استطلاع :صلاح العلي / لا ميديا

كل شيء هنا له ذكرى مع الأستاذ صالح؛ الشجر الكريم، الظلال الذي استراح في ضيافته، الجروف في الجبال الصغيرة المحيطة التي «خَدَرَ» فيها (تقال بلهجة صعدة للمخزنين في الذروة) وتأمل وابتسم وفكر وخطط... «القات الصبَري» الذي أحبه الشهيد، وجداول الماء الموسمي وسقايات المحاصيل والآبار العميقة جداً بشكل مخيف لاسيما القديمة منها...
الساحات المفتوحة التي لعب فوقها في صباه مع رفاقه أبناء قريته الكرة الطائرة وكرة القدم وضحكوا فيها بأصوات عالية وتبادلوا «الخَجَّات» على بعضهم في مزاح قروي جميل اعتادته واشتهرت به معظم مناطق صعدة...
زوايا الغرف والمساجد التي درس فيها القرآن الكريم ودرَّس فيها الآخرين، وتلا فيها من وحي الملازم والهدى النوراني الإلهي الذي نبع من معين الشهيد القائد...

المحافظة: صعدة، المديرية: سحار، العزلة: بني معاذ، القرية: ساحة صَبَر.
تعد عزلة بني معاذ بمديرية سحار منطقة زراعية طيبة، أهلها وأرضها، يكسو الأخضر أجزاء كبيرة من جنباتها المفتوحة وسط المديرية المبسوطة صعيداً زراعياً خصباً للذرة والقمح ومحميات إنتاج الخيار والطماطم وفواكه الرمان والتفاح والعنب، والقات المزروع على الدوام.
وكمعظم محافظة صعدة، منازل بني معاذ وسحار عموما طينية على الطريقة اليمنية التاريخية الشهيرة، فيما المنازل المبنية بمواد البناء الحديثة لا تزال قليلة.
وفي قرى وعزل سحار، لاسيما بني معاذ، لا تزال «لمسات» طيران «الشقيقة» ومقذوفات مدفعية السلطة بارزة منذ الحرب الثانية وحتى اللحظة.

أسفار القديس (الأستاذ صالح)
كانت صحيفة "لا" هناك في جولة تتبع أسفار الرئيس الشهيد صالح الصماد وذكريات المكان معه. وسحار، وخاصة عزلة بني معاذ، كان لكل جزء منها ذكريات شجية معه، منذ طفولته مروراً بصباه وشبابه ثم فترة انطلاقه في ركب المسيرة القرآنية وصولا لفترة ما بعد الحروب الست والعدوان على اليمن، وصعوده إلى موقع رئيس الجمهورية وحتى آخر زيارة له قبيل استشهاده بأشهر قليلة.
كانت بداية زيارتنا إلى عزلة بني معاذ، وتحديداً مسقط رأسه وقريته الساكنة كالفجر الشجي، وهي قرية "ساحة صَبَر"، حيث ولد ونبت بين تربتها، وكان فيها منزل والده وأجداده.
المكان هنا دافئ وساحر ورؤوم وجاذب للحنين وباعث على التفاؤل، غير أن به من الحزن ما به، خاصة مع حلول ذكرى فراق أبيهم القديس. بفاجعة استشهاد ابن الأرض والرمان وأغصان القات الصَبَري، "الأستاذ صالح" كما اشتهر بين أهالي المنطقة وظلوا ينادونه بذلك حتى حين صار رئيسا للبلاد وما أحب ذلك على قلبه الودود.
قرابة الثالثة عصراً، كانت الشمس قد بلغت من دلوكها ما يجعلها مهذبة مع الزائرين. وصلنا إلى منطقة السكن الراهن لأقارب الشهيد "الأستاذ صالح" وسط مزارع وجنان خضراء من لدن لطيف خبير، وهي غير معلومة إلا لقلة، بسبب استمرار ملاحقة طيران العدوان لهم.

