صلاح الدكاك / لا ميديا-

كتبت هذه المادة في العام 2008
حين يدلقون عجينة الإسفلت الأخيرة على المتر الأخير من الطريق الصاعدة صوب «جبين ريمة»، عاصمة المحافظة الجديدة، ينبغي أن يضعوا نصباً تذكارياً لـ«هرمش»، فقبل أن تشرع «بلدوزرات» الحكومة في النبش عن قرى المنطقة الجبلية العالقة منذ زمن سحيق بين صقيع السماء وحمم تهامة، كان «هرمش» (اسم التدليل الذي يطلقه الناس هناك على الحمار) ولايزال أكفأ وسيلة نقل وأنزه ساعي بريد، يحمل الحديد والصخر، وقراب الماء وحقائب المسافرين ولواعج العشاق والمراسيل ولقاحات الأطفال وأقراص الإسبرين. على مقربة من العاصمة أسلمنا الإسفلت للبقية الباقية من الطريق الترابي. في حوالى الساعة قطعنا المسافة التي كان قطعها يستغرق نحو عشر ساعات.

إنها بعض أكثر التضاريس تطرفاً في اليمن، فيما تعبر سهول تهامة اللافحة شمال مدينة «المنصورية» (81 كم غرب محافظة الحديدة) تنتصب جبال «ريمة» أمامك بصورة باغتة، كعمالقة خرجوا من خرافة شعبية آخذين بأكتاف بعضهم.
إنها التجربة الأولى مع جبال تسفر عن قاماتها دفعة واحدة، ويبقى نصيب البصر منها للوهلة الأولى جذورها. تحاول أن تستشرف سفحها فترتد بعنق موجوع، فالطريق نفسها تلوح منهكة وهي تتلوى صعوداً بزوايا حادة مثل قواطع «فرس النبي». ندف الغيوم الهائمة في الثلث الأخير قبل بلوغ السفح تشبه رغوة معاجين الحلاقة على ذقن لم تباشر شفرة الموس كشطه بعد، وعلى «الجبين» يتكاثف الندى كحبات اللؤلؤ، ويرقّ الهواء حيث بمقدورك أن تصوب بصرك للأسفل فتشاهد تحتك السحب المثقلة بالماء وهي تفرغ حمولتها على المدرجات الشبيهة بخلاخيل وأطواق وأساور في عناقها الدائم للجبال من الأخمص للقمة.
تكاد تصرخ في السائق: «توقف قبل أن ترتطم رؤوسنا بزجاج السماء!».

شهوة القمة
من السابق جداً لأوانه أن تحلم كزائر بسرير وحنفية ماء تغسل تحتها رأسك المشعث في نزل أدنى من فندق وأعلى من «لوكندة»، عوضاً عن أن تفاضل بين أكثر من مطعم أو تقصد أي شيء لتبتاع جريدة أو تعبر شارعاً دون أن تثير فضول المارة.
نحن غالباً لا نؤمن بطفولة للمدن التي فتحنا عيوننا عليها للوهلة الأولى وهي يافعة. الحكايات التي يرويها المسنُّون في العادة عن قاع صفصف أصبح ما نطلق عليه اليوم «مدينتنا» التي يتوه فيها المرء، درجنا على النظر إليها باعتبارها عته شيخوخة وثرثرة عن مكان ساذج لا علاقة له بالنضوج الذي بلغه في لحظته الراهنة!
لو قُدِّر لـ«ريمة» أن تسبح بالاتجاه المعاكس لتضاريسها وخلطة عثرات أخرى، صوب أن تغدو محافظة ومدينة خلال عقدين قادمين، فإنني سأكون ولا ريب واحداً بين قلائل شاهدوها وهي تحاول الجلوس بعمود فقري غض ويترنَّح كطفل في شهوره الأولى، وسأقص حكايتها لجيل سيعاملني كمعتوه.
تنشأ الحضارات بحسب استخلاص علماء الاجتماع والتاريخ على ضفاف الأنهار، وفي ريمة لا شيء يرغم الناس على مغادرة السفوح اللصيقة بالسماء سوى الظمأ؛ لكن ما الذي أرغمهم على الإقامة في السفوح منذ البدء؟!
