إعادة تحرير وتقديم: غـازي المفلحي -


نكمل في الحلقة الثالثة مع أحمد الرازحي الذي يقول: «أتمنى من الذين يكتبون أو يتحدثون عن مواقف مع الرئيس الشهيد الصماد، أن يقولوا الحقيقة دون غيرها، ولا ينساقوا للعاطفة التي تغطي جمال الحقيقة وصدقها، فالشهيد الصماد كان صادقاً». 
أحمد الرازحي يواصل سرد مذكراته عن الشهيد صالح الصماد الإنسان والرئيس في سردية تتناول قصصا تنشر للمرة الأولى من ظل المشهد الرئاسي عن صالح الصماد، وقد خص بها الصحيفة  لتعيد هي بدورها سردها ومحورتها دون الإخلال بجوهرها وسياقاتها ..
وفي الفصل الأخير هذا يروي أحمد الرازحي تفاصيل الأيام واللحظات الأخيرة من حياة الرئيس الشهيد 

السفر إلى ذمار
في 4 أبريل 2018 التقى الرئيس الشهيد بمحافظ محافظة ذمار، الأخ محمد حسين المقدشي، في صنعاء، واطلع على وضع المحافظة، والوضع في محافظة البيضاء المجاورة لذمار؛ لكون استقرار البيضاء ووضعها الأمني مهم لمحافظة ذمار. ودعا المحافظ المقدشي الرئيس لزيارة محافظة ذمار في إطار رفد الجبهات، وتفقد حال المحافظة، وتقديم ما هو متاح للمحافظة، فرحب الرئيس بالدعوة.
وبعد ذلك اتفقتُ مع محافظ ذمار أن يكون موعد زيارة الرئيس إلى ذمار يوم الاثنين الموافق 9 أبريل 2018. وكالمعتاد في نزولنا الميداني أن يسبق فريق العمل قبل الفعالية بيوم للتجهيز للزيارة. وسافرتُ أنا والطّاقم عصر الأحد إلى محافظة ذمار، وحال وصولنا إلى مركز المحافظة نزلنا في أحد فنادقها، وتوجه الجميع من مراسم وحماية إلى أعمالهم استعداداً لاستقبال الرئيس. والتقيت بالمحافظ؛ لوضع الّلمسات الأخيرة على برنامج الزيارة، وتحرك الأمنيون الذين نزلوا معنا إلى مسؤولي الأمن في المحافظة، والمراسم والفريق الإعلامي إلى الأماكن التي ستكون محطات البرنامج في يوم الغد، وأكملنا عملنا تقريباً في الساعة 12 منتصف الليل، ثم توجّه فريقُ العمل إلى الأجنحة المُعدة لهم، وكان من حُسن حظي أن استأجر لي مسؤول المراسم جناحاً بمفردي، فكتبتُ تقريراً للرئيس حول الوضع وحول البرنامج المتفق عليه مع قيادة محافظة ذمار، وبقيت على تواصل مع الرئيس -تقريباً إلى قُبيل صلاة الفجر- حول العمل والبريد اليومي، ومتابعة إنجاز المواضيع العالقة، وكنت تارةً أجيب على رسائله واتصالاته وتارة أستغل الفرصة وأقرأ في كتاب صحبته معي للدكتور بشار الجعفري، كتاب "أولياء الشرق البعيد... أساطير مجهولة في أقاصي المعمورة"، وكنت منسجماً ومنهمكاً مع الكتاب؛ لأنه مكتوبٌ بلغة الدكتور بشار الجعفري ممثل سورية في "الأمم المتحدة". 
ونمتُ قليلاً إلى وقت صلاة الفجر. وبعد الانتهاء من الصلاة وصلتني رسالة من الرئيس نصُّها: "سوف أتحرك إليكم الآن، وأنام في ذمار إلى قبل بداية البرنامج، فلم أنَم بعد". 
أبلغت مسؤول الحماية بأن الرئيس سيأتي إلينا وينام في الفندق وأن جناحي مجهز لاستقباله، وأعطيت أحد شباب الحماية مفتاح الجناح وأبلغته بأني سأنزل لتناول وجبة الإفطار، وأشعرته بأن الرئيس سوف يأتي لينام في هذا الجناح. لقد كنت متخوفاً أن أخرج للإفطار والرئيس يأتي وينتظر، وكان ما يشغل بالي: كيف سيدخل الرئيس الفندق بدون أن يعرفه أحد؟! وكيف سيكون مروره من عند الاستقبال في الفندق؟!
