَلِفْ"، حاضرة العدين حتى وقت غير بعيد، وقلعة العلم التي قيل في المقارنة بينها وبين مدينة العلم الشهيرة زبيد: "بقرة من شلف ولا عالم من زبيد". يوجد في شلف غير "الموفقين" ومقابر اليهود من الوثائق والمخطوطات ما يستحق اهتمام الهيئة اليمنية العامة للآثار ودور الكتب ولجان التوثيق وندواته. أما من يرغب في المزيد فبإمكانه التغلغل غرباً في فرع العدين، وليزرها شتاءً، أو شمالاً في حزم العدين، أو جنوباً في مذيخرة، ولن يجد مصيفاً أكثر جمالاً منهما. 


دجاجات أم شامير 
على عكس الجوار "الإسرائيلي" لدول الطوق يتحدث أحمد حمود حسان عن حسن جوار اليهود في العدين قائلاً:
”كان (...) و(...) من أبناء عمي يتحينان الوقت الذي يذبح فيه جارهم اليهودي دجاجةً أو خروفاً ويختبئان في كنة البيت، وما إن يبدأ المُوْرِي بالذبح حتى يرفعان صوتاهما بالبسملة والتكبير قائلين: على ملة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يهربان، فلا تملك أم "إسحاق شامير" إلا أن تنادي أولياء الصغيرين تطلب منهم تربية ولديهم وحسن الجوار وتحمل إليهم الذبيحة مطالبةً بثمنها، وغالباً ما يعتذرون إليها بفقرهم فتدع 

لهم الذبيحة يأكلونها دون ثمن. انتقلوا بعد ذلك إلى "المَوْكَرَة" ثم رحلوا إلى فلسطين. يضيف بتندر: "لعل ذكريات شامير عن دجاجات أمه التي حُرمت منها لها دور كبير في تشكيل نفسيته المتطرفة وانتمائه الليكودي ومعارضته للسلام مع العرب أو إجراء محادثات بشأنه ولو سرية ذهب لأجلها الملك حسين إلى بريطانيا… دجاجات أم شامير مال يهودي مقدس، لا كفارة للمساس به إلا الدم"! 

وأخيراً
تبقى العدين تأريخاً ضائعاً في زحام الأساطير، وحقيقة للجمال والجلال متعددة الصور، تحتضر على دكة الإهمال مشيعةً بالأغاريد وجوقات العصافير تبحث عن "نيبور" وتطمع أن تكون صنعاء أقرب إليها من "كوبنهاجن".