يخطر للبال أن المكان كان مستوياً ذات حقبة ثم وثب بفعل حدث جيولوجي مهول، آخذاً معه الأحياء إلى ارتفاعات شاهقة راحوا يتكيفون معها، فاحتالوا على مقتضيات البقاء بالبرك وحرث المدرجات في انحدارات مهلكة. لقد احتملوا مغالبة المشاق كأنما تحت إغواء شهوة المكوث في القمة، أو تحت طائلة خوف السكنى في السهل لعوامل أدهى وأمر من دواهي سكنى الجبل.
في أمكنة جبلية وعرة ومتباعدة ينتشر عليها البشر في شكل تجمعات سكانية صغيرة ومعزولة يصعب العثور على هوية جامعة سوى الوحشة وانتفاء الثقة بالغد، وتنحصر مباهج الحياة في تأمين الماء الكافي للشرب وريّ المحاصيل تحسباً لفترات الجفاف. الغياب شبه الكامل للماكينة ووسائل الإنتاج الحديثة، يضع مصير الإنسان كلياً تحت رحمة تقلبات دورة خصب الطبيعة، وبالكاد تفي المحاصيل المزروعة في ريمة بالحاجة إلى مجابهة الجوع، في أحايين كثيرة، فيما يندر أن تحقق الزراعة فائضاً يعود بالنقد لسد احتياجات أخرى شتى.
قبل أن يرسو الخيار على مركز مديرية الجبين لتكون عاصمة للمحافظة الجديدة، كان المقترح -بحسب مصدر محلي- أن تنشأ العاصمة في السهل، في منطقة اسمها «الرباط» تقع على امتداد فسحة شاسعة خصبة ووفيرة الماء غرب «الجبين».
يقول المصدر: «لو اخترنا الرباط عاصمة فلن نكون قد فعلنا شيئاً»، فريمة -حد تعبيره- بمديرياتها الخمس، والتي أضاف إليها قرار النشأة مديرية سادسة هي «مزهر»، ستبقى حبيسة العزلة ولن تصلها المشاريع.
واحدة من أبرز الإشكالات المحلية تتلخص في استئثار المركز بنصيب الليث من الخدمات والفرص؛ لذا فإن أطراف ريمة برأي مراقبين ستبقى على حالها من العزلة، حتى مع كون العاصمة في الجبل، فيما سيتكدس الحراك في «الجبين». إلى ذلك فإن هذه الأخيرة تبقى نفسها طرفاً بالنظر إلى موقعها من المديريات الأخرى المأهولة في مجملها بـ700 ألف نسمة بحسب تعداد 2004.
معظم التمويل الحكومي خلال الأعوام الأربعة الماضية وحتى اللحظة يكرس لمد شبكة طرق تربط ريمة بالمحافظات الأخرى، ومديرياتها ببعضها، علاوة على إنشاء مقار الوزارات والمكاتب التنفيذية في العاصمة التي تبدأ بنيتها التحتية كالحال في ريمة عموماً من الصفر، حيث تزاول المرافق الحكومية عملها في منازل ريفية مستأجرة حالياً. ومؤخراً تم ربط العاصمة بالكهرباء العمومية ومد أنبوب المياه الرئيسي بانتظار إنشاء شبكة الأنابيب الداخلية التي تبرز تضاريس المكان، كمعيق أمامها كما أمام شبكة الصرف الصحي.
يقدر حميد عبد الله، مدير فرع مياه الريف، عدد المستهدفين من شبكة المياه، التي استهلك مد أنبوب الضخ الرئيس لها 300 مليون ريال، بـ21 ألف مستفيد في مركز مديرية الجبين وضواحيها فقط، بينما يتحدث عن 35 مشروعاً قيد التنفيذ في المديريات الأخرى؛ ويعني مصطلح «قيد التنفيذ» في العرف الحكومي الفترة السابقة لطرح المناقصات في مشاريع طور الاعتماد ومقدرة الكلفة.
