مجاهد الصريمي / لا ميديا -

هذه النفحات سقت وأروت شغاف قلوب الكادحين، إذ كوَّن الشاعر من عرقه وعرق أمثاله من الفلاحين غيثاً يسقي جذور الانتماء الذي تعملقت معانيه وامتدت وعلت مبانيه، لأن ذلك العرق المثل الأعلى في الطهارة الذي قصُرت عنه كتب ومؤلفات الفقه، كيف لا والأرض الزراعية هي الأدل تعبيرا والأوثق شهادةً على سلامة الأصل الإنساني الذي منها خُلِق وفيها استُخلِف وإليها يعود ومنها يُخرج مرةً أخرى.
شاعرنا في هذه الحلقة هو أحمد عبده بيضان، من قرية المنزل عزلة منبه، مديرية يريم، محافظة إب. صيته في مناطق عدة من الريف اليمني من خلال قصائده التي تداولها عشاق الشعر الشعبي ومتذوقوه عبر ما كان يصدر له من قصائد مغناة أنتجتها تسجيلات الكوماني في ذمار. وأغلب قصائده كانت تناقش القضايا التي عانت منها منطقته مثل الثارات القبلية والخلافات التي راح ضحيتها خيرة الرجال، وله قصائد سياسية تؤرخ لمراحل مهمة من التاريخ اليمني كالوحدة وما ترتب عليها وكذلك تعامل النظام اللامسؤول مع قضايا المجتمع. كما تطرق في كثير من قصائده إلى أكذوبة التعددية السياسية وتعدد الأحزاب والدمقراطية والبرامج الرئاسية الانتخابية وعدم واقعيتها. وتميز طرحه بالقوة والوضوح، وفي النادر كان يتخذ القناع كما في قصيدته عن الوحدة فقد رمز إلى الوحدة بفتاة طلبت للزواج من قبل رجل طاعن في السن له زوجة وأولاد. وقد وجه نقده اللاذع للأسس التي قامت عليها الوحدة وحجم الوصاية المفروضة على صناعها خارجيا وخصوصا من قبل السعودية والتي رمَّز لها "هنت" بـ"العمة". والقصيدة جميلة في موضوعها وقدرة الشاعر على استخدام التورية فيها أكسبها القبول لدى العامي والمثقف وجعلت هذه القصيدة كلاً منهم يغني على ليلاه:
يا الله يا من المُلك لكْ حلّ المسألة حلها 
أنت المطّلع والخبير أما انا فلا علم لي
منها حن قلبي وضاق يا قهري ويا باطلي
كم فيها شروط قاسية ما طقت احتمل جورها
أول شرط فيها ذكر لا يعلم بها منزلـــــي
قالوا بنتهم يا فتى كم خُطاب قد جوا لها
ذي قد جا بسيارته أو ذي قد وصل مرجلي
ما رضْيَتْ بحدْ منهم أو قالت لهم ما لها
كم قد رجّعوا من فلوس كانت سع الوابلي
الا انت بك رحّبتْ كنّك ذي على بالها
علمك عندهم متزن لا طايش ولا روفلي
عاد الوضع ما بيننا متوتر على مهرها 
يشتوها مية جابرة لو عادك بحبه قلي
هي راس البلا عمتك لو قد ربنا زالها 
منك با يسير الحكوك لا نامس ولا قُمَّـــلي
الا لنت يا خي فتى خذها من قفا عقلها 
افعل من صداها كحل وارسلها قدا العوبلي
ونلاحظ عزيزي القارئ أن شاعرنا كان على معرفة بما يدور في كواليس السياسة على الرغم من أنه فلاح ولا يحمل أي شهادة أو مؤهل دراسي، وهذا بالطبع يعود إلى البيئة الثورية التي كانت تعيشها المناطق الوسطى بفضل وجود نشاط كبير للتنظيمات اليسارية التي تملكت قلوب الكثيرين، واستدعى هذا النضج الثوري لدى الناس تحرك النظام المستبد بكل قوته لوأدها في مهدها من خلال ارتكاب أبشع الجرائم بحق سكان تلك المناطق ونهب ممتلكاتهم وتهجيرهم من قراهم ومدنهم، حيث استمر صلف نظام صالح يُعمل في تلك المناطق آلة الموت قرابة العقدين من الزمن، وذلك من بداية الثمانينيات إلى نهاية التسعينيات بطريقة مباشرة وغير مباشرة. ومن سوء حظ تلك المناطق أن كل جرائم النظام البائد تم فتح ملفاتها والتطرق إليها بشكل أو بآخر، إلا هذه المجازر المرتكبة بحق أبناء المناطق الوسطى لم يُلتفت إليها. 