من غرفة طينية وسط الأشجار والحقول بالغة التواضع والبساطة والأريحية لا تتمكن منها الحرارة ينتزعون منها استراحة الفلاح المحارب، خرج عادل الصماد، شقيق الشهيد، للترحيب بنا. وحين رأى الكاميرا في يدي لمحت في عينه أنني نكأت حزنه، فلا شك أنه أدرك أننا قادمون من أجل الذكرى. حتى أن العم "سوادي"، وهو عم الشهيد، قدم لإلقاء السلام علينا والسماح بالتقاط صورة يتيمة له لا أكثر لينسحب مستأذنا الخلوة بنفسه وجرحه... فلا طاقة له أن يطلق حزنه أمامنا..
استضافونا في مكانهم. وخلال حديثنا حول الشهيد كانت الأوجاع والذكريات تتقاطر عليهم ويكسو الحزن وجوههم. الجدير بالذكر أن أقارب الشهيد وأسرته جلهم ظلوا كما هم مجاهدين محاربين فلاحين بسطاء، لم يتغير الأمر لديهم أن رئيس الدولة هو أخوهم وابن عمومتهم وابن قريتهم، لم يقتربوا من قصر الرئاسة وبرتوكولات معيشته وزائريه ورتابة معيشته. وكما هو نهج الصماد فضلوا واستحبوا وعشقوا سلامة فطرتهم وخشونة أيديهم وكدهم وانهمار عرقهم الممتزج بتربة حقولهم، على حياة صالونات التجميل والتصفيف. عرفوا جيداً أن الشهيد لا يترجل عن قضيته ولا يحيد عن فطرته ومبادئه وطبيعته وبساطته، ولم تَشُبْهُ مفاتن القصر والموقع والسلطان والجاه والشهرة بشائبة، ولم يقترب من الرئاسة راغباً بل مرغماً، غارماً لا غانماً، فلم يقرِّبهم ولم يقتربوا. لذا كان "الأستاذ صالح" رئيساً للقصر لا العكس، وهو من وضع لمساته في المكان لا العكس.

بناء من الطين.. الخيال رفقة الصماد
انتقلنا مع عادل الصماد إلى "ساحة صَبَر"، حيث دار والدهم وطفولتهم الطينية، ورحنا نتبادل الحديث الشجي وعيوننا ترصد المحيط حيث الخيال الجامح يملأ رؤوسنا بصور الصماد وذكرياته... دار والدهم الفقيد علي الصماد رحمه الله كانت قد سويت بالأرض ولم يعد يعرف منها إلا آثار بسيطة.
وإلى جانب الدار، آثار أخرى لبناء قد سوي بالأرض أيضا، أعلمنا عادل أنه "مسجد فليتة" الذي اجتمع فيه الشهيد ورفاقه بعد انطلاقهم في المسيرة القرآنية قبيل الحرب الأولى 2004م بحوالى 4 أشهر، وكانوا يرددون فيه الصرخة ويحدثون الأهالي من وحي "ملازم سيدي حسين".
كان ذلك قبل أن تغير طائرات سلاح الجو السعودي عليهما مطلع الحرب السادسة.
عام 2009 عاودت السلطة حربها وعدوانها على صعدة، وهذه المرة بمشاركة جوية وبرية سعودية. وفي اليوم التالي لبدء الغارات كان الهدف الأول لطيرانهم هو الشهيد الصماد، فأغاروا على منزله وجامعه ونكسوه أرضاً ودمروا بجانبه بئرا للماء وألحقوا أضراراً جسيمة بالمنازل المحيطة. يحكي عادل ذلك والفخر يرتسم على محياه وتتجلى الثقة العميقة لديه بصدقية المظلومية والتحرك مهما كانت التضحية التي قدمها هو في حينه.

طفلان ناجيان.. وأم شهيدة
يذكر عادل أن ولديه الرضيعين كانا في المنزل ساعة أغار عليهم الطيران، بينما كانت زوجته في الخارج على مقربة من المنزل.
شيء من الصمت وشرود ذهن يصيب "عادل"، ثم يواصل الحديث: "استشهدت زوجتي رحمها الله، وبمعجزة من الله لم يحدث للرضيعين شيء وأخرجناهما من تحت الأنقاض، الأول ابني حسن (سماه تيمنا بأخيه الشهيد حسن الذي ارتقى في الحرب الثالثة) وكان عمره 6 أشهر، بينما أخته كانت تبلغ من العمر سنتين". ويضيف أن ضحايا تلك الغارة الإجرامية كانوا 6 شهداء معظمهم أطفال ونساء من الجيران.
وبحديثه عن حسن ولده، تذكر عادل كيف أن الشهيد الصماد كان مع كل اتصال بهم يبدأ بتفقد أحوال حسن وأخته، كعادته، ولا يحدث أن ينسى أو يغفل عنهما أو يقل اهتمامه بهما.

