صلاح الدكاك / لا ميديا-

أعترف بأنني كنت مغفلاً كبيراً عندما قررت السفر إلى المهرة براً، فقد أردت توفير ثمن تذكرتي الطيران، معتقداً أن «القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود» على حد المثل المصري، غير أنني اضطررت ـ في نهاية المطاف ـ لأن أدفع 20 «باكو ـ بالمصري أيضاً» هي ثمن تذكرتي طيران مضافاً إليه ثمن تذكرة سفر إلى المكلا عبر البر يمكن اعتبارها مجتمعة ضريبة «سوء تقدير» وبقليل من الصدق «ضريبة غباء».
من المجازفة أن تقول إن للمهرة موروثها الثقافي والفني الخاص، فللوهلة الأولى يلوح لك هذا الموروث كأنه صدى باهت للموروث الحضرمي، بيد أن نظرة متأنية وعميقة ستكشف فروقاً لا يمكن ملاحظتها بالنظر العابر بين الموروثين.. إنها عملية تشبه صيد الشروخ الصخري، حيث ينبغي أن تلقي الشباك عميقاً حتى تقع على صيد ثمين، وكذلك الحال بالنسبة للتراث المهري، فإنه لا يخرج إلى حيز الوجود إلا بالغوص العميق فيه، ورغم ذلك فإن الأثر الحضرمي يبدو جلياً على الحياة المهرية، ويظهر هيمنة نسبية على التراث الشعبي فيها بدءاً بالمباني وانتهاءً بالمغاني، وباستثناء امتياز المهريين بلغة خاصة هي اللغة المهرية المختلفة كلياً عن العربية، فإن انصهارهم في الأتون الحضرمي يجعل من مجتمعهم مجتمعاً واحداً بالنظر إلى جوانب الشبه العديدة بينهما.. إن الطبقية التي تقسم مجتمع حضرموت إلى 4 شرائح اجتماعية لها ما يشبهها في مجتمع المهرة، فهناك السادة والمشائخ والقبائل والخدم والعبيد، ويوازي هاتين الطائفتين الأخيرتين طائفة المساكين في حضرموت، وتتعزز أوجه شبه المهرة بحضرموت إذا عرفنا أن هناك شريحة اجتماعية تسمى في المهرة "الأقرار  أو القرويين" ذات أصول حضرمية هاجرت قديماً واستوطنت "سيحوت والغيضة" والمناطق الشرقية، علاوة على أن سادة المهرة ينتسبون في الأساس إلى السيد أحمد بن عيسى المهاجر جد السادة العلويين الذين يقيمون في تريم، ولعل تمدن الحضارمة الباكر وانفتاحهم على العالم كتجار ودعاة هو العامل الأهم في تأثيرهم على الحياة المهرية القائمة أساساً على البداوة والاحتراب القبلي، ويظهر هذا التأثير قوياً في المناطق المهرية القريبة من حضرموت الوادي كسيحوت مثلاً، وهي المديرية الأغنى بالتراث الشعبي بين مديريات المهرة.
إن الجزم بهذا التأثير قد يثير حفيظة أولئك الذين يزعجهم تصوير المهرة كأنها بادية حضرمية، ويحرصون على تأكيد مهريتهم، والتشديد على أنها خالية 100% من "كولسترول الأنموذج الحضرمي" في الثقافة والفنون، وهؤلاء قد يريحهم أن نرصد فروقاً عميقة بين المجتمعين، ويأتي حضور المرأة الفاعل اجتماعياً وفنياً في المهرة على رأس أبرز هذه الفروق..
لنأخذ جانب الفنون الشعبية على سبيل المثال.. ففي أغلب هذه الفنون تدخل المرأة كشريك أساس للرجل، وبغيابها تختل المعادلة الفنية، ويبقى الأداء واضح العرج، ومن الفنون الشعبية التي تقوم على شراكة المرأة، رقصة "الشرح المسيلي"، حيث تحضر المرأة كراقصة بين صفين من الرجال والنساء يتوسطهما شاعر.. ورقصة "الدرجة" المؤلفة من حلقة من النساء والرجال تلعب أكفهم دور الإيقاع، ورقصة أخرى هي الشرح، وهي نسوية خالصة تؤدى على ساحة مخصصة من الحي، وتتألف من مغنية واصطفاف مربع من النساء تتنافس في فسحته الراقصات وسط غناء نسوي جماعي.
