
صلاح الدكاك / لا ميديا
الآن صار بوسعنا أن نشاهد سقطرى ـ ليس كلها بالطبع ـ هذه جبال موري، وهناك على مستوى النظر تلوح سلسلة جبال حجهر الممتدة بطول 24 كم...
تستغرق الرحلة حوالي الساعة من الطيران على ارتفاع 27ـ28 ألف قدم بدءاً من لحظة الإقلاع في مطار الريان بمكلا حضرموت التي يفصلها عن الجزيرة 480كم.
ساعة من الغوص في عماء توشيه فجوات زرقاء هي مقدار ما تسمح الغيوم الكثيفة برؤيته من صفحة البحر العربي، وخلال ذلك تشعر كأنك تجتاز الكرة الأرضية نحو طرفها الآخر القصي، حيث مثلث الغموض «برامودا»، ثم سرعان ما توقظك هبات خفيفة وكاوية من نسائم أبريل الذي تبدأ فيه درجات الحرارة بالارتفاع لتصل إلى 37 درجة مئوية،
وتجد نفسك أمام حروف خضراء بارزة وكبيرة تؤكد أنك على مطار سقطرى، في حديبو عاصمة الجزيرة وإحدى مديريتيها،
إلى جانب «قلنسية» العاصمة الثانية، كما يروق للسلطة المحلية أن تطلق عليها.
اليوم الذي تبيض فيه ذهباً
أحصي ما تبقى من نقود بحوزتي بالكاد تفي بثمن قناني ماء معدني ومشروبات غازية ومرطبات وأطعمة رخيصة وسجائر لبضعة أيام قادمة. 50 ريالاً ثمن متعارف عليه لقنينة ماء معدني صغيرة، والحاجة المستمرة إلى الشرب وتتضاعف بدورة الشمس في الأفق قريبة جداً من الرؤوس، تلازمني رغبة عارمة ـ أيضاً ـ في إشعال المزيد من لفائف التبغ، ربما لوفرة الأكسجين الذي تتسع معه الرئة لاستقبال معدل أعلى من معدل الدخان المعتاد دون أن يشعر المرء بإشكالية في التنفس (لا أدري ما الذي يجعل لفافة التبغ بمثابة القلم بالنسبة للكتاب فيعتقدون بأنها لازمة ـ لا غنى عنها ـ من لوازم الكتابة؟!).
في سقطرى حطمت رقماً قياسياً في تناول اللحوم وبنسبة تفوق نسبة ما تناولته منها خلال 4 أعياد مجتمعة مضت، صرت أجرؤ على مناداة "المباشر" لأطلب منه بزهو "برمة لحم" بأسرها، وهذا ـ بالطبع ـ ما لا أجرؤ على مجرد التفكير فيه في مدينتي.. وبدافع قلق غير مبرر من احتمال زوال هذه النعمة، لم ترق لي تلك الدعوة التي يرفعها البيئيون في الجزيرة بهدف الحفاظ على المراعي من الازدياد المطرد في أعداد الماشية والأبقار.. إنهم يزعمون بأن "ماشية قليلة سمينة خير من ماشية كثيرة وعجفاء.."، وهذا ما يهدد ـ بالنسبة لمثلي ـ فرصة الحصول على "برمة لحم" دسمة ورخيصة في زيارة مقبلة.. ثم إن سكاكين السقطريين ـ من أبناء البوادي ـ المشرعة على مدار الساعة، والمتأهبة لجز رؤوس المواشي كعادة عريقة في إكرام الضيف، تجعل خوف البيئيين على المراعي مبالغاً فيه.