على مستوى موازٍ تواجه المحافظة الغضة فاقة شديدة في معظم التخصصات، بالنظر إلى أن أبناءها لايزالون مقسورين على شد الرحال للمحافظات الأخرى في سبيل الالتحاق بالتعليم الجامعي، ما يقلص أعداد القادرين مادياً واجتماعياً على الإيفاء بكلفة الانتقال. في المنحى نفسه ترى أوساط محلية أنه حتى في حال توافر الأعداد المطلوبة من الكوادر، فإن الدرجات الوظيفية المعتمدة من جانب الحكومة تبقى شحيحة قياساً بحجم ما تحتاجه محافظة ناشئة منها، فيما يردد فريق آخر: «الطرقات والطرقات أولاً».
لا شيء بطبيعة الحال يجري حثيثاً كأعمال الشق والتعبيد منذ العام 2004. تحاول رسم صورة لشكل الحياة قبل هذا التاريخ، فتحصل على مشهد شحيح وموحش يبرهن على مدى جلد إنسان ريمة وحرمانه طيلة العقود اللاحقة للثورة. لا غرابة إذن أن يضاهي ثمن الحمار هناك مهر عروس بكر في مناطق أخرى، فيصل قرابة 200 ألف ريال؛ كما ليس طريفاً أن تعرف أن معظم المرافق الحكومية تتكئ على متون الحمير في التزود بالمياه نظير 40 ألفاً أجر شهر للحمار الواحد.

حسابات صغيرة
مثل جندي محاصر ترغمك شحة الخيارات ورداءتها على تناول الأطعمة الجاهزة والمعلبات. افتتاح مطعم بطاقم ماهر في توضيب الطلبات وتقديمها باحتراف، هو مقامرة يجبن صغار المستثمرين أمامها. قال عامل في أحد ثلاثة مطاعم هي الوحيدة في الجبين: «نوصد في العاشرة ليلاً».
خلال الساعة التي تناولت فيها الشاي على مقعد خارجي، لم يتردد على المطعم عدا زبونين، بدا أن العامل توجَّس من سؤالي عن طول يوم العمل في المحل، فبادرني متحرياً: «هل تريد أن تفتح مطعماً؟!».
يتقاسم الكثيرون في ريمة التوجُّس نفسه حيال الزائرين، فهم في اعتقادهم إما وفدوا بدافع الاستحواذ على درجة وظيفية من حصة المحافظة، أو يخططون لنشاط تجاري يضر حتماً بالاسترخاء الخدمي السائد في سوق أقل من ريفي ينهض برافعة انعدام التنافس.
يمتاز قاطنو المراكز الحضرية في العادة برقة الطبع والسلاسة في التعاطي مع الأغيار والوافدين، وتسامح نسبي، إزاء بعض التزامات المجتمع المحافظ، إلا أن هذه الصفات التي تؤخذ كمؤشرات إيجابية على مدى التمدن، تبقى مثار استهجان القرى والأرياف النائية، فهي في قناعتهم علامة فقط على «قلة الأصل وفتور النسب».
كحال كل محافظة مسيَّجة بالأعراف والتضاريس الوعرة في اليمن، يتنصل الأهالي هناك من أخلاق المركز والانتماء إليه. يعكس هذا البراء الاجتماعي نفسه على توزيع التجمعات السكنية جغرافياً، فالنخب والوجاهات تقيم في «غيتوهات» مكانية معزولة وتحظر على أفرادها -لاسيما النساء- الاختلاط بالتجمعات المفتوحة على السوق والشتات الاجتماعي والغرباء، فهؤلاء في النظرة السائدة «عار على الجبين»، وإليهم تنسب كل المذمات والنقائص التي قد تسمع بها أو تعايشها.
ولليهود، الذين غادروا المكان برمتهم، مساكنهم الخاصة والشبيهة في تكدسها، وانزوائها بفروع نبتة صبار شائكة ومكفهرة!
حلقت طائرات حربية ذات سنة ثمانينية هنا لتخمد ما وصف بـ«تمرد على الدولة» دام لسنوات، وفشل سلاح البر في إخماده. بصمات المواجهة قائمة حتى اللحظة. تدرك الحكومة اليوم أنه ما من سلاح أمضى من سلاح التنمية لإخماد التمردات، وتنشر جرافاتها في اتجاهات شتى كبرهنة عملية على هذا التوجه، إلا أن الأهداف الكبيرة لطالما وقعت فرائس سائغة للحسابات الصغيرة.
أمام حاجة مديريات ريمة الست إلى النهوض بشكل زاحف ومتوازٍ في كل منحى، بما في ذلك بالضرورة نهوض إنسانها، دون النظر إلى موقعه في سُلَّم الشأن الاجتماعي. أمام غاية كهذه تقف كحائط صد أطماع الانتفاع من امتيازات محافظة طور النشأة، بحسب مراقبين.
على غرار المكاتب الخدمية والتنفيذية في محافظة مأرب التي زرتها العام الفائت، تنحو المكاتب هنا منذ البدء، حيث ينعدم الأداء وتبقى الامتيازات المالية قائمة. التعاطي مع التوازنات على حساب مبدأ الأجدر والأكفأ لا يصب في مصلحة التنمية التي تريدها الحكومة لـ«ريمة»، كما لا يشجع رأس المال الخاص على مقامرة الاستثمار؛ فيما المالية الرسمية قاصرة عن تحقيق الحراك المأمول بمفردها. مقابل كل خطوتين صحيحتين تخطوهما الحكومة على أرض الواقع، لا تتوقع أكثر من خطوة واحدة من جانب القطاع الخاص.. إحدى المجموعات التجارية المعروفة سارعت فور الإعلان الرسمي عن خارطة البنية التحتية، لشراء مساحة عقارية في مواقع يقدَّر لها أن تكون حساسة، فيما لو سارت الأمور سيراً حسناً، ونجم الأراضي البور بدأ يسطع، لكن السلطة المحلية تواجه إشكالية مرهقة تتعلق بالتعويضات.
يقول متحدث رسمي: «في البداية يتنازل المواطنون من كل بد عن مساحات واسعة للمصلحة العامة، ثم ما إن تشرع المعدات بنبش التراب، حتى يشرعون في المطالبة بالتعويض، ويهددون بإعاقة العمل». وتشجع شائعات عن تعويض مالي مبالغ فيه منحته الحكومة للبعض، على مطالبة الآخرين بأثمان باهظة عن أراضٍ يخطط لإقامة مشاريع ومبانٍ رسمية عليها.
يمكن لمثل هذا السلوك الجمعي أن يكون مؤشراً إلى أن الناس لا ينظرون إلى أبعد من أفق اللحظة الراهنة، لكنه يعكس في بعض دوافعه ارتباك المواطنين إزاء أداء رسمي مرتبك. يعتقد «أبو فضل الشاوش»، عضو قضائي من أبناء ريمة، أن التعويض كحق لا يسقط لمجرد أنه على المواطن أن يضحي للمصلحة العامة. يقول: «إنهم يعتاشون من هذه الأرض ومن حقهم الحصول على تعويض»، لاسيما وأن الكثيرين لا يملكون أكثر من قطعة أرض واحدة، وهي في الغالب زراعية، ومصدر دخل وحيد لمالكها.
تأخذ الحكومات بطبيعة الحال ضريبتها من الأمكنة المستهدفة بالتنمية، ويكون المردود وفيراً، لكن غير مباشر. وفي اليمن يحتم على الحكومة أن تتعاطى بمعيار المصلحة العامة، بما يضع الكبار والصغار على قدم المساواة، في حال أرادت أن تحصل على مبادرات اجتماعية طوعية وصادقة.
تستطيع أن تلمس بيسر كم أن أبناء ريمة عفويون وبسطاء وظامئون لعدالة تنموية. إنهم يسردون أمامك سلبياتهم بالأريحية التي يسردون بها مزاياهم. ليس لديهم ما يدارون عليه، لذا فإن الحكومة ينبغي ألا تداري عليهم شيئاً يتعلق بالصالح العام لمحافظتهم.

تيلفريك ريمة
الصباحات المترعة بالندى والغائمة جزئياً على مدار الصيف هنا، تدفعك لأن تنظر إلى الشمس بعين الرضا وتعيد تطبيع علاقتك معها.
تقطع مسافات قلَّ أن تقطعها راجلاً في محافظات أخرى دون أن تنزف كل ليونة مفاصلك.
لم يفت الأوان بعد ليضع صانع القرار في اعتباره ما يتسم به المكان من مزايا سياحية يمكن بالانتفاع السليم والمدروس منها أن تدر دخلاً مطلوباً لمحافظة ناشئة وشحيحة الدخل. هناك أراضٍ يحسن الاستفادة منها وتشجيعها زراعياً، لكن من المبالغ فيه اعتبار ريمة زراعية بالكامل، بالنظر إلى جدوى ذلك من زاوية شحة الماء وضيق المساحات وتباعدها. كسائر اليمن بدأ محصول البن الذي اشتهر به المكان في مراحل فائتة، يشح وينفضُّ المراهنون عليه حالياً، وتلاقي زراعة التفاح مصيراً مشابهاً.
حتى اللحظة تبدو توصيفات ما ينبغي الرهان عليه في ريمة كموضوع للاحتفاء الرسمي ومصدر رئيس للدخل، مشوّشة للغاية. يقول مدير عام السياحة: «إنها سياحية في المقام الأول». وبالمثل يجزم مدير فرع هيئة الآثار بأنها «مخزن آثار يحتاج إلى تمويل للنبش فيه». وفي جلسة نقاش جادل آخرون على كونها أرض جنتين تنقصها السدود والحواجز، فإلى أي حد يصح أن تكون ريمة كل هذه التوصيفات مجتمعة؟!
أحمل في حقيبتي موجزاً لدراسة قامت بها وزارة السياحة حول «وادي اللواء» الواقع غرباً في مديرية «الجعفرية» ذات الغطاء النباتي الكثيف على انخفاض محاذٍ لسهل تهامة. إنها مخاض لمسوَّدة اتفاق وقعه المحافظ مع وزير السياحة مطلع 2008 تمهيداً لإعلان «وادي اللواء» محمية طبيعية وإقامة مآوٍ ونُزُل بيئية فيه. كما أحمل إلى جوار هذه الدراسة قرصاً مدمجاً يحتوي على صور لعملية تنقيب قام بها خبير آثار كندي في موقع يعتقد أنه كان معملاً لصناعة الفخار والزجاج كما تشير اللقى الأثرية الستون المستخرجة من حجرات المعمل المطمورة.
يعمل فرعا الآثار والسياحة كجزيرتين معزولتين دون تشبيك تفرضه طبيعة عمليهما. التمويل اللازم لتفعيل نشاط المكتبين والنهوض بالمسوح والدراسات المطلوبة -كما يتفق مديراهما- غير كافٍ. استغرق سجال بين المديرين حول: أين يبدأ اختصاص أحدهما وأين ينتهي اختصاص الآخر؟! وما الفرق بين مسح سياحي ومسح أثري؟! قرابة ساعة ونصف! كان من بين ما قاله مدير الآثار أنه يحتفظ باللقى الأثرية المعثور عليها في منزله بانتظار إنشاء متحف أو تخصيص مبنى آمن للحفاظ عليها؛ وطرح مقترحاً بأن يتم التشاور مع قائد الأمن المركزي ليفسح حجرتين في موقع المعسكر لهذا الغرض.
وجدتني، صباح اليوم التالي للقاء، أهبط منحدراً صوب مقر هيئة الآثار، بالقرب من وادٍ فسيح ومستوٍ جرى تخطيطه ليضم المرافق الحكومية التي لايزال معظمها جنينياً وطور النشأة.
هذا هو مقر الهيئة؛ منزل ريفي مهلهل ومن طابق واحد يقع في القرية التي كانت سكناً لليهود ذات عقد بعيد. على السطح تقوم فتاة بنشر الغسيل تحت أشعة شمس كسلى. وفي الركن عند الحافة ثبتت لافتة مكتوبة بخط يدوي تشير إلى طبيعة المكان. قال الشاب الذي فتح باب المنزل وعينيه للتو واتضح أنه موظف بالمكتب: «المدير مش موجود».
فيما بعد قمت بجولة رفقة مهدي القطوي، مدير عام الهيئة، لمواقع عدة في مديرية الجبين. الارتفاعات الشاهقة أكثر ما يستحوذ على انتباهك ويدهشك: سلسلة من القمم المدببة والحادة تلوح مثل أصابع موغلة في السحاب، وعلى ذراها تنتصب منازل وحصون وقلاع: حصن مسعود، حصن مشحم، قرية «العُرة» المسيجة بحافة شاهقة وذات باب هو مدخلها الوحيد، وقرية «ريمة» التي أخذ عموم المكان تسميته عنها. لكن حتى مدير الآثار نفسه لا يملك معلومات تقدر أعمار الأمكنة الأثرية، والأرجح أنها تعود لتواريخ لاحقة لظهور الإسلام، وتحديداً لفترة الدول والإمارات الممتدة حتى الغزو العثماني لليمن.
أتساءل: لو أنني لم أقصد المكان في مهمة صحفية، فما الدوافع التي سأتذرع بها لزيارته يا ترى؟!
يقول مدير عام السياحة إن سيَّاحاً كثيرين يقع اختيارهم على ريمة، حين يعرض المروجون عليهم صوراً لمناطق الجذب في اليمن، بغية ترشيح إحداها للزيارة، لكن انعدام خدمات البنية التحتية تجعلهم يصرفون النظر نهاية المطاف. ومنذ أربعة أعوام لم ينجز المعنيون حتى دليلاً سياحياً للتعريف بمزايا المكان!
إن تنمية تُزاوِج بين النهوض الخدمي من ناحية، والحفاظ على عفوية الحياة الريفية، هي التنمية المطلوبة لريمة؛ الأمر الذي لا مؤشر إلى أنه يشغل ولو حيزاً ضئيلاً في حسبان المعنيين.
العمران الحكومي الزاحف ببطء يمثل شائبة عابرة بالإمكان اصطيادها للتدليل على اعتباط الرؤية الرسمية من زاوية جمالية، فالأحجار المستخدمة في البناء مجلوبة من أمكنة ذات طبيعة جيولوجية مغايرة لطبيعة ريمة التي ينشئ الأهالي منازلهم منها وعليها في اتساق بصري جميل يمنح المشهد نفساً خاصاً، على النقيض من مشهد نشاز يتشكل الآن!
إن الأقل كلفةً مع توافر الرؤية بشقيها الوظيفي والجمالي لرقعة تبدأ من الصفر، يفضي ولا ريب للأكثر جدوى وجمالاً. أذكر جيداً مشهد انزلاق القارب الأول على صفحة مياه «خور المكلا» عقب الفراغ من إنشائه عام 2005. كان موقع الخور في السابق عبارة عن أخدود ترابي تتكدس فيه القمائم وتصب مياه الصرف الصحي، على امتداد يشطر أحياء المكلا ضفتين، وتحول إلى مَعْلَم مائز للمدينة يغري بزيارتها. في حالة محافظة ريمة هناك شائعة يتداولها الأهالي عن نية رسمية لإنشاء «تيلفريك» (مقطورات هوائية) يربط أكثر من قمة استثماراً لارتفاعات شاهقة يمكنك من على بعضها مشاهدة السفن وهي تشق زرقة البحر الأحمر. إنها شائعة يتوق الأهالي لأن تتحقق عما قريب، عندها -فقط- سيكون بوسع الجميع الانتفاع بعمق من زيارة شرفة سماوية تفترش الغيم وتشبك النجوم في جدائلها.

كولومبس في ريمة
مقابل كل قطعة أرض تبور وتجدب في «ريمة» يزداد عدد «العربيات» التي تحرث شوارع الجمهورية نبشاً عن لقمة عيش شريفة. «العربية» هي المعادل الموضوعي لمحراث تآكل بفعل القحط؛ إنها فلاحة قاسية على الإسفلت لا تكفل لمزاولها أكثر من عيش الكفاف؛ لكن العمل الشريف يغدو موضع استهجان في بلد يتخذ من العرف القبلي محكاً للمفاضلة بين الأعمال والبشر. لا تجد النكات الاجتماعية موضوعاً تمارس بذاءاتها عليه سوى الشرائح التي ترفض -حين ينقطع الرزق- أن ترتزق بقطع الطريق.
قال الشيخ اسماعيل الوليدي: «من الخطأ تفسير لجوء أبناء ريمة للمسالمة والعمل الشريف كعلامة على ضعفهم»، وكان قد أنهى مكالمة مع أحد مشائخ «رداع- البيضاء» حول حادث اختطاف سيارات متبادل وقع مطلع أغسطس الجاري بفعل نزاع نشأ بين بعض أبناء المحافظتين، ويسعى «الوليدي» للتوسط فيه.. من السهل أن تلمس شعوراً سائداً بالحيف مقروناً بالشكوى، في سجالات أهالي ريمة، التي تحتدم بصوت عالٍ في جلسات القات. لعل «عبد الملك منصور» هو الريمي الوحيد والأشهر الذي احتل موقعاً في مصاف المراتب الحكومية العليا؛ لكن تمثيل ريمة على مصاف المراتب العليا لم يعد شرطاً يُراهن عليه في النهوض بالمحافظة مع السير باتجاه الحكم المحلي - على حد اعتقاد أصوات كثيرة اليوم في ريمة، إذ يكفي تفعيل عمل المجالس المحلية لتدخل المحافظة دائرة الضوء وتنقشع معاناة أبنائها - حسب هذه الأًصوات.
إن إنسان ريمة ليس فقط «كائناً يدفع أمامه عربية فواكه»، فبمقدوره أن يدفع -فوق ذلك- عجلة التنمية بما يمتلكه من مواهب ينبغي اكتشافها والاحتفاء بها.
 سألاحظ خلال معايشتي القصيرة والعابرة للوسط الاجتماعي كيف أن الطلاقة في الحديث تكاد تكون سمة سائدة هناك. يراهن الريمي بشدة على جهازه الصوتي، مستعيناً ببراعة واضحة في المحاججة للاستحواذ على انتباه الآخر. يمثل وزير الثقافة الأسبق، عبد الملك منصور، أنصع نموذج لهذه السِّمة؛ إذ من الصعب ألا تستوقفك أحاديثه وكلماته كسامع أو كمشاهد، ويحوز على إصغائك برصفه اللغوي الذي يمزجه بفكه عفوي.
يبدو رومنسياً للغاية أن تتحدث عن حاجة المحافظة إلى مسارح ومكتبات عامة، حين الخدمات الصحية معدومة ورديئة إن وجدت، رغم توافر مستشفى عام يتمتع بامتيازات مالية كاملة. يتذكر غالبيتكم خبر وفاة عشرات الأطفال إثر تلقيهم -بالخطأ- «جرع الأنسولين» بدلاً من جرع الوقاية من الشلل أثناء حملة تحصين عام 2004.
 مع ذلك تبقى الثقافة ولعاً ريمياً لا مناص من الإصابة به بالنسبة لكثيرين، ويعبر عن نفسه على صورة مبادرات ذاتية. ففي أول ظهور ثقافي للمحافظة عبر الشاشة قدمت واحداً من أجمل «الأوبريتات»، بالنظر إلى كونه نهض على أكتاف رجل واحد منفرد ومغمور.
يبحث أحمد علي بن علي، مؤلف الأوبريت والمعلم التربوي، عما يبحث عنه أي مبدع في مثل ظروفه، متكئاً على موهبة خام. وخلال السنوات الفائتة نجح في إنشاء فرقة للفنون الشعبية تحمل اسم مديريته: «بلاد الطعام»، وحشد لها ما أمكنه من أعضاء ذوي ميول إبداعية مختلفة، بمن فيهم ابنتاه الصغيرتان.
الأوبريت، الذي قام أحمد بتأليفه وإخراجه، هو خلاصة صرخة مفادها: «نحن هنا».
من اليسير أيضاً أن تلاحظ كيف تدفع المرأة ضريبة مضاعفة لشظف الحياة، الذي يسحب نفسه على كل منحى، في محافظة قريبة عهد بالاحتفاء الرسمي. لقد غاب عن ذهني لبرهة أن التسامح الاجتماعي -كسمة في ريمة- يمكن أن يقابله تزمت في الموقف العام من المرأة، يصل حد المطالبة بمدارس غير مختلطة كشرط لالتحاقها بالتعليم، وتنهض الفتاة بواجبات كثيرة في الحقل والمنزل يستغرق معظم يومها، بما يجعل تعليمها ترفاً لا عائد من ورائه في منظور الأسرة؛ وفي أحسن الأحوال فإن المرحلة الثانوية هي أعلى سقف تعليمي تبلغه المحظوظات في ريمة.
 أغادر المكان بشعور - الأرجح أنه يشبه شعور «كريستوف كولمبس» وهو يكتشف العالم الجديد لأول مرة.
إنها محافظة تبدأ من الصفر؛ لكن...
المهم أنها بدأت!