إن ارتباط الفنون الشعبية والغناء والقصيد بالأداء الراقص في المهرة عموماً هو واحد من الفروق العميقة التي تميز بين حضرمي ومهري في جانب الفنون، وبينما يمكن إرجاع الفنون الحضرمية إلى منشأ ديني وظيفي ومناسباتي، فإن العديد من الفنون المهرية قائمة بذاتها ولذاتها على مبدأ "الفن للفن"، فالحضرمي يركز على ما يجوز في الفن وما يرمي إليه، أما المهري فيركز على ما يخدم هذا الفن وما يجعله مثيراً، ويكتب الشاعر الحضرمي قصيدته وهو ينقر بأصابع كفيه باحثاً عن اللحن، بينما يكتب الشاعر المهري قصيدته وهو يوقع بأصابع قدميه بحثاً عن الرقصة الأنسب لها، الأول يحاول التحليق في السماء، أما الآخر فينقش أحلامه على الأرض.
وتبقى اللغة المهرية هي كل ما يشد المهتمين والباحثين في الشأن الثقافي إلى المهرة، وتبقى هي العلامة الوحيدة تقريباً على هذه المحافظة النائية، والميزة الثقافية الوحيدة لها في غياب التعريف بالجوانب الأخرى.. وفي الآونة الأخيرة زار المهرة باحثون ألمان من معهد يعنى باللغات الإنسانية، واصطحبوا لدى عودتهم إلى ألمانيا أحد فناني المهرة هو "عسكري حجيران ـ أجرينا حواراً معه"، ليقوم بتدريسهم قواعد اللغة المهرية، وذكر حجيران أن 3 مؤلفات في قواعد وأصول هذه اللغة ستصدر قريباً عن هذا المعهد، واختار "سام ليبهابر ـ 27 عاماً، من ولاية كاليفورنيا الأمريكية" اللغة المهرية موضوعاً لرسالة دكتوراه يتقدم بها إلى جامعة كاليفورنيا في تخصص اللغات السامية المقارنة والأدب العربي، وقال ليبهابر رداً على سؤالي له عن أسباب اختياره المهرية موضوعاً لرسالته: إنها لغة لم يتناولها أحد بدراسة مقارنة موسعة، وكنت قد التقيته بالصدفة في مكتب الثقافة بالمهرة بصحبة الشاعر "حاج علي دعكون" الذي يقوم بتلقينه اللغة المهرية.
ويبدو أن أعداد المتحدثين بهذه اللغة الشعبية يشهد تناقصاً في أوساط المهريين، لاسيما حديثي السن منهم، ويفضل هؤلاء التخاطب في ما بينهم بالعربية، 
ومن المعروف أن المهرية هي لغة التخاطب الرئيسي بين المهريين، ولا يلجؤون إلى العربية إلا في مخاطبة غيرهم من غير المتكلمين بها. على أن جيلاً جديداً يعلن اليوم خروجه على هذه العادة على حد ما ذكره بعض من التقيتهم من أهالي المهرة، ما يهدد مستقبل هذه "الماركة الدالة على المحافظة" بالكساد، وحتى ذلك الحين سيكون على المهريين السعي الحثيث لإبراز جوانب الثراء الثقافي الأخرى في موروثهم، وينفي أحمد سالم المهري، مدير مكتب الثقافة، حالة الركود الثقافي التي تعيشها المهرة، إلا أنه لا يقدم الدليل على عكس ذلك سوى أنشطة موسمية باهتة تبناها المكتب، هي عبارة عن فعاليات احتفاء بأعياد الثورة، وشخصياً أعتقد أنها لا تقدم المهرة للآخرين كما ينبغي كمحافظة تمتلك رصيداً من التراث لم يكشف عنه بعد، ويلقي مدير مكتب الثقافة باللوم في ذلك على عاتق أجهزة الإعلام، لا سيما الفضائية اليمنية التي ينبغي أن تخصص زمناً أطول في بثها البرامجي يكرس لعرض الموروث الفني والثقافي في المهرة، على حد قوله.. إنه محق، لكن المهريين عليهم ـ أيضاً ـ أن يتعلموا كيف يروجون لمهريتهم على الطريقة الحضرمية! عليهم أن يقدموا أنفسهم للآخرين، لا أن يطالبوا الآخرين بتقديمهم.. فالآخرون هم الجحيم، على حد تعبير سارتر.
وقديماً قال عمرو بن العاص عن المهريين "إنهم يقتلون ـ بفتح الياء ـ ولا يقتلون ـ بضمها"، واستلهم وصفه هذا من بسالة سرايا المهرة في خوض الفتوحات، واليوم عليهم أن يحاولوا فتح نوافذ جديدة على فنونهم، مستفيدين من إيرادات محافظة تنتج 95% من إجمالي ما تنتجه اليمن عموماً من الشروخ الصخري، قبل أن تذهب به قرصنة جرافات سنغافورة والصين والهند ومصر الناشطة بلا كلل في سواحل نشطون ومحيفيف و... تحت نظر الحكومة وتسامحها منقود الثمن!