مضت 3 أيام على إقامتي في حديبو عاصمة الجزيرة، وخلالها رحت أتحرى حول إمكانية الحصول على رحلة مجانية إلى أطراف سقطرى البعيدة وإلى محمياتها الأربع: سكند، ديطوح، حومهل، ديحمري.. تنظم إدارة البيئة رحلات أسبوعية لأغراض تتعلق بالإرشاد والتوعية البيئية في أوساط سكان المحميات، كما تنظم رحلات لكبار الوفود من المانحين أو أولئك الذين يحاول مجلس البيئة استدراجهم لتوقيع اتفاقيات منح في قادم الأيام، وعلمت من بعض موظفي البيئة أنهم يرتبون لرحلة من هذا النوع، سفير اليابان هو ضيف الشرف فيها. كما علمت ـ بعد أن فاتني الانضمام إليها ـ أن مجموعة من الصحفيين الأجانب (بريطانيين وإيطاليين) قد ضمتهم الرحلة، لذا فلم تكن لتتسع لصحفي محلي على حد ما قرأته في عيون ونبرة منظميها وهم يعتذرون لي: بأن المقاعد مكتظة على الآخر (هل كانت كذلك بالفعل؟!). إنهم معذورون فعائدات تقديم سقطرى للخارج الأجنبي مغرية ولا ريب، بينما تقديمها للداخل لا يدر الكثير، وحسب مصدر بيئي، فإن الحكومة ـ رغم مضي حوالي 6 أعوام منذ مصادقتها على خطة تقسيم أرخبيل سقطرى إلى مناطق للحماية والاستخدام المستدام للتنوع الحيوي والموارد الطبيعية عام 1999م ـ لا تزال تنظر إلى مشروع التقسيم هذا باعتباره طور الاختبار على محك الواقع، بانتظار أن يثبت حماس البيئيين ما إذا كان هناك جدوى حقيقية من ورائه؟! لذا فلا غرابة أن ينهمك هؤلاء على استجلاب القناعة الجاهزة لدى الأطراف الخارجية المؤمنة سلفاً بجدوى هذا النوع من التنمية البطيئة، وحتى ذلك الحين تبدو الفرصة طويلة أمام البيئيين، ولا خوف من نفاد صبر الحكومة، لا سيما وأنها تبقى شبه معفية من نفقات التنمية خلال ذلك باستثناء القليل المنصرف في جوانب خدمية مجاورة.
إن كسب تعاطف الحكومة يبدو أمراً مفروغاً منه وربما مقدوراً عليه، ولا يمثل قضية مقلقة بالنسبة للبيئيين، فحتى في المرة الوحيدة التي أخلت الحكومة بالتزامها في ما يخص عدم المساس بحرم المحميات، وشرعت في شق طريق إسفلتي يخترق قلب محمية "ديطوح" في الشمال الغربي من الجزيرة، استطاع البيئيون ممارسة ضغط أسفر عن توجيهات حكومية واضحة بتحويل مسار الطريق خارج حرم المحمية، وتوقف العمل في الطريق ـ بالفعل ـ عند الكيلو 43 تقريباً، وقبل بلوغ منطقة الخطر.
إن تعاطفاً حقيقياً من قبل أهالي سقطرى هو ما يحتاج إليه البيئيون ـ في الحقيقة ـ للمضي في عملهم، وعدم ضمان هذا التعاطف هو وحده ما يمكن أن يكبح جماح طموحهم، ويشكل مبعث قلق بالنسبة إليهم.. وإذا كان البيئيون قد حققوا ما يسمونه انتصاراً في أولى معاركهم بتحويل مسار طريق "ديطوح"، فإن تضامن أهالي القرى المجاورة معهم كان وقود المعركة الفاعل. هؤلاء كان دافع تضامنهم ـ في الحقيقة ـ تماماً كما كان مرور الطريق في قلب المحمية مطلب أهالي ديطوح الذي لم يتحقق، يقول عبدالرقيب الصلوي، المسؤول في إدارة المحميات: "لقد كسبنا أولى معاركنا.."، ويضيف بنبرة الواثق: "على الأهالي أن ينظروا ـ فقط ـ إلى اليوم الذي ستبيض فيه الجزيرة ذهباً بين أيديهم، عندها سيبدو الطريق الإسفلتي مطلباً مخجلاً؟!". شخصياً لا أجد بداً من النظر إلى اليوم الذي يعنيه، لكن من يقنع هذا المواطن السقطري الذي ينفق الساعات على قارعة طريق وعرة ومقفرة بانتظار سيارة محتملة تتبرع بنقل كيس القمح ونقله إلى قريته البعيدة، حيث يجلس أطفاله جوعى على وعد وصوله؟ إن المسألة بحاجة إلى سعة خيال لا يتمتع بها السقطريون الذين يعيش غالبيتهم حياة بدائية، معتمدين في سكناهم على الكهوف، وفي غذائهم على تربية المواشي (تتركز هذه الشريحة في مناطق مثل: مومي، حجهر، نوجد الساحلية و"قعر" في أطراف الجزيرة).
إن ضوابط وشروط تنمية المحميات لا تعارض ـ فقط ـ فكرة فنادق الخمس نجوم، بل والطريق المسفلتة أيضاً، إنها تنمية متزمتة لا تروق للرأسمال اللاهث خلف استثمارات سريعة المردود في ظل سياحة مفتوحة، كما أنها ـ أي تنمية المحميات ـ فكرة لا تروق لمعظم أهالي سقطرى المتلهفين لمشاريع خدمية لا تزال الجزيرة محرومة منها حتى اللحظة بفعل الضوابط والشروط نفسها..
إن القضية شائكة وتلخصها عبارة سمعتها ـ بالصدفة ـ من أحد الأهالي في مطعم بحديبو: "محميات.. محميات.. فليحمونا من الجوع أولاً"، هكذا كان يتمتم، وتعمد أن تصلني عبارته لسبب ما.
وحالياً يركز البيئيون والسلطة المحلية على مسألة إشراك الأهالي في عملية التنمية بمنحهم وظائف في الإرشاد البيئي والشرطة السياحية، علاوة على أولويتهم في شغل الوظائف في القطاعات الأخرى، وتعقد إدارة التعليم والتوعية البيئية دورات في التعريف بأهمية الحفاظ على البيئة تستهدف شرائح المجتمع السقطري، المشائخ، المقادمة، والقبائل.. وتحاول تشذيب الكرم العفوي لدى المواطنين بتوجيههم إلى الطريقة التي ينبغي أن يتعاملوا بها مع السياح على قاعدة: أكون كريماً مع السائح مقابل أن يكون كريماً معي.
إن المواطن ينبغي أن يتذوق ثمار هذه التنمية الآن، لذا فإن هناك إعانات يحصل عليها الأهالي شهرياً ـ على حد ما أخبرني به بعضهم ـ كما يحصل من يرغب منهم في الاستثمار على قروض ميسرة بتنفيذ مشروعه الخاص والملتزم بضوابط وشروط المانحين التي تتلخص في عدم الإضرار بالبيئة. ويرى البعض أن ميزة منح القروض للسقطريين دون غيرهم من المقيمين
في الجزيرة، سيجعل عملية التنمية تسير بوتيرة أكثر بطئاً مما هي عليه بطبيعتها. لا سيما وأن عوائق عديدة تحول دون قدرة الإنسان السقطري على المبادرة، منها على سبيل المثال الأمية المنتشرة بمعدل كبير في أوساط المجتمع، وعدم حصول المتعلمين فيه على التأهيل الكافي (أغلبهم من حملة الإعدادية)، وبدائية الحياة التي يعيشها السكان، وغياب روح التنافس الذي يطبع سمات سكان المدن..
لقد عرف السقطريون كبحارة ماهرين في فنون الملاحة ومسالمين ـ في كتابات المؤرخين عنهم ـ كانوا بحارة ناجحين، ولعل هذا أحد الأسباب التي جعلت المدنية لا تعرف طريقها إليهم.. ويعتقد "حاج علي الحاج" (50 عاماً) أن توسيع نطاق الاستفادة من القروض الميسرة في الاستثمار ليشمل المقيمين من غير السكان المحليين ـ أيضاً ـ سيخلق لدى هؤلاء الحافز للمبادرة.. إنهم بحاجة إلى أنموذج يقتدون به، ويكسبهم الخبرة والرغبة في خوض هذا المضمار..
قبل 8 سنوات انتقل حاج علي الحاج (الحضرمي والمستشار في وزارة التربية) بعائلته من مدينة عدن ليعيشوا جميعهم في سقطرى، يقول عن أسباب ذلك: "لقد هزمتني المدينة، وآثرت العيش في هذه الجزيرة". إنها منفاه الاختياري كما يحلو له أن يسميها، واليوم يبدو أن هذه التسمية أصبحت اسم دلع أثيراً بالنسبة له لا أكثر، فـ"حاج" الذي خسرت وزارة التربية خبراته المتراكمة طيلة 30 عاماً من العمل في الميدان، لم يخسر نفسه، وكسبته سقطرى..
إنه يملك الآن محلاً مدهشاً وغاية في البساطة والجدوى، إذ يجمع رغم صغره بين عيادة أسنان عبارة عن كابينة خشبية، واستديو تصوير بمعمل منزلي للتحميض، وأخيراً صندوق زجاجي يسند حاج مرفقيه على حافته ويبدأ في عرض نخبة المصوغات الذهبية التي يحتويها الصندوق على النساء السقطريات اللواتي يترددن على المحل للفرجة في الغالب على وعد بالشراء لاحقاً..
في الاستوديو يعمل "علاء" (18 عاماً)، وفي عيادة الأسنان تعمل "حنان" (20 عاماً).. أنموذج لشراكة عائلية عملية متناغمة، ويخطط حاج رئيس مجلس إدارة المحل لخوض تجربة الاستثمار في السياحة البيئية، ويطرح تصوراً أنيقاً وعملياً بهذا الخصوص، غير أن حجب القروض الميسرة عن أمثاله من غير المحليين يبقى مستمراً حتى مع 8 سنوات إقامة عائلية، يقول: "ربما تبدو فكرة إقامة منشآت خدمية بسيطة وغير فندقية، فكرة غير مكلفة.. ما الذي تحتاجه؟َ! مراكز الجذب متعددة.. هناك سياحة الغوص في ديحمري، حالة وقلنسية، حيث متاحف الشعاب المرجانية.. وهناك ـ أيضاً ـ سياحة التخييم في أحراج حومهل، ديكسم وغيرها في البر السقطري.. وفي كل ذلك تلزمك منشآت سياحية متنقلة ومرافقة لحركة السياح.. تلزمك العربات والآلات الخاصة التي تقدم الأطعمة والمشروبات والخيام ومعدات الغوص في مناطق تنعدم فيها كلياً خدمات من هذا القبيل.. بالنسبة لمستثمر صغير تبقى تكاليف البدء مرهقة، وتلزمه مثل هذه القروض كثيراً.. ولكن ماذا عن كبار المستثمرين؟! إن الفرصة تلوح سانحة أمامهم، ورغم ذلك لا يبدون رغبة في اقتناصها ـ على الأقل حتى اللحظة ـ ربما لأنهم لا يثقون في جدوى هذا النوع من الاستثمار، أو أنهم ينتظرون تلك اللحظة التي تفقد فيها الحكومة ثقتها في جدواه، وتفتح الباب أمامهم لسياحة حرة وبلا ضوابط!
وعلى حد د. هكتر الخبير في السياحة البيئية بالأمم المتحدة، فإن شركات دولية متعددة عرضت ـ من خلاله ـ رغبتها في استثمار فندقي بمواصفات عالمية في الجزيرة، وكان رده: "ذلك يقتل السياحة البيئية".. دعونا من تزمت البيئيين ومن جشع ولامبالاة الرأسمال، ولنتحدث عن ذلك الفندق في إحدى المحميات الأفريقية "كاف هوتيل في الصومال"، حيث ينزل "بيل جيتس صاحب مايكروسوفت" ونخبة من أثرياء ومشاهير العالم للاستجمام كلما أدركهم سام الأضواء والصخب والأقراص المدمجة والرقائق.. وهناك يدفع الواحد منهم 10 آلاف دولار لليلة الواحدة في فندق هو عبارة عن جبل مطل على البحر والأدغال جميع غرفه وأجنحته هي عبارة عن تجاويف صخرية نحتها الزمن وعوامل التعرية وأثثها بشر فقراء لينزل فيها مجانين أثرياء من طراز "جيتس".
بالنسبة لجزيرة كسقطرى هناك الكثير مما يستهوي هذا الطراز، هناك كهف "حالة" ـ مثلاً ـ الذي يمتد بعمق 3 كيلومترات ونصف وتقطر نتوءاته بالماء العذب، وهناك كهف "نوجد" بعمق 7 كيلومترات وببحيرة ماء في منتصفه.. هناك الكثير من تجليات الطبيعة الساذجة والملهمة لكبار مجانين العالم الذين يدفعون بسخاء وبعيون مغمضة. إن الاستثمار في سقطرى هو استثمار بنيته التحتية سذاجة المكان.. استثمار يقوم على السذاجة ويستهدف الجنون.. لكن الرأسمال الوطني ليس جباناً ـ فحسب ـ بل غبي أيضاً.. خذ مثالاً على ذلك "خدمة الهاتف المحمول" فلا تزال الجزيرة خارج نطاق التغطية حتى اللحظة، رغم أن الحاجة إلى الاتصال بمثابة الحاجة إلى الماء البارد في جزيرة يحدث أن تنخفض درجة الحرارة فيها إلى 26 درجة، بينما تظل حرارة القلوب مرتفعة طيلة فصول العام.
المصدر صلاح الدكاك / لا ميديا