نبيلة خبزان / لا ميديا

احتلت هذه القصيدة مكانةً كبيرة في الوجدان الجمعي، وحظيت بإعجاب كبير في الأوساط الشعبية، نظراً لقرب معانيها وسلاسة أسلوب طرحها، خاصةً بعد أن أدّاها المُنشد قيس الرصاص مع الأستاذة أمة الرزاق جحاف، في صورتها الإنشادية ومشاهدها التمثيلية.
يُعدّ الحوار مركزاً أساساً قامت عليه بنية القصيدة، وقد انقسم الحوار في القصيدة إلى قسمين، القسم الأول: يخاطب فيه الأشياء ثم يتحول إلى المونولوج الداخلي، والقسم الثاني: يخاطب فيه المرأة سواءً كانت الأم أو الزوجة، ثم يتحول من خطاب الآخر/المرأة إلى خطاب الآخر الكل الجمعي.
يبدأ الشاعر قصيدته متوجهاً بالنداء إلى القلم والبياضة والأوراق بما تحمله من مدلولات فكرية وثقافية حاملة للأساس المعرفي الذي يحفظ ويوثق النتاج العقلي والإبداعي الإنساني، ويرسم مسار المعرفة المتراكمة عبر الأجيال المتلاحقة من خلال فعل الكتابة وأدواته القلم والأوراق، وما تحمله من إثبات وجود الذات، وحضورها مادياً ومعرفياً.
يتناول الحوار أسلوب المحاججة الذي يخاطب العقل من خلال مراجعة الذات لمحصولها المعرفي، الذي توصلت من خلاله إلى معرفة الحق، وبعد أن آمنت به رأت ضرورة الالتزام ومواصلة السير على نهجه، متوجهةً بالاستفهام الاستنكاري إلى إقامة الحجة على الذات والآخر، من خلال استخدام المنطق لمخاطبة العقل.
[كيف اغمض إذا قد شافت الحق عيني
وإن تعاميت ويش الفائدة في صلاتي
والحقيقة جلية ختمها في جبيني
تشهد أعضاي وإحساسي وعمقي وذاتي
وإن حد قال يوم المعمعة ياعويني 
يا عويني من الله يوم يبعث رفاتي
كيف أضحي على شان المصالح بديني 
واترك الحق وأنا عارف أنه ثباتي
لا تنازلت يا بيض القنا مزقيني 
امري العظم واهري اللحم جوف أشوياتي
كل شي ضد ربي والكتاب المبينِ
يرفضه كل ما في داخلي يوم ياتي 
كل غالي ومهما كان عندي ثميني 
برخصه كل دنيا خاتمتها الفناتي]
يصل الشاعر إلى ذروة اليقين ومطلق الإيمان، معلناً شهادته أمام الله والناس أجمعين بقوله:
[إنك الحق يا ابن البدر هذه يقيني 
والسماء والخلايق لي شواهد كفاتي]
يتوقف الشاعر عند هذا المستوى من الحوار الداخلي المتنامي بصورة تصاعدية ابتداءً من كونه مونولوجاً داخلياً، وهمساً للذات، وصولاً إلى كونه صرخةً مدويةً يعلن من خلالها ما توصل إليه عقله ودلّته عليه فطرته السليمة، وما توصل إليه من الحق والعرفان بعد نقاش طويل وحوار مع الذات والكائنات.