الخرائب تصادر الصبا.."لا تصالح"
تحت الركام، أصبحت ذكريات الطفولة والصبا حبيسة الجدران والأسطح المنكسة، فكانت الخرائب هي الذكرى الأكبر التي صادرت كل ما دونها من ذكريات الطفولة والصبا. طلبنا من عادل أن يمدنا بصور شخصية قديمة للرئيس الشهيد، فأخبرنا أن كل شيء تحت الأنقاض وفقدوا كل صورهم القديمة لطفولتهم وصباهم.
كنت أترقب تفاصيل وجه عادل الصماد وهو يسرد لي التفاصيل الكثيرة عن أخيه المأخوذ غيلة وغدرا، بين الفخر والحزن، بين الألم والتحسر والحنين، وبين الابتسامة القروية الحقيقية... أرى عينيه المغالبتين للدمع وأسمع الصوت المكابد غصة الفقد فتردد في رأسي قصيدة أمل دنقل: 
لا تصالحْ! 
ولو منحوك الذهب 
أترى حين أفقأ عينيك 
ثم أثبت جوهرتين مكانهما؟! 
هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى!
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك، 
حسُّكما -فجأةً- بالرجولةِ، 
هذا الحياء الذي يكبت الشوق، حين تعانقُهُ، 
الصمتُ -مبتسمين- لتأنيب أمكما.. وكأنكما 
ما تزالان طفلين! 


جغرافيا سحار وتحديدها دور الشهيد الصماد
تحتل مديرية سحار –ذات العزل الـ9 و133060 مواطناً و15320 أسرة- موقعاً استراتيجياً هاماً، حيث تقع على مشارف مدينة صعدة وتتمركز بين طريقين هما الطريق المار عبر منطقة "آل عقاب" التابعة لسحار المؤدي إلى صنعاء وإلى مديرية حيدان ومنطقة مران، والآخر هو الرابط بين مديرية سحار (حيث المدينة) ومديرية مجزَّ ثم مديريات باقم ومنبه وقطابر الحدوديات ومنفذ علب وغيرها...

خط حربي متقدم.. الفدائيون
منح ذلك رئيس الشهداء خطاً حربيا متقدما في عقر سيطرة السلطة الباطشة وإمكانية نقل الحرب إلى مناطق سيطرة النظام آنذاك، وهو ما استغله لفك الضغط العسكري والحصار على مناطق مران ونشور، لاسيما خلال الحرب الثانية، حين لم يتمكنوا من الالتحاق بركب المقاومين آنذاك بعد ضرب السلطة طوق حصار شديد على الشهيد القائد السيد حسين ورفاقه ثم على السيد المجاهد بدر الدين الحوثي والسيد القائد عبد الملك والقائد الحسيني العاشق أبو يحيى الرزامي. ونجح مخطط فك الحصار على نشور بفدائية الصماد ورفاقه القلة، لكن الأشد صدقاً وصبراً.
بعد خوضهم غمار عمليات فدائية، وهم حوالى 30 مكبراً مقاتلاً على رأسهم صالح الصماد، لم ينجُ منهم غير 5 فقط، وجههم السيد عبد الملك عقب انتهاء الحرب الثانية –التي كانت عبارة عن غزوات متقطعة على قوى العدوان- بالتخفي في بني معاذ عن أعين "كلاب السلطة".
حينها توجه الشهيد الصماد ورفاقه للتنفيذ؛ غير أنهم انطلقوا في محيطهم لتحديثهم بهدى الملازم وضرورة التحرك تحت لواء العلم.
قبيل الحرب الأولى بـ4 أشهر، كان الأستاذ صالح قد سمع الكثير عن الشهيد القائد، فجمع عدداً من أصدقائه وانطلقوا نحو مران يستمعون من القول أحسنه. بعدها عاد الصماد إلى قريته.
يتحدث عادل بأنه كان متأثراً كثيراً بكلام السيد حسين، ويخبرهم بما سأله وبماذا رد عليه. وبمرور حوالى شهرين كان الصماد يتحرق شوقا للعودة، فجمع من حوله واتفقوا أن الوقت حان للانطلاق والانضواء في القافلة مكبرين بالحق مشهرين صوت الحرية والكفاح، فانطلقوا نحو مران مجدداً ليتعلموا كيف يرددون الصرخة ومتى وأين، ثم عادوا للتنفيذ في مناطقهم امتثالا لتوجيه الشهيد القائد.
ومع بدء ترديده ورفاقه للصرخة في مساجد بني معاذ، اعترض عليهم البعض بـ"لا تزعجوا المصلين ولا تؤجلوا علينا". ولسماحته وسعيه كسب المحيط، قبل أن يقترح عليه خلال اجتماع للأهالي بأن يخصصوا لهم مسجدا يرددون فيه الصرخة ومن هو مهتم فسيأتي إليهم، وهو ما حدث، حيث خصصوا "مسجد فليتة" المجاور لمنزل الصماد في "ساحة صَبَر" ليشرع بعدها الأهالي بالتقاطر صوب الصماد الواحد تلو الآخر.


