صلاح الدكاك / لا ميديا-

تبدي الكثيرات من النساء في المهرة قلقهن من احتمال فقدان الخصوصية التي يتمتعن بها في ظل أعراف مهرية عريقة تمنح المرأة مساحة حرية وحركة واسعة في مقابل الرجل، وتقول إحدى المهتمات في هذا الشأن: "لقد بدأت هذه الخصوصية في التراجع والانكماش أمام أعراف قادمة وغريبة على البيئة المهرية"، وتصف هذا التراجع بـ"ردة اجتماعية ينبغي على المرأة التصدي لها". فما هو إيجابي يفترض أن نتمسك به ـ على حد قولها ـ وألا نفرط فيه. ربما كان لهذا القلق ما يبرره بالفعل، على الأقل لدى شريحة النساء متوسطات العمر، فحتى وقت قريب كن يتمتعن بالمسؤولية الكاملة عن أفعالهن وأقوالهم دون وصاية من أحد، وكانت الواحدة منهن تعيش فوق سوء ظن المجتمع بها، وتمارس رقابة ذاتية على نفسها، غير أن الآونة الأخيرة شهدت إعادة نظر اجتماعي في وضع كانت فيه الأنثى هي الأصل، إعادة نظر قد تكون الأعراف الوافدة أحد بواعثه، لكنها ليست كل شيء فيه.

صدام أعراف
في وقت سابق كانت المهرة تبدو أشبه بمحمية اجتماعية تسرح فيها النساء بتلقائية واندفاع غزلان المحميات الطبيعية، ثم تحولت ـ دفعة واحدة ـ إلى مدينة مفتوحة، وتسرب إليها مجاميع الموظفين والباحثين عن فرص عمل والمهريين والجنود وأصحاب "الطموح"، تسربوا عبر الجو والطرق المسفلتة حديثاً، ودفعتهم الأمواج إلى سواحل المهرة، ولم ينسوا أن يحملوا معهم أعرافهم على اختلافها، ثم قرر بعضهم أن المناخ ملائم لحياة أطول، فانتقل بعائلته لتعيش معه، وقرر البعض أن الحياة مع العزوبية أجمل، في حين رأى آخرون أن "البعد نار والقرب جنة"، فغادروا... وفي غضون ذلك حدث ما يمكن تسميته "صدام أعراف" على غرار "صدام الحضارات". ورغم فتور الجانب  الاقتصادي، إلا أن قيم السوق عكست نفسها على الحياة الاجتماعية، وأحدثت هزة في قيم الأسرة، ولم يعد من الممكن أن تسرح الغزلان بنفس التلقائية والاندفاع، وتوارت دروع المهريات الملونة خلف قماش أسود وافد يدعى "البالطو"، واقتنعت المرأة المهرية بأن عينين ترمشان من خلال "نقاب" أجمل بكثير من وجه سافر يكشف جميع أوراقه من الوهلة الأولى والنظرة الأولى، كما اقتنعت بأن استدبار الضيوف خير من استقبالهم.
إن المشكلة ليست في أن المرأة المهرية قد "تنقبت" وامتنعت عن مخاطبة الرجال والظهور سافرة عليهم.. المشكلة هي أنها بدأت تفقد الثقة في نفسها، وبدأ المجتمع يفقد الثقة فيها.
وبطبيعة الحال فإنه قد يكون من التهويل القول بأن زمام الأمور قد أفلت من يدها كلياً، أو أن ذلك قد حدث بفعل الخليط الاجتماعي الوافد، فالمرأة المهرية وإن كانت قد تنازلت مكرهة عن بعض امتيازاتها خارج نطاق الأسرة، في الوسط الاجتماعي الأوسع، فإنها تبقى صاحبة اليد الطولى في حدود مملكتها الصغيرة، ولا تزال الملكة هي الملكة داخلها.
وتمتاز المهريات عموماً برجحان شخصية ملحوظ على الرجل، ويملكن القدرة على اتخاذ القرار وتحمل تبعاته دون سلبية أو نكوص، والذكور قد لا يشكلون عائقاً من أي نوع في طريقهن، وفي العادة لا يعترض الرجل على عملهن أو تعليمهن في حال قررن ذلك. وخاضت المرأة المهرية أول تجربة برلمانية عقب إنجاز الوحدة كممثلة نيابية في أول مجلس نيابي في الفترة الانتقالية، غير أن العقبة الحقيقية في طريق المرأة المهرية هي المرأة نفسها، فإذا كان القلق من احتمال فقدان المكانة التي تحظى بها المرأة في المجتمع المهري ـ إذا كان هذا القلق ـ ينتاب شريحة النساء متوسطات العمر، فإن ذلك لا يمثل قلقاً على الإطلاق بالنسبة لشريحة أخرى من النساء هي شريحة حديثات السن. إنهن يندفعن وراء الحداثة بالمفهوم المحلي لها، كما كانت هذه الحداثة استلاباً لشخصياتهن التي اشتهرن بها كمهريات.
فعلى سبيل المثال، تترفع الفتيات عن ارتداء الزي التقليدي المتعارف عليه، وينظرن إليه على أنه "دقة قديمة"، وتصر الفتاة منهن على الخروج بالبالطو والنقاب مجاراة للأناقة بمفهومها لدى نساء المحافظات الأخرى وبعض دول الخليج، في حين كان خروج المرأة سافرة في زيها التقليدي هو السائد في المهرة، ولم يكن ذلك معيباً.. وتقول إحدى الأمهات: "عبثاً أحاول إقناع بناتي باستقبال الضيوف أو الظهور عليهم". واستقبال المرأة للضيوف عادة مهرية عريقة، تكاد تكون إحدى أبرز السمات المميزة للمجتمع المهري، وتعلق "صية بخيت رئيسة فرع اتحاد نساء اليمن" على هذا التغيير الحاصل متهكمة بالقول: "لا أتصور حضور المرأة في قاعة التحصيل العلمي في المدرسة أو الجامعة وهي منقبة.. لا يمكن أن يكون هذا مقبولاً على أية حال". وتعتقد صية بخيت أن الزي المهري للمرأة الذي يبرز وجهها وكفيها ليس فيه أية مخالفة لتعاليم الدين حتى ننصرف عنه إلى النقاب، على حد قولها. وتراهن على قدرة المرأة على التمييز بين ما هو معيب وما هو غير معيب، وقدرتها على الدفاع عن خصوصيتها في مواجهة تهديدات الطارئ الاجتماعي، وقالت في حديث لنا معها: "إن المجتمع المهري قطع شوطاً كبيراً في قضية المساواة بين الرجل والمرأة خلافاً لغيره من مجتمعات وأعراف أخرى".

خلوة بلا شيطان
إن الأنموذج الذي تقدمه هذه الأعراف للمرأة أنموذج جدير ـ بالفعل ـ بالاستحواذ على عناية تلك المنظمات التي تعنى بشؤون وقضايا المرأة وكذلك الدارسين والمهتمين، فإذا كان نضال هذه المنظمات الطويل قد أثمر ـ على المستوى النظري ـ نصوصاً ومواد دستورية وقانونية تؤكد جملة حقوق ومطالب المرأة، فإن هذا النضال لم يؤتِ أكله على مستوى الواقع، وظلت تلك النصوص معطلة لسبب بسيط هو أنها افتقرت للسند الاجتماعي واصطدمت بالأعراف، أما في حالة أنموذج المرأة المهرية فإن "العرف" كان في صف النساء، وكانت حقوقهن ـ بشكلها الحالي ـ تأصيلاً اجتماعياً لا تنظيراً.
إن اختلاء الرجل بالمرأة ـ على سبيل المثال ـ لايزال يثير جدلاً في أوساط أكثر المجتمعات الشرقية تحضراً، لكنها تبدو مسألة طبيعية للغاية في المجتمع المهري، ولا تواجه باعتراض أولياء الأمور، ولا تخشى المرأة أن تثير خلوتها مع رجل ما، شكوك زوجها أو أبيها، فهناك "عرف قبلي" يدعى في الاصطلاح المهري "المحراس"، تحوز بموجبه المرأة على ثقة تامة تجعل تصرفاتها فوق شبهات المجتمع، ولا ريب أن المهريات يحرصن كل الحرص على أن يكن جديرات بهذه الثقة في المقابل، فبالأمس قادت نساء المهرة تظاهرة ضد المحافظ السابق، انتهت بإعفائه من منصبه إثر كتاب ألفه المحافظ، وتناول فيه الوضع الاجتماعي في الجنوب إبان التشطير، واصفاً إياه بالفوضى الأسرية، ما أثار سخط المهريين، ورأوا فيه إساءة لهم، وغمزاً لما تعارفوا عليه من عادات اجتماعية.
لقد مكنت الأعراف المهرية العريقة المرأة من أن تكون قوة فاعلة في المجتمع، وذوبان هذه الأعراف وانحسارها يعني بالضرورة ذوبان وانحسار المرأة كقوة فاعلة.
إن هذا تماماً هو مصدر القلق الرئيسي بالنسبة للمهريات، لاسيما وأن مؤشرات تغيير قادم تلوح على السطح، ويسعى أطراف اللعبة السياسية لكسب المرأة كلٌّ إلى صفه، ليُسهم هذا التنافس في التسريع من عملية التغيير ومضاعفة مخاوف النساء على نحوٍ ما.. فخلال أكثر من نصف العقد ركزت الأحزاب في خطابها على الجانب الاجتماعي، وبالتحديد ما يتعلق منه بالمرأة، ونشطت العديد من المنابر في تناوله، واتخذ الخطاب السياسي شكل الديني مرة والتقدمي والنفعي مرات أخرى، وبين الانتقاب والسفور كانت الغاية في نهاية المطاف احتواء المرأة المهرية، لاسيما إذا علمنا أن نسبة الإناث في مقابل الذكور هي 100 امرأة لكل 110 رجال، حيث بلغ تعداد الإناث حتى العام 2002م 97.533، بينما حصل الذكور على 104.236، وفقاً لتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء في المهرة، وهي نسبة توازي نصف المجتمع، والأهم من ذلك تأثيرها الفاعل في نصفه الآخر. غير أن اتكاء المرأة المهرية على ماضي الإرث القبلي الاجتماعي، ليس كافياً لصناعة حاضرها الخاص وحاضر مجتمعها بوجه عام.

جلباب خاص
إن هذا الاتكاء قد يكون إحدى ركائز حضورها القوي اليوم، لكنه من ناحية أخرى يجعل حضورها سلبياً، فلم يكن مشفوعاً بالعمل، ويمكن تشبيه هذا "الإرث الجميل" بمنسأة سليمان التي أبقت على جسده منتصباً لسنوات بعد أن فاضت روحه، لكنها لم تمنحه الحركة والحياة، فالحركة تريد أكثر من ماضٍ جميل، والمرأة المهرية لاتزال تعيش في جلباب أبيها الفضفاض والمريح، ومشكلتها أنها لم تفكر في حياكة جلبابها الخاص، أو استسلمت لملابس جاهزة لا تلائم شخصيتها وتمحو مسحة الخصوصية التي ميزتها عن غيرها. إنها تتمتع بحرية لا تحظى بها نظيراتها في مجتمعات أخرى، لكنها تحتار إلى أين تذهب! وتمتاز بجرأة ولباقة، لكنها لا تملك ما تقوله للآخرين! وتسجل نسب التحاق مشجعة بالتعليم العام، مقارنة بالذكور، وتتضاءل هذه النسب لتصل إلى أقل من نصف نسبة الملتحقين من الذكور في المرحلة الجامعية. وفي أوضاع شبه بدائية كالتي تعيشها محافظة المهرة، تتضافر عوامل أخرى عديدة لتضع سقفاً لطموح المرأة، على افتراض أن هناك من يبحثن بالفعل عن فرص لتحقيق الذات خارج حدود المتاح، فالتعليم الجامعي في وضعه الحالي لا يساعد على الطموح، وهو يقتصر على كلية واحدة للتربية ملحقة بجامعة حضرموت تقع في عاصمة المحافظة "الغيضة"، ويحد البعد الشاسع بين مديريات المحافظة الـ9 وبين العاصمة، من أعداد الملتحقين بالكلية من الذكور، عوضاً عن الإناث.

المهر "شبح"
ويكرس هذا البعد من عزلة المهريين الذين ينتشرون ـ بطبيعة الحال ـ على شكل تجمعات سكانية تسودها البداوة في الغالب، ويعيش أبناؤها قطيعة إعلامية مع غيرهم، وتعكس نفسها بجلاء على تدني الوعي ومحدودية الثقافة التي يحصل عليها الفرد منهم، وفي وسط قبلي معزول كهذا لا مناص من أن تبدو المرأة وكأنها تعيش لغاية وحيدة هي الزواج، والزواج المبكر تحديداً، وحتى هذه الغاية تغدو ـ في الغالب ـ صعبة المنال، والكثيرات ينتهي بهن الحال إلى العنوسة بفعل شيوع ظاهرة غلاء المهور، حيث يتجاوز مهر الفتاة منهن المليون ريال، ويتداول المهريون على سبيل التهكم عبارة شهيرة هي خلاصة ما يطلبه ولي أمر الفتاة ممن يتقدم للزواج بها... إذ يسأل أحدهم كم تريد في ابنتك؟! فيرد عليه الآخر "فقط مليون وشبح"، والشبح هو اسم أحد "موديلات السيارات"، وهكذا يدرك شبح العنوسة أولئك اللواتي لا يقوى طالبو القرب على "تجريش شبح في جراج أولياء أمورهن"، وتفضي ظاهرة غلاء المهور في العادة إلى ظاهرة أخطر، هي ظاهرة هروب الفتيات. وعلى الرغم من أن هناك عرفاً تقره العديد من قبائل المهرة، يتيح للمرأة حرية قبول أو رفض من يتقدم للاقتران بها، فإنه لا يبدو أن المرأة قد أفادت منه كثيراً، وربما يرجع ذلك لانعدام الوعي، علاوة على تبعيتها الاقتصادية للرجل، وتبقى هذه الظاهرة "غلاء المهور" أحد أهم المتغيرات التي طرأت على الحياة الاجتماعية في المهرة بفعل الانفتاح الاقتصادي النسبي على السوق والتماس الجغرافي والتجاري مع دول الجوار، لاسيما إذا صار في معلومنا أن مهر الفتاة كان إلى زمن غير بعيد ميسراً وفي مقدور الغني والفقير على السواء، كما يؤكد بعض المهريين أنفسهم.
إن المهريات يتوكأن اليوم على "منسأة ماض" كانت فيه الأنثى هي الأصل، وما لم يمتلكن القدرة على الحركة بحيوية في حاضرهن، فإن المنسأة لن تصمد طويلاً أمام قضمات دابة التغيير، وسيأتي اليوم الذي يهوي فيه آخر عروش الأمازونيات (*)، ويصرخ الرجال "لو كنا نعلم الغيب ما لبثنا في العذاب المهين".


* الأمازونيات: محاربات أسسن مملكة نسوية خالصة لا مكان للرجال فيها إلا بقدر الحاجة لإخصاب النوع الأنثوي والإبقاء عليه.