انتهيت من تناول وجبة الفطور وعدت بالتوقيت الذي وصل فيه الرئيس، حيث نزل من سيارته ووضع فوق راْسه غترة أو سّماطة (شال) لكي لا يعرفه أحد، وكان معه مرافق واحد فقط بالزي المدني. مرّ الرئيس من الاستعلامات، ولم يركز المناوب مِن موظفي الفندق، فكان ناعساً ويبدو أنه لا يركز على الداخلين كثيراً، يهمهُ الخارجون لأجل استلام أجرة الفندق وتسليم المفاتيح.

ليلة بلا نوم وصباح بلا إفطار
وصل الرئيس إلى الجناح الذي كُنت أقيم فيه، وقال: "أيقظوني قبل موعد البرنامج بنصف ساعة"، ثم اضطجع لأخذ قسطٍ من النوم والراحة، فكان يبدو عليه السّهر والتعب والإرهاق، فقد قال لي إنه لم يغمض له جفنٌ طيلة الليلة الماضية. 
انتظرنا أنا والمرافق في المجلس المجاور لغرفة النوم التي ينام فيها الرئيس. وقبل أن يستيقظ الرئيس طلبت من البوفيّه التابعة للفندق 2 بُن بالحليب مفوّر وقطعة صغيرة من الكيك من البقالة، كنت أريد هذا الطلب البسيط للرئيس وللمرافق، وبعدما أوصلها موظف البوفيه فوجئت بالمرافق يقول لي بعد مغادرة الموظف: "شكراً، فالرئيس لم يفطر بعد". عتبت على المرافق لماذا لم يخبرني لأجهز فطوراً للرئيس، ولَم يكن هناك وقت لطلب الفطور، فقد حان وقت استيقاظ الرئيس بحسب البرنامج، فأبناء ذمار في انتظاره.
طرقت طرقة واحدة على باب الغرفة ففتح الرئيس الباب من فوره وكأنه ينتظر هذه الطرقة، متسائلاً: هل تأخرت على الموعد؟
أجبته بأنه مازال هناك وقت، والمكان قريب، وسارعتُ بالاعتذار له بأني لا أعلم بأنه لم يفطر، فقال: "ما في خلة (أي: ما في مشكلة، الأمر طبيعي") واكتفى بكأس الحليب مع قطعة الكيك الصغيرة. وكعادة الرئيس الشهيد -سلام الله عليه- كان يتألم من أن يتأسف له شخص أو يعتذر منه حتى ولو كان مُقصراً أو أخطأ بحقه في أي موضوع وفي أي مقامٍ، فكان التأسف والاعتذار له يؤلمه كثيراً ويسارع بالقول بأن الأمر طبيعي ولا داعيَ للتأسف والاعتذار، ويظهر على ملامحه القبول والرضا.

رجل عظيم بسيط
وبينما هو يمشط شعره، ويتطيّب من عطري البسيط، وقع نظره على الكتاب الذي على طرف الطاولة، كتاب "أولياء الشرق البعيد" للدكتور بشار الجعفري وقال: ما هذا الكتاب؟ قلت: أنا آخذ معي كتاباً أثناء السفر؛ ولأنه لديّ وقت للقراءة... لكني خفت في نفسي أن يتبادر إلى ذهنه بأني أشغل وقتي بالقراءة على حساب العمل، لقد ذهب بالي بعيداً. قال: جيد وأعانك ربي. وأضاف: ما تنصحني أن أقرأ من كتب؟ قلت: ما هي رغبتك؟ قال لي برغبته فيما يحب أن يقرأ، وبعد عودتي جهزتُ له مجموعة كتب مسموعة، لكنه استشهد -رحمة الله عليه- قبل أن أعطيها له.
خرجنا من الفندق، وصعدت على إحدى السيارات، بينما هو كان في سيارة ثانية، وانطلقنا معاً نحو المكان الذي يجتمع فيه أبناء محافظة ذمار. 

