مجاهد الصريمي / لا ميديا -

لقد مررنا -عزيزي القارئ- بالكثير من الوجوه المبدعة، وشربنا من معين تجاربهم الحية؛ لكن لم يسبق لنا أن وجدنا عالماً متحداً بذات واحدة مثلت القصيدة كونها، وظلت جواز عبور لتلك الذات إلى كل القلوب، التي تقرأ الشاعر في قصيدة وتقرأ القصيدة في شاعر إلَّا لدى القليل ومنهم شاعرنا، الذي عميت عنه دور الثقافة وعيون المثقفين فترة طويلة من عمره. 
لقد كانت محاولاتنا للوصول إليه كلها شعراً، بما صاحَبها من أحاسيس ومشاعر جياشة تفيض حبا وتزخر إنسانية حقيقية، طابعها العام التواضع البعيد عن التصنع والتكلف، وتلك لعمري سمة الرساليين في كل جيل، وشاعرنا منهم، فهو رسالي من حيث المهنة ومن حيث الموهبة. وعندما التقينا به من خلال قصائده المبثوثة على بساط صفحته في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» سارعنا لاستضافته في هذه السطور، وأبلغناه رغبتنا الجامحة في أن نكتب عنه في صحيفة «لا» أجابنا بقوله: «تبالغون يا أبنائي.. أقسم إني لا أرى في قصائدي ما يستحق أن يكتب عنه. فهي مجرد تمتمات شويعر بسيط يحاول أن يجد له متنفسا في الحرف».

المولد والنشأة  
ولد شاعرنا عبدالمجيد عبده سالم قحطان البدوي عام 1975 م في مديرية خدير محافظة تعز، ودرس مرحلتي الابتدائية والإعدادية في مسقط رأسه، ثم انتقل إلى تهامة التي يسميها بـ"تهامة الخير"، والتحق هناك بمعهد المعلمين ولا يزال مستقرا فيها إلى اليوم، وهو متزوج وله ستة من الأبناء والبنات بالتساوي 3+3.
تفتقت موهبة شاعرنا منذ صغره وكان أول أديب شجعه -وهو الأديب الوحيد الذي التقى به شخصياً- هو الشاعر الأستاذ مفضل إسماعيل الأبارة. كان ذلك في بداية التسعينيات، حيث كان الأستاذ مفضل حينها مقدما لبرنامج مسابقة القرآن الكريم على قناة اليمن الفضائية. وليس لشاعرنا دواوين شعرية مطبوعة، على الرغم من نتاجه الشعري الغزير. وهو أيضا يكره الزيف ويحارب الوهم ويعشق الحقيقة، يصدر في كل ما يسطره قلمه عن قيم إنسانية وثوابت أخلاقية، فتراه واقفاً على أوتاد اعتزازه بذاته كالطود الشامخ، يرمق المغمورين بسكرة الحداثة، المساقين كالقطيع إلى مسالخ الحضارات الغربية وتبعاتها، بعين الازدراء والسخرية، حيث يقول في قصيدته المسماة بـ"النهضة المشروطة":
قامت فهب القائمون جلوسا
فمضت لتهدي ضوءها إبليسا 
ولم؟ لأن القاعدين قواعد
بعد المغيب تقودهن أليسا 
وهكذا يمضي مبيناً وجهة المجتمع نحو امتلاك الوعي، فنراه يقوم بدوره التربوي حتى في الميدان الشعري، حيث ينبري محذراً من مغبة تصديق ما تسوقه وسائل الإعلام المأجورة، عبر سمومها القاتلة للفكر، من خلال برامجها وأخبارها، كما يقول في قصيدته "زيف الإعلام":
ليس الحقيقة ما نراه ونسمعُ
فلتلكم الأخبار سحرٌ يخدعُ
وجهان للأحداث تظهر بينما 
وجه الحقيقة في الخبايا يقبعُ
فهو في هذه القصيدة يحث على التزام النباهة كسمة أساسية يمتاز بها الإنسان عن الببغاء. وكما كان جانب الإعلام حاضراً في شعره، كذلك نجد السياسة وقضاياها تشغل حيزاً كبيرا فيه ولاسيما القضية الأولى التي هي قضية فلسطين، فقصائده ترسم صورة لمشاهد السياسات العربية المنغمسة في التبعية والمسبحة بحمد المستعمر. هذه المشاهد وإن حملت في طياتها أسماء زعامات فإن تلك الأسماء والألقاب ما هي إلا أقنعة لتغطية الجوهر الذي يعبر عن حقيقة هؤلاء، فمن يسارع لبيع القدس وفلسطين أقرب ما يكون لبائعة الهوى، بحسب تعبير الشاعر. فالقبول باغتصاب الأرض ومصادرة حق الناس فيها يعقبه انصياع لبذل وإهدار العرض؛ وهو الشيء الذي لا يمكن توقعه حتى في الخيال. وهذا ما نجده في هذه المقطوعة الشعرية التي هي بعنوان "صفعة القرن" والتي يقول فيها:
في قصَّةٍ حدثت كــ أقرب ما يكون من الخيال
أن يرتدي الفرسان أثواب البغايا الحمر في وقت النزال
وتصير مومسة على مرأئً من الثقلين حاكمةً لأعناق الرجال
ويبيعُ أنفسَ قطعةٍ في الأرض تزخر بالجمال وبالكمال 
من كان أحقر أن ينادى بــ اسمه 
من أجل توضيح السؤال
أتُباعُ أرض القدس يا أشباه ما لبست بنات القدس في المرحاض من سود النِّعال
كلا وربك لن يكون وذاك ما يدعى محال
يجيد شاعرنا اقتناص الحقيقة ولو كانت خلف أسراب كثيفة من الظلمات التي تحجب عنها الرؤية، كما أن نفاذ بصيرته الشعرية يمكنه من إبداء الوجه القبيح للعدو الأمريكي السعودي وأدواته المحلية، وإن حاولت تلك القوى إخفاء قبحها بشتى أنواع المساحيق، كما قال في هذه المقطوعة:
أعداء الأمة 
ما عادوا 
هل نقصوا يوماً؟ 
بل زادوا 
فالشعب لقائده تبع
قائده قرد قواد 
منتخبا
نخباً يشربهُ
بمزادك تهدم أمجادُ
شرعيٌّ
باع شريعته 
حلفٌ يدعمه أوغادُ 
وهكذا يصدع ألق نجم هذه السطور، فنجد بين نفسه الشعري وبين أنفاس شعراء آخرين صلة قرابة، وهذا لا يعيب شاعرنا فهو ليس صدى يقف فقط على ما وقفت عنده تجربة أولئك، بل خلق امتداداً لهم فهو يمد أعمارهم بعمره ويبعثهم من أجداثهم بروح قُدس الحرف المكون لأبيات شعره، لذلك نجد أحمد مطر قريبا من نفس شاعرنا قرب أبي تمام والمتنبي من البردوني. 
لقد كتب شاعرنا عن الحب والحرب، عن الحياة وعن الموت. ولا غرابة إن يغمرنا بكل ذلك إذا عرفنا أن القلب الكائن بين جنبيه كونته مكانة ومكونات محافظتين قريبتين من وجدانه، كائنتين في كيانه، إنهما تعز والحديدة. فإذا تغنى بالحقل وجسد حب الأرض باعثا من جمر قصيدته دواء للأكباد المقرحة بالعشق لليمن أرضاً وإنساناً، فهو يصدر في ذلك عن الفضول عبد الله عبد الوهاب نعمان، وإذا اتخذ من الثورة قدسا يفتك، في سبيل بقائها طاهرةً، بكل صنم بشري أو حجري، فهو يصدر عن يحيى عوض الحداد. 
 وهنا عزيزي القارئ توشك جرة قلمي أن تتجاوز الحد الموضوع لها، وعليها أن تتوقف عنده، لكن دعونا نكسر روتين الزمن ونسد أبواب الفناء شاهرين في وجه الموت حياة أخرى، إنها حياة في قلب الجلنار مسك ختام رحلتنا:
من أين أمرُّ؟!
وكيف أمرُّ؟!
وماذا عن جرسِ الإنذار؟!
من أيِّ طريقٍ؟!
كيف أحلُّ 
عليك عليك بوسط الدار؟!
إني يا بسمة أحلامي 
لا يمنعني حرسٌ وجدار
لا أخشى السجن ولا أخشى
أن أسبح عكساً للتيار
لا أخشى الموت الموت الموت
ولا أخشى قذفي بالنَّار
لكنِّي
أخشى سيدتي
أن تُتَّهَمِي ظلماً بالعار 
*
*
فتقول هلُمَّ هلمَّ هلمَّ ولا تخشَ شرَّ الأشرار
لا تخش مكر عواذلنا أو مركبنا يفضح ما دار
ويمرُّ الوقتُ يمرُّ الوقتُ وإنَّ الوقت هو الدوار
وتهبُّ الرِّيح، الريحُ يهبُّ فتنْــقلبُ الموجة إعصار
مهلاً يا موجُ فقلبي لا يحتمل الفرقة يا غدار
خذني واتركــها لا تسرف في القتل مع سبق الإصرار
هل تذكر فيلم "التيتانيك"، فخذني دعها للقيثار
دعها تعزفْ
 أسرارَ الحبْ
 عنْ معشوقٍ حفظ الأسرار
دعها ترسم تلك القبلاتِ وضماتٍ خلف الأسوار
دعها وستزرع كلَّ مكانٍ كنتُ به زهر الدوَّار
دعها تشرح لحفيدٍ سمتهُ بــ اسمي معنى الإيثار
معنى أن أحتضن الأمواج ليحيا خلّي في إكبار
معنى أن أبقى حيَّاً بعد الموت بقلبك يا جلْنار