إن الوعي السياسي لدى شاعرنا كان كبيراً، ولعل ما يدعم وجهة نظري إلى جانب القصيدة السابقة هذا النص الذي يعود إلى عام 1997 والذي تزامن مع مساعي النظام الحاكم إلى تقسيم إداري جديد مبني على العشوائية والعبثية، كما أنه يخلو من أدنى الفوائد التي يمكن للمواطن أن يجنيها من هذا التقسيم القائم أصلا على إشاعة الفوضى وإذكاء المزيد من بؤر الصراعات طويلة الأمد، فكانت هذه القصيدة لسان حال أبناء يريم الذين يرفضون اقتطاع مديريتهم من محافظة إب وضمها بجسدها المثخن بجراح ظلم النظام لها أو عن الحروب والثورات القبلية بين أبنائها والتي تمول من قبل الدولة، إلى جسد ذمار المثخن هو الآخر بالحروب القبلية التي كانت تستعر لظاها في شتى مديرياتها، فضم يريم إلى ذمار سيضاعف الجحيم على يريم التي يتجاوز ما يمتلكه الإنسان فيها الكلاشنكوف، في حين تعج أسواق ذمار بكل أنواع الأسلحة المتعددة الجنسيات، واستخدام السلاح في حل المشكلات يجعل يريم عرضة للعنجهية إذا ما حدث سوء تفاهم بين الناس، وهاكم النص الذي أرسله شاعرنا لأكبر شعراء ذمار الشعبيين صالح بن مقبل السوادي:
أبو علي قال لو ما شي معيا ارجل
 لا يمكن اصبر على قهري وزعالي
عد اعترض لجنة التقسيم لا تكمل
 مشوارها أو عسى تتحقق امالي
من إب لو ينقلوني مستحيل انقل
أبعد من الشمس طلاعي ونزالي
ظلالها جنتي والظل حيث الظل 
وحولها عاد انا مديت طربالي
وكيف عاينقلونا لاذمار الكل 
أوبه لنفسي او لاشاهد اهوالي
القتل وسط المدينة من قتل يقتل 
ومعظم اسواقها شيكي وبرغالي
من بايكن يا ضيا ما بيننا يفصل 
والمحكمة رافعة لشعار سركالي
والأمن رافع شعاره شل يا بي شل 
وعاصي امه يسير السجن طوالي
ومن قصيدة أخرى لشاعرنا نختار هذه الأبيات التي توجه شاعرنا بها إلى إحدى القيادات التي كانت تشرف على حل بعض المشكلات القبلية بكثير من المماطلة واللامبالاة وانعدام الصدق في الوعود مما زاد في توسيع دائرة الخلافات بين القبائل المتخاصمة. يقول الشاعر: 
ما كُنتْ أبى صنعا ولا نفسي بصنعا راضية 
المنزل احسن لي من "التحرير" واحسن من "شعوب" 
احنا خرجنا منها يوم كانت الغوجانية 
يوم كل مَن مِن بندقه يرمي على الثاني سنوب 
ما كنتشي مجبور في نقل الدفى والمانية
لكن قلنا أو عسى نسلم من اوجاع القلوب 
ثم نراه يشخص موضع الداء ويكشف موطن الخلل، حيث يقول في القصيدة نفسها: 
واهل المصالح يدعمونا في إبر مجانية 
البعض منها بالعضل والبعض نشربها شروب 
جعلوا قضيتنا من اول يوم مسائل عادية 
لوما توغلنا وهبوا حول فصال الجيوب 
ثم يضيف كاشفا أن ما يجري يعود إلى ضحالة العقلية الحاكمة التي أهملت التعليم وتركت الناس يغرقون في ظلام الجهل: 
الكوفية غطت علينا لا سقاها كوفية 
الناس تصعد للعلا واحنا نتايجنا رسوب 
السلبية متوفرة غطت على الإيجابية 
لا قبيلة نفعت ولا من يردع العاصي يتوب 
ولا ابتدائية بنيناها ولا اعدادية 
إلا تخلف مزدوج قايم على اركانه وثوب 
وقد دوت في الفترة نفسها صيحة من شاعرنا في وجه أمريكا، حيث يقول: 
قال ابن عبده يا مريكا عند حدش وقفّي 
لا ثروتش عندي ولا هو في بلادي فصل ابوش 
مهما تجاهلتي مواقفنا مصيرش تعرفي 
ان الشعوب الثائرة أقوى من اصحاب العروش.