في المقطع التالي يأخذ الحوار مساراً مغايراً لسابقه، حيث يحضر الحوار الخارجي بين الذات والآخر/المرأة بوصفها نصف المجتمع، ومدرسة الأجيال الواعدة، حيث تحضر الأنثى مشبعةً بغريزة الخوف على الرجل بما قد يصيبه، بعد أن صدع بالحقيقة وانضم إلى جانب الحق، فنراها – انطلاقاً من قلب الأنثى الواجف – تذكر له مخاوفها من أن يناله الموت، أو يُسلب ماله، أو يُهدم بيته، أو يتيتم أطفاله، أو يُخرم أجله، أو تضيع أحلامه، ثم تختم ذلك بذكر الخوف الحاصل مما هو وشيكٌ حدوثه، فتأتي إجاباته وتطميناته كُلها انطلاقاً من قلب امتلأ بالله حُباً وصدقاً ويقيناً دالاً على بلوغ الإيمان المُطلق بالله الذي لا يخالطه شك، ولا يمازجه ريب، بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأن الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، وأن الشهادة هي السعادة الحقيقية والحياة الأبدية.
[قالت الموت قلت بغير ذا خوفيني
الشهادة شرف والموت أسمى أمنياتي
قالت تموت قلت أحيا وأعيش افهميني
الشهادة حياة وما الشهادة مماتي 
قالت المال قلت رزقي يجيني 
ربي اللي تكفل بي وبالكائناتي 
قالت البيت قلت البيت خلبة وطيني 
كل موجود زايل باقي الصالحاتي 
قالت الأهل قلت اللي خلقهم ضميني 
يكفل الله عيالي في الحياة وبناتي 
قالت العمر قلت العمر فاني دعيني 
كل الأعمار مهما عمرت فانياتي 
قالت أحلامك اللي عذبتها السنيني 
قلت الأحلام في الجنة غداً سوف تاتي]
بهذا المنطق الرائع والاستدلال المنطقي المُقْنِع يصل الشاعر إلى إيجاد صيغة جديدة للتفكير وأسلوب مختلف للتعامل مع الحياة ومجرياتها وأحداثها، مستمداً ذلك من الثقافة القرآنية والمشروع التنويري الإنساني الذي جاء به محمد بن عبدالله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وأحياه من بعده أئمة آل البيت الكرام، وصولاً إلى الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي، رضوان الله عليه، حيث يضع الشاعر مفهوماً مغايراً للخوف وصورة مخالفةً للسائد؛ فالشاعر لا يخاف مما قد يصيبه في سبيل الحق، وفي مضمار نضاله وجهاده ضد الطغاة والمستكبرين، وإنما الخوف الحقيقي هو في مفارقة الحق والتخاذل عن نصرة أعلام الهدى.
[قالت الخوف قلت الخوف مما يجيني
لا تركت ابن طه ساعة النايباتي
لا تركت بن طه يا سباع أكليني 
وانهشي بعض لحمي رجمي بي فلاتي]
يُنهي الشاعر المسار الحواري الثاني بينه وبين الآخر/المرأة، بعد أن أقنعها بمسار الحق، وعلمها كيفية البذل والتضحية من أجل الشرف والدين، ليتحول بعد ذلك إلى مشهد حواري آخر تتنوع بنياته وتفاصيله بين مقام العالم الواعظ والفيلسوف والمجاهد الصابر الثابت؛ ليخط في نهاية المطاف وصيته بدمه، محملاً أبناءه إكمال مهمته والسير على ذات الدرب في سبيل الحق ونصرته، كون ذلك هو طريق السعادة الأبدية، ونيل الرضا من الله جل جلاله، في صورة مشهدية تنضح بالحياة والديمومة والاستمرار، محيلةً بذلك إلى صورة الصراع الأزلي بين الحق والباطل.
[وأشهد أن الهدى في العصر هذا حسيني 
وأنه الحق على القرآن يمضي ثباتي
هديه الهدي اللي جا به محمد يقيني 
والوصي والحسن والحسين خط النجاتي 
من يعاديه عادى الله وطه مبيني
ومن يواليه والى الله وطه تقاتي]
إن قراءةً واحدةً لهذه القصيدة لا تكفي، نظراً لما احتوت عليه من تقنيات سردية وبلاغات تصويرية لا يتسع المجال لذكرها، ونَعد بدراستها في حلقات قادمة بإذن الله.