سيارااات
تشعرك المدن ـ التي لم تتحول إلى مدن حقيقية بعد ـ بأنك رجل مهم جداً فقط لأنك ترتدي بنطالاً مكوياً وقميصاً بألوان زاهية، وتحمل حقيبة شراعية سوداء تتدلى من كتفك بغطرسة.. ليتهم يدركون من تكون! شخصياً لم أعتد الإنفاق على محلات غسيل الملابس، وأضطر لذلك كلما غادرت مسقط رأسي ـ وهذا لا يحدث إلا في النادر ـ وفي الغيضة كلها هناك مغسلة أتوماتيكية وحيدة وبضع مغاسل أخرى يدوية (إنها معلومة ثمينة لمن يرغب في الاستثمار في هذا الجانب)، وتتألف ملابس المهريين من الذكور، من 3 قطع في الغالب، هي الفوطة أو المعوز، والقمصان المشجرة ذات الألوان الداكنة، والشيلان، ويراهن المهري في أناقته على الشال، ويفضله عُمانياً، أما الملابس الداخلية فهي وباء يرفض المهريون أن ينتشر في أوساط الرجال، وينظرون إليها على أنها من مقتنيات المرأة وللنساء فقط.. إن هذا الاقتصاد المفرط في الملبس قد لا يشجع على إنشاء مغسلة حديثة هناك، لكن ألا يكفي أن تعلن أن غسل ملابس الرجل لا يدخل ضمن اختصاصات ربات البيوت، ليغدو الأمر مشجعاً تماماً، وهناك أيضاً المناخ الحار الذي يكفل للمغاسل عدم الكساد على المدى البعيد.. علاوة على شريحة واسعة من الزبائن الباحثين عن الأناقة في مدينة تشعرك بأنك "مهم" لمجرد أنك أنيق نسبياً، وبالمناسبة فإن التنقل على متن سيارة خاصة ليس مما يرفع رصيد أهميتك في محافظة كالمهرة، فالسيارات هناك بـ"الهبل"، وقليلون هم الذين يجوبون الشوارع سيراً على الأقدام، ولا يختلف كثيراً أن تتنقل على متن "ليلى علوي" أو على متن "أمينة رزق" في حساب محافظة هي عبارة عن منفى كبير للمركبات المرغوب وغير المرغوب فيها والنافقة و"المودرن" القادمة من الخليج.
السيار (بحذف تاء التأنيث) وحده هو ما يرفعك إلى مصاف المهمين، لاسيما وأن هذه الخدمة أدخلت على "الغيضة" ـ حصراً ـ مؤخراً متزامنة مع زيارتي الأولى لها، فقبل هذه الزيارة بأيام كنت قد تلقيت رسالة على الهاتف المحمول تقول "الآن في المهرة.. تغطية خدمة الهاتف المحمول"، ولم أفطن ساعتها أن حدثاً كهذا سيتيح لي أن أزعم ـ في ما بعد ـ بأنني كنت واحداً من أوائل المتحدثين عبر المحمول على الأقل في المهرة رغم أن أكثر من ثلاثة أرباع المحافظة لايزال خارج نطاق التغطية.

ليته لم يكن عربياً
المعمار المهري يشبه إلى حد بعيد المعمار الحضرمي إن لم يكن نفسه تقريباً، وباستثناء العلو الشاهق وتعدد الطوابق في هذا الأخير، فإن التجوال في الأحياء المهرية القديمة ببيوتها الطينية المبنية من "اللبن" ونوافذها الخشبية الصقيلة المطلية بالأزرق الفاتح وأبوابها المطرزة بقطع معدنية مقببة، يكرس لديك الشعور بأنك تتجول في حي من أحياء حضرموت الوادي، وفي "حصوين" المدينة البحرية الواقعة غرب "رأس فرتك" هناك حصن قديم يشبه إلى حد بعيد حصن "الغويزي" الشهير في المكلا يعرف بحصن "البحراني"، وتتعدد أحياء المهرة القديمة بتعدد طبقات المجتمع المهري نفسه، فللسادة حيهم الذي تشير تسميته إلى طبقة ساكنيه "حي السادة" على سبيل المثال. وعموماً فإن حياة البداوة والبحر القائمة على التنقل المستمر وعدم الاستقرار لم تسمح بظهور مدن ذات سمات معقدة خاصة في المهرة، وتعد "دمقوت" الواقعة ضمن مديرية حوف شرقاً من أقدم المدن المهرية التي ورد ذكرها في النقوش، واستخدمها اليزيديون كميناء في أوائل القرن الرابع للميلاد، وقد عرفت المهرة في التاريخ القديم باعتبارها جزءاً من مملكة حضرموت، ومن الصعب الوقوف على آثار ومعالم واضحة يمكن نسبتها إلى حقبة تاريخية معينة، عدا رسوم أسوار وحصون خربة في "دمقوت" و"حصوين" و"يروب" يعتقد بأنها آثار حميرية، وحتى اللحظة ليس هناك كشف أثري هام وذو قيمة يلقي الضوء على تاريخ المنطقة، وإلى أن يتم العثور على مفتاح لهذا الصندوق العتيق والمقفل يبقى الإنسان والبحر هما أثمن كنوز المهرة التي أميط اللثام عنه، الإنسان بتقاليده وعاداته وتراثه الراقص، والبحر بكائناته الملونة والمثيرة التي تهب الوطن ما هو أغلى من النفط بعشرات المرات، على أنه من المبالغة أن نقول إن اللثام قد أميط عنها تماماً.