الشهيد يرثي نفسه
بدأ البرنامج، وكان في استقباله قيادة محافظة ذمار، والوجاهات. وتم افتتاح بعض المشاريع في مجالات الطرقات والمياه والصرف الصحي. وقبل الدخول إلى القاعة حيث اجتمع الناس، ونتيجة للظروف الأمنية، كنت قد اتفقت مع المحافظ على الاكتفاء بكلمة المحافظ، ثمَّ كلمة الرئيس، لكن الرئيس رفض وقال: لا بدّ من بقاء البرنامج كاملاً، بالإضافة للقصيدة، وكلمة مشايخ ووجهاء المحافظة.
وكان ختام البرنامج في القاعة كلمة الرئيس -سلام الله عليه- والتي قال فيها وكأنه يرثي نفسه مودعاً لهذه الدنيا الزائفة، راحلاً عن نوازل الدهر ونكباته بعد سنوات قضاها في الجهاد والتضحيات التي تنوء بحملها الجبال الرواسي: "صالح الصماد لو يستشهد غداً، ليس لدى أولاده مكان ينامون فيه، إلاّ أن يرجعوا مسقط رأسهم، وهذه نعمة بفضل الله سبحانه وتعالى".
ثم أضاف: "نحن نعتبر المنصب مسؤولية، ويجب أن تسود هذه الروح لدى جميع مسؤولي الدولة في هذه المرحلة. الذي لا يزال يحاول ينهب، أو يحاول أن يحصل على أرضية، أو يبني له بيتًا، ورجال الله يقدِّمون أرواحهم في الجبهات، فاكتبوا على جبينه سارقاً، كائناً من كان. لذلك أقول: كلنا مجاهدون، سواء في مناصبنا أو في مواقعنا الرسمية من موقع المسؤولية، ومن يعتقد المسؤولية مغنماً فهو إنسان يخون الله، ويخون وطنه، ويخون دماء الشهداء. يجب أن نستشعر أن هذه المسؤولية الملقاةٌ على عواتقنا هي نفسها المسؤولية على عواتق أولئك الرجال الأبطال في جبهات القتال؛ لذلك كل ما نعمله هو في إطار هذا المشروع: يد تبني ويد تحمي، تكامل الأدوار، نسعى إلى بناء جيش وطني الانتماء، يمني الهوية، ذاتي البناء، يحافظ على أمن واستقرار وسلامة أراضي الجمهورية اليمنية دون استثناء". 
كان لكلامه وقعٌ خاص في نفوس المستمعين، وكنت أقرأ ذلك في وجوههم، وفي حدقات عيونهم، فكان في قلبه شجى أكاد أسمع لحنه الحزين يطرقُ مسامع الجميع.

بعد الزيارة
بعد أن أكملنا البرنامج، توجهت مع الفريق إلى الفندق لكتابة الأخبار وتقارير الزيارة، وكان الرئيس يتواصل بنا يسأل أين سنتناول وجبة الغداء؟ وما هي احتياجاتنا؟ وما يلزم منه ليقدمه لنا؟... كان يحرجنا بطيبة قلبه واستشعاره لمسؤوليته في تفقده لحالنا ويشكُر الجميع على نجاح العمل.

اللحظات الأخيرة
في عصر يوم الأربعاء 18 أبريل 2018 كنت في اجتماع مع أمين عام رئاسة الجمهورية، والأمين العام المساعد، ورئيس الدائرة المالية بالأمانة العامة، لمناقشة بعض المواضيع المتعلقة بالعمل. وبينما كنا منهمكين في العمل وصلتني رسالة من الرئيس، يطلب مني فيها أن أعد نفسي للسفر إلى الحديدة، فحاولت أن أناقشه في الموضوع، لماذا في هذا التوقيت الذي يُعد العدو فيه عدته ويُصعِّد؟! فأجابني بأن من المعيب أن نجلس في صنعاء على الأرائك، وبين أبنائنا وأهلنا، فيما الحديدة تتعرض للخطر، فنهضت من مكاني لتجهيز احتياجات السفر، وأبلغت الطاقم المساعد بالاستعداد للسفر بعد ساعة من وقت البلاغ. حزمت عدتي، وأثناء خروجي من البيت لتجميع الطاقم أبلغني الرئيس بأن الوقت متأخر وليس من الضرورة أن نسافر في الليل، وعلينا الانتظار إلى وقت صلاة الفجر ونسافر إليه، وسيكون في انتظارنا، لأن البرنامج لن يبدأ إلا قبل الظهر.
فأبلغتُ الفريق بتوجيهات الرئيس. عدتُ إلى مقر عملي أراجع ملف محافظة الحديدة... ووقت صلاة الفجر أبلغني الرئيس بأنه لن يتأخر في محافظة الحديدة، وأن البرنامج محدود، سيلتقي بقيادة محافظة الحديدة من عموم المديريات ليناقش معهم وضع المحافظة، ثم يلتقي مع القيادات العسكرية، ويعود إلى صنعاء، وأن عليك يا رازحي البقاء في صنعاء للقيام بالأعمال الموكلة إليك، ولا داعي تتعب نفسك، وسوف نوافيك بكل شيء عند الانتهاء من اللقاءات. 
ووجهني بأن ألتقي ببعض الشخصيات لأرفع له ما يريدون رفعه إليه، ومتابعة العمل اليومي المعتاد.
وقبل ظهر الخميس 19 أبريل 2018، تواصلتُ بالرئيس -بحسب آلية التواصل بيننا- في تمام الساعة 11:44:52 لأتأكد هل بدأ اللقاء؟ ولم يكن قد بدأ اللقاء، فقلت له: لقد تأخر اللقاء...؟! فأجابني -سلام الله عليه- وكان آخر جوابٍ له: "فاهنة (أي: طبيعي، لا داعي للاستعجال) احتاجوا يجمعوهم من المديريات المتباعدة، وأعطيناهم فرصةً، لأجل نلتقي بكل المعنيين من كل المديريات".
الساعة 2 بعد الظهر، تواصلت بالفريق المرافق له، لكن لم يجب أحدٌ، وتلفوناتهم ما بين مغلقٍ ومشغول. لم أعتد من الرئيس ألاّ يجيبني، أو المرافقين، بهذا الشكل. كنت أراقب تلفوناتي وأحياناً أراقب ساعتي والساعات تمُر بدون أي اتصال أو رسالة. 
كنت أريد أن يرسلوا لي نَصّ خطاب الرئيس، ومعلوماتٍ عن اللقاء لكتابة الخبر وتفريغ نص خطاب الرئيس، لكن لم يصلني شيء حتى الساعة السادسة، تواصل بي أحد الإعلاميين بأنه قد أرسل لي بالصوت خطاب الرئيس وبعض المعلومات لكتابة الخبر.
بعد ذلك تابعني مسؤول الحماية وبعض الأمنيين، للتعجيل برفع الخبر، ولم يشعروني بما حدث، أجبتهم بأني قد كتبت الخبر، وقمت برفعه إلى وكالة الأنباء اليمنية (سبأ)، وأنني أقوم بكتابة نص خطاب الرئيس. 
وعندما سألتهم عن الرئيس لماذا لا يجيب، لديّ مواضيع مهمة وطارئة تحتاج التوجيه منه؟ أجابوني بأنه طرح كل أغراضه وذهب إلى مكان بعيد، ولا يوجد عنده أي شيء للتواصل به، وإنما إذا كان لديّ أي موضوع مهم، فينبغي أن أرسله إليهم وسوف يوصلوه إليه، وفعلت ذلك، ولم يأتني أي جواب!!
لم أعرف شيئاً عن المكان البعيد الذي رحل إليه، والذي لا يمكن لي أن أتواصل معه، لكن خيوط الشكّ بدأت تدبُّ في قلبي، بأن الرئيس قد أصابهُ مكروه، ربما هو جريحٌ، أو رحل إلى ربه؛ لا يمكن أن ينقطع عني بهذا الشكل! وكنت أغالط نفسي كثيراً، وأجلد ذاتي، وأحجم نفسي بأن لا توسوس بهكذا وساوس.
وفي يوم الجمعة 20 أبريل 2018 تواصل بي بعض المعنيين بمرافقة الرئيس، وقالوا إن  الرئيس يبلغني السلام وأنه مازال في المكان البعيد وسيعود إلى صنعاء قريباً، وكأنهم كانوا يشعرون بما يختلج في نفسي من شكوك وهموم وغموم تؤرِّقني.
وفي يوم السبت وإلى مساء الأحد عجزت عن التواصل بأي شخصٍ ممن رافقوه في السفر، وكان في صنعاء من يتواصل لمتابعة بعض المواضيع العالقة والعاجلة في بعض مؤسسات الدولة، ويقول لهم بأن الرئيس يوجه بما يفعلون بشأن تلك المواضيع العالقة، وعندما يتم التأكد مني من قِبل تلك الجهات الرسمية، أقول لهم إن هذا غير صحيح ولم يبلغني الرئيس بشيء، وعليهم الانتظار حتى نشعرهم؛ مما سبب تناقضاً وتعطيلاً لبعض المواضيع المهمة. 
وأخيراً وصل إليَّ الخبر وأنا منهمك في أعمالي، وقت إعلان بيان النعي. عتبت كثيراً على رفاقي، لماذا أخفوا عني خبر استشهاد الرئيس وهم يعرفون بأني السكرتير الخاص للرئيس، وكانت التوجيهات الصادرة من الرئيس تأتي إليهم من قبلي؟! لم أكن أدرك حكمة القيادة في إخفاء الموضوع حتى يتم الترتيب وتجاوز المحنة والصدمة.
وإكراماً لروح الشهيد الرئيس، الذي لم يكن يحمل في حياته عتباً ولا زعلاً من أحد، مسحتُ عتبي وندبتُ حظنا العاثر كيمنيين بخسارة هذا الإنسان والقائد العظيم.
وفي صباح السبت 28 أبريل 2018 حضرنا مراسم تشييع جثامين الرئيس الطاهر ورفاقه الأوفياء.
وقبل وصول جثامينهم الطاهرة للصلاة عليها، وفي صالة الانتظار حيث والد الرئيس وإخوته وأولاده، وقيادة الدولة، كنا وبعض الشباب نُكثر من التحرك دخولاً وخروجاً، وكلّما أبلغونا بأن الأجساد المسجاة ستصل بعد دقائق، تكاد تتجمد أقدامنا ولا تقوى على حملنا، وكنا لا نعرف ماذا نفعل، فنردِّد قول الله عز وجل: }إنا لله وإنا إليه راجعون{. 
لم نستطع أن نرى رئيسنا داخل التابوت، فنذهب إلى الصّرح المجاور، لنواري أحزاننا، ونجفف دموعنا بعيداً عن الأنظار، ثم نعود لننتظر قادة ألوية الحماية الرئاسية لإدخال أجساد الرئيس الشهيد ورفاقه إلينا فوق أكتافهم، فتقع أنظارنا خلسة على أولاده الثلاثة الحاضرين معنا (فضل، وياسين، وأحمد) فتتألم أعماقنا ويسودّ العالم ويُظلم في نظرنا، فكانت وجوههم ناظرة إلى الباب الذي سيدخل منه جسد والدهم سلام الله عليه.
وما أشد هول تلك اللحظات! الإيمان وحده هو الذي أمسك الأرواح في الأجساد الشتيتة، وقول الله عزّ وجل: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
وفي تلك اللحظات الأخيرة لوداع الرئيس ناجيت جسده الطاهر: "سلام عليك في جهادك الذي هو كل حياتك، وسلام عليك يوم استشهدت، وسلام عليك ونحن نودع جسدك الطاهر للصلاة عليه مودعين، والسلام عليك يا أبا فضل، وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليك منا سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، وعهداً منا لتنفيذ توجيهاتكم حتى اللقاء بكم. سنبكيك سيدي الرئيس بفوهات بنادقنا في العدو قتلاً وتنكيلاً، لن نطلق العبرات ولا العبارات، وإنما سنطلقُ العابرات لتنقض على أوكار قوى العدوان؛ ليعلموا أي حماقة ارتكبوها، وأي جرم اقترفوه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون".
ثم أخرجوا الرئيس إلى حيثُ الجموع الغفيرة تنتظر قدوم جثمان رئيسها ورفاقه للصلاة عليهم، وتمّت الصلاة، وخرج موكب الإباء حاملاً على الأكف جثامين الرئيس الشهيد ورفاقه إلى المكان الذي يليق بمقامهم في "ميدان السبعين".