16 متراً مربعاً تجاوزت حدود الكون الفسيح
"مسجد فليتة" لا تتجاوز مساحته 4×4 أمتار مربعة؛ غير أن صداه كان أكبر من أن تخنقه جدران أربعة، إذ تجاوز حدود الكون الفسيح، وقرية "ساحة صَبَر" الصغيرة وبني معاذ وسحار جمعاء كانت قد وضعت نفسها كونا فسيحا بذاتها. لذا سارع بنو سعود بالإنابة عن المدراء الدوليين للإغارة عليه، فكان عكس ما أرادوا، فاليمن والعالم برمته صار "ساحة صّبر" - بني معاذ.
الأستاذ صالح الصماد، المعلم البسيط في "مدرسة عبد الله بن مسعود"، والذي اعتقدوا أنهم يحصرونه في زاوية مسجد ينغلق على نفسه وقريته وأصحابه، صار قائداً فذا نافذاً في مناطق سيطرة الطغيان، ثم قائدا لجبهة سحار والصفراء، ودعامة جبهتي سفيان والملاحيظ، والمسؤول الثقافي للمسيرة، وحلقة الوصل بين المجاهدين والسيد العلم، تلاها موقعه كرئيس للمكتب السياسي لأنصار الله وأخيراً رئيسا للجمهورية اليمنية.
ومديرية سحار وعزلة بني معاذ الفسيحة التي أراد الطاغوت قلبها على "المكبرين" كانت بركانا جارفا في وجهه وشوكة في نحره. وحين انقلبت إلى جبهة لم يكن معظم الأهالي ليتذمروا على الرغم من عدم انطلاقهم في المشروع، بيد أنهم بادئ ذي بدء اعتبروا ذلك تلبية لداعي القبلية والانتصار للمستضعفين المحاصرين المعتدى عليهم.
في البدء، حين وجههم قائد الثورة بتفجير المعركة من سحار ضد ثكنات وأوكار السلطة لفك الضغط والحصار على نشور خلال الحرب الثانية، لم يكن عدد "المكبرين" بقيادة الصماد أكثر من 30 شخصا ولم يعد منهم سوى 5 فقط، ومع عودتهم للاحتماء في مناطقهم، انطلق الشهيد وسط المجتمع لاستنهاضه، فأصبح 5 رجال أمة وحدهم.
أجاب عادل، حين سألناه عمن تبقى من رفاق الصماد الأوائل للقائهم: "لا أحد! كلهم ارتقوا إلى عليين".


قديس ومريدون
ومجتمع سحار القروي الزراعي كان متكاتفاً، لين القلب، نبيها للحق، متواضعاً، سريع الفهم والإدراك وشديد الذكاء، وذلك حال السريرة النقية العذبة، كحال أمطارهم المباركة، فكانت استجابتهم للصماد الثائر يسيرة حين انسكب عليهم بشغف وإصرار منقطع النظير يبلغهم الحق والهدى والطريق للمقاومة، مدافعاً عنهم، محباً لهم، مسارعاً فيهم، لم يعرفوا منه قط تنصلا أو تراجعا أو تململاً أو تذمرا أو يأساً، ولا يكون إلا في مقدمة الصفوف وأول المضحين فيهم باستشهاد أخويه وأقارب له وخسارته لمنزل والده ثم منزله ومزارعه بغارات الطيران، بينما لم تنل ذرة من حسرة موقعا في يقينه وقلبه.
صديق طفولته وابن قريته المجاورة، حميد صالح القذَّان (أربعيني)، قال لنا خلال جولة أخذنا فيها إلى أماكن كانوا يلعبون فيها أطفالاً ويدرسون فيها معاً ويستريحون في فيئها، قال إنه كان يخبر «الأستاذ صالح» حين قرر التحرك والنهوض بالحق استجابة لله وللسيد حسين، بأنه: «ما لنا خصة، خلنا بعد حالنا...»؛ لكن الشهيد لم يكن ليتصادم معه أو ينبذه من حوله أو يقاطعه أو يقل وده له، بل ظلت صداقتهما دائمة مع استمراره بتوعيته وشحذ همته ويقينه حتى جاء الوقت وانطلق مع الصماد، وذلك حال الجميع. هكذا يؤكد القذَّان، الذي ينطق حاله بأن الصماد كان محباً في تحركه فأحبته الأرض وصار موقرا مسموعا، صار أبا قديسا لها ولأهلها الذين صاروا مريدين له، لا يمر يوم وإلا ينجذبون نحوه أكثر، وحين فارقهم صاروا أشد تشيعا له وتتبعاً لخطاه.

وهل يجهل الصماد؟!
كنت واقفاً أتبادل الحديث مع أحد مريدي الشهيد، وسألته: مَن أستطيع أن ألقاه يخبرني عن الصماد؟ فكان الرد سريعاً مع شيء من التهكم: «أنت صاحي؟! والله ما به رجال ولا طفل ولا حد بذي البلاد ما هو عارف بالصماد، ولا به مكان ولا شجرة ولا جبل أو جرف ولا أرض إلا وتعرف الصماد ويعرفها ومر فيها وجلس عندها...».
على أرض الله الواسعة لا يُجهل صالح الصماد. فقط بادر بالسؤال عنه لدى أي شخص في سحار جمعاء، أياً كان توجهه، إلا وتجد جام حيويته تنصب في إخبارك عنه وعن مواقف له حدثت معهم أو أمامهم.
إنه ابن الشعب، الذي صعد إلى بلاط الحكم والرئاسة، ولم يكن إلا ابن الشعب الذي جعل من البلاط والقصر والرئاسة داراً مفتوحة أمام الشعب ولهم.

كقطر الندى ونسمات الفجر
كل شيء هنا له ذكرى مع الأستاذ صالح؛ الشجر الكريم، الظلال الذي استراح في ضيافته، الجروف في الجبال الصغيرة المحيطة التي «خَدَرَ» فيها (تقال بلهجة صعدة للمخزنين في الذروة) وتأمل وابتسم وفكر وخطط... «القات الصَبَري» الذي أحبه الشهيد، وجداول الماء الموسمي وسقايات المحاصيل والآبار العميقة جداً بشكل مخيف لاسيما القديمة منها...
الساحات المفتوحة التي لعب فوقها في صباه مع رفاقه أبناء قريته الكرة الطائرة وكرة القدم وضحكوا فيها بأصوات عالية وتبادلوا «الخَجَّات» على بعضهم في مزاح قروي جميل اعتادته واشتهرت به معظم مناطق صعدة...
زوايا الغرف والمساجد التي درس فيها القرآن الكريم ودرَّس فيها الآخرين، وتلا فيها من وحي الملازم والهدى النوراني الإلهي الذي نبع من معين الشهيد القائد...
كان الشهيد للمكان كقطر الندى المنساب على أوراق الشجر والمحلق في فضائه، يزيح العتمة والوحشة والليالي السوداء وللناس كنسمات الفجر العليل المنسكبة في الأفئدة تروي عطشها وتذهب شكوكها وتيهها.
كان ألفة وسحرا وجذبا وسكونا وفلسفة، دافئ الحديث كشمس مشرقة، كبرق في تلبيته النداء، لماحاً متبصراً متعمقاً متوسعاً كفيلسوف شرقي قديم ملأته ألفيات التاريخ بالحكمة الراسخة والنظرة الثاقبة والخبرة والتجربة... لين القول لا ينطق إلا بسديده، ولكأن لسانه لسان نبي ما تنطق بغير ما هو صائب إلا استغفرت حتى دمعت العينان... ناسك كصوفي علوي لا يخطو على الأرض ولا يرجو فيها إلا وجه ربه...
يخبرني «أبو عابد» الذي رافقه طويلا لاسيما خلال الحروب الست، وهو من أبناء سحار، بأنه على الرغم من الظروف القاسية والمؤلمة التي عاشتها مناطقهم من ملاحقة ومخبرين وقصف وتنكيل بالمواطنين من قبل السلطة إلا أن أهالي بني معاذ لم يكن ليغلق أحد منهم بابه أمام الشهيد الصماد، فقد كان مرحباً به في أي وقت وظرف أن يبيت أو يقيل في مساكنهم.
والسبب، حسب «أبو عابد»، هو سلوك الصماد وعنايته البالغة بمقتنيات الآخرين وحفاظه عليها كما هو حال رحمته بالناس وحرصه عليهم وأبويته وحنانه وعطفه على الأهالي منذ عرفوه، الأمر الذي جعله محل محبة شديدة وثقة كاملة، وما كان أحد ليرد طلبا يطلبه، سواء كانوا منطلقين في المسيرة أو مناصرين أو من الذين لم يتدخلوا.
وخلال قيادته في سحار، تعرض الصماد للمطاردة من العدو، لاسيما عبر الطيران، فكان نصيب عدد من منازل الذين استضافوه أن صارت غبارا متطايرا بفعل الغارات المستأسدة فوق رؤوس المساكين ومنازل الطين البسيطة.
غير أن أحداً من الضحايا لم يحدث أن أبدى حتى تذمرا للصماد، أو امتنع عن استقباله، بل على العكس من ذلك ازداد الالتفاف حول الأستاذ صالح وقائد مسيرتهم القرآنية السيد عبد الملك الحوثي، معتبرين ما يتعرضون له قربانا إلى الله ويتدافعون للبذل أيا كان.

تاريخ مديد في موطن الصماد (سحار)

لا تعد الكثافة القيمية والأخلاقية التي يحملها أبناء مديرية سحار أو قبائل سحار حالة طارئة حديثة، فخصوبة الناس الأخلاقية والقيمية لا تقل عن خصوبة الأرض التي تحملهم.
يشير العديد من البحاثين والنسابة إلى تعريف أبناء سحار بـ»ربيعة»، وأصحاب التعداد السكاني الأكبر من بين مديريات صعدة. واسم سحار يعود إلى سحار من ولد خولان بن عمرو أو عامر بن الحاف بن قضاعة، إحدى القبائل الحميرية الشهيرة والقديمة، وتتفرع إلى شقين: الأول مالك ويشمل: بني معاذ، الطلح، ولد مسعود، المهاذر.
والآخر: كليب، ويشمل: عامر وعمير. ولد عامر: علاف والأبقور وألت مجرب. ولد عمير: الأزقول، فروة، والعبدين.
«تقع سحار في جنوب الجزء الأوسط لمحافظة صعدة, وتبلغ مساحتها حوالى 742 كم2. وتتصل من الجهة الشمالية بمديرية مجز، ومن جهة الغرب بمديريتي ساقين وحيدان، ومن الجنوب بمحافظة عمران, أما من جهة الشرق فتتصل بحدود طويلة مع مديرية الصفراء تتوسطها مديرية صعدة (مدينة صعدة مركز المحافظة), ويقترب شكلها الجغرافي إلى المستطيل، وتتراجع كثير من مناطقها في قاع الحقل (صعيد صعدة) الخصيب لتميل أبرز مناطقها إلى الإنتاج الزراعي».