إن المشكلة ليست أننا لا نعرف شيئاً عن المهريين.. المشكلة أن المهريين لا يعرفون الكثير عن أنفسهم، ولقد اشتهر المهري بصفته محارباً شديد البأس، وعلى هذه الصفة اعتمد حكام المهرة على تعاقبهم في ترسيخ دعائم حكمهم والذود عن حياضه، وأثبت المهريون أنهم وقود جيد للحروب إبان فتوحات الدولة الإسلامية، وحظوا بوصف عمرو بن العاص لهم بأنهم "يقتلون ولا يقتلون"، وكانت قبائل المهرة من القبائل العربية التي امتنعت عن أداء فريضة الزكاة لأبي بكر إثر وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقاد تمردها هذا قائد صعب المراس عرف بـ"شخريت المهري".. إن كل ذلك لا يكفي، والمهريون في ما كتب عنهم أشتات متفرقة في كتب التاريخ كانوا فحسب محاربين أشداء في معارك لا طائل لهم من خوضها والمهرة هي الميدان، وترد المهرة ـ في العادة ـ كجملة عارضة في كتب تؤرخ لحضرموت، وتأتي اللغة المهرية لتكرس هذا الجهل وتطرح علامة استفهام كبيرة حول كل ما هو مهري.. يقول علي سعيد باكريت: "أشك في كون المهريين من سلالة حميرية"، ويستدل على ذلك باختلاف أسمائهم القديمة عن التسميات الحميرية المتعارف عليها، ثم يعود فيؤكد: "يبقى ذلك مجرد شك، والقضية بحاجة إلى البحث والدراسة".
قبل سنوات صدر لعلي سعيد باكريت كتاب عن جامعة عدن بعنوان "المهرة.. الأرض والسكان"، هو خلاصة جهد ذاتي حاول من خلاله تقديم المهرة بشمول للقارئ، واعتمد في تأليفه على النزول الميداني والأخذ عن المعمرين من أهالي المحافظة من جهة، وما أوردته كتب التاريخ حول المهرة من جهة أخرى، ويرجع باكريت السبب الذي دفع به لتأليف كتاب في هذا الخصوص إلى الجهل بهذا الجزء من الوطن.. إنه محق! وإذا كنتم قد سمعتم بـ"بئر هوت" المحفوفة بالخرافة والجان والمسوخ، والتي تقع في المحافظة نفسها، فإنكم ستكتشفون كم أن المهرة تشبه هذه البقعة التي لا يجرؤ أحد على اقتحامها والخروج بالحقيقة من قعرها، خوف حراس وهميين من إنتاج المخيلة الشعبية التي لجأت لذلك مراراً كما يذكر المؤرخون بهدف صرف أنظار الغزاة عن بلادهم و...
في العام المقبل سيقرع المهريون طبولهم احتفاءً بمهرجان خريف حوف المدهش، لكن المهرة بحاجة إلى أكثر من مجرد مهرجان موسمي أو كتاب في سبيل التعريف بها، إنها عروس حدودكم البكر التي يقتحم عليها زناة الليل والجرافات وحيتان البر خدرها البحري، وتكتفون باستراق السمع لصرخات "..."... و..
ها هي الطائرة تقلع بي في غير الموعد، نفس الطائرة تقريباً ونفس المضيفات ونفس السأم.. ألقي نظرة وداع على البحر العربي وهو يبتعد كحقل كبير من البترول الأزرق.. كنت أمنِّي النفس بوجبة شروخ بحرية، وها أنا أعود بشروخ في القلب.. ليت هذا البحر لم